إننا في أمس الحاجة إلى أن نعيد استقراء تاريخنا وأن ندرس عوامل نجاح أمتنا في قيادة الإنسانية قرابة ألف عام وبناء حضارة يشهد لها أعداؤها قبل أبنائها.
أي مدرسة وجامعة فكرية وعلمية واجتماعية تلك التي استمرت في إخراج أساتذة للإنسانية
في العلوم النقلية والعقلية على حد سواء قرابة ألف عام من فقهاء ومحدثين وعلماء في الطب
والهندسة والرياضيات والفلسفة والفلك والأدب وغيرها من علوم الدين والدنيا قلما يجتمع مثل
هذا الرقم الهائل منهم في حضارة واحدة.
أما المدرسة التي أقصدها فهي المسجد بمفهومه الشامل المتعمق وهو مفهوم غائب عن
كثير من أبناء أمتنا, المسجد الذي يمثل نقطة التقاء الأمة وتوحيدها والمظهر العملي لوحدتها,
ولذلك كان أول أعمال معلم الناس الخير سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو بناء مسجد
للمسلمين في قباء في أيامه الأولى التي أمضاها في المدينة, وبعد انتقاله من قباء الى
المدينة كان أول أعماله كذلك بناء مسجده صلى الله عليه وسلم, وحمل أحجاره بيديه
الكريمتين فكان المسجد النبوي مدرسة الدعوة الإسلامية الأولى ودار الدولة الإسلامية الكبرى,
وكان المدرسة والجامعة ومقر مجلس الشورى, وعقد الرايات, وتجهيز الجيوش, وإدارة شؤون
الأمة صغيرها وكبيرها.
إن المسجد في المفهوم الإسلامي الخالص هو مقر إعلان العبودية الخالصة لخالقنا ( وأن
المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً) وبما أن العبادة في المفهوم الإسلامي شاملة جامعة
لحياة الانسان العابد لله تعالى { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين,
لاشريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين } وبما أن العلم في الإسلام شرط أساسي في أداء
العبادة الصحيحة بمفهومها الشامل فلابد إذن من أن يقوم المسجد بدور نشر العلوم بل وأن
يصبح منارة ومقصداً علميا.
وقد قام المسجد بدوره التعليمي منذ أيامه الأولى وحث رسول الله على هذا الدور العلمي
لقوله صلى الله عليه وسلم: (من غدا الى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيراً أو يعلمه كان كأجر
حاج تاماً حجه) "الطبراني" وهذا المقصد التعليمي أوضحه وبينه صلى الله عليه وسلم في
حديثه ليفرق بينه وبين البعد الشعائري من إقامة الصلوات في المساجد.
ولم يقتصر الدور التعليمي للمسجد على الرجال بل نافست عليه النساء لما أخرجه البخاري
في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قالت النساء للنبي : ( غلبنا عليك
الرجال فاجعل لنا يوما من نفسك, فوعدهن يوما لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن) وفتح المسجد
صدره للمرأة تشهد دروس العلم ليتأكد حق المرأة في تحصيل العلم ومشاركة الرجل في
الحياة, وقد أعجبت السيدة عائشة أم المؤمنين بإقبال الانصاريات على العلم فقالت: ( نعم
النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء من أن يتفقهن في الدين ).
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرف على حلقات العلم التي كانت تنتشر في أرجاء
المسجد النبوي الشريف خاصة في بواكير الصباح حيث حدث عبدالله بن عمرو بن العاص أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بمجلسين أحدهما فيه دعاء وإقبال على الله والآخر فيه
علم, فأقرهما وقعد في مجلس العلم, وشجع رسول الله صلى الله عليه وسلم استخدام
الوسائل المتاحة آنذاك لتوضيح المعاني والدروس سواء كانت بصرية او سمعية, ومن أمثلة ذلك
ما رواه ابن مسعود بقوله: خط لنا رسول الله خطا بيده ثم قال : ( هذا سبيل الله مستقيما )
وخط عن يمينه وشماله ثم قال: ( هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه )
ثم قرأ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولاتتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) " مسند الإمام أحمد".
تعليق