>بسم الله الرحمن الرحيم
>.. أعمى يسدد الهدف ..
>لم أكن جاوزت الثلاثين حين أنجبت زوجتي أوّل أبنائي..
>ما زلت أذكر تلك الليلة .. بقيت إلى آخر الليل مع الشّلة في إحدى
>الاستراحات ..
>كانت سهرة مليئة بالكلام الفارغ .. بل بالغيبة والتعليقات المحرمة ..
>كنت أنا الذي أتولى في الغالب إضحاكهم .. وغيبة الناس .. وهم يضحكون ..
>أذكر ليلتها أنّي أضحكتهم كثيراً..
>كنت أمتلك موهبة عجيبة في التقليد ..
>بإمكاني تغيير نبرة صوتي حتى تصبح قريبة من الشخص الذي أسخر منه ..
>أجل كنت أسخر من هذا وذاك .. لم يسلم أحد منّي أحد حتى أصحابي ..
>صار بعض الناس يتجنّبني كي يسلم من لساني ..
>أذكر أني تلك الليلة سخرت من أعمى رأيته يتسوّل في السّوق.. والأدهى أنّي
>وضعت قدمي أمامه فتعثّر وسقط يتلفت برأسه لا يدري ما يقول .. وانطلقت ضحكتي
>تدوي في السّوق ..
>عدت إلى بيتي متأخراً كالعادة ..
>وجدت زوجتي في انتظاري .. كانت في حالة يرثى لها ..
>قالت بصوت متهدج : راشد .. أين كنتَ ؟
>قلت ساخراً : في المريخ .. عند أصحابي بالطبع ..
>كان الإعياء ظاهراً عليها .. قالت والعبرة تخنقها: راشد… أنا تعبة جداً ..
>الظاهر أن موعد ولادتي صار وشيكا ..
>سقطت دمعة صامته على خدها ..
>أحسست أنّي أهملت زوجتي ..
>كان المفروض أن أهتم بها وأقلّل من سهراتي .. خاصة أنّها في شهرها التاسع
>..
>حملتها إلى المستشفى بسرعة ..
>دخلت غرفة الولادة .. جعلت تقاسي الآلام ساعات طوال ..
>كنت أنتظر ولادتها بفارغ الصبر .. تعسرت ولادتها .. فانتظرت طويلاً حتى
>تعبت .. فذهبت إلى البيت ..
>وتركت رقم هاتفي عندهم ليبشروني ..
>بعد ساعة .. اتصلوا بي ليزفوا لي نبأ قدوم سالم ..
>ذهبت إلى المستشفى فوراً ..
>أول ما رأوني أسأل عن غرفتها ..
>طلبوا منّي مراجعة الطبيبة التي أشرفت على ولادة زوجتي ..
>صرختُ بهم : أيُّ طبيبة ؟! المهم أن أرى ابني سالم ..
>قالوا .. أولاً .. راجع الطبيبة ..
>دخلت على الطبيبة .. كلمتني عن المصائب .. والرضى بالأقدار ..
>ثم قالت : ولدك به تشوه شديد في عينيه ويبدوا أنه فاقد البصر !!
>خفضت رأسي .. وأنا أدافع عبراتي .. تذكّرت ذاك المتسوّل الأعمى .. الذي
>دفعته في السوق وأضحكت عليه الناس ..
>سبحان الله كما تدين تدان ! بقيت واجماً قليلاً .. لا أدري ماذا أقول .. ثم
>تذكرت زوجتي وولدي ..
>فشكرت الطبيبة على لطفها .. ومضيت لأرى زوجتي ..
>لم تحزن زوجتي .. كانت مؤمنة بقضاء الله .. راضية .. طالما نصحتني أن أكف
>عن الاستهزاء بالناس ..
>كانت تردد دائماً .. لا تغتب الناس ..
>خرجنا من المستشفى .. وخرج سالم معنا ..
>في الحقيقة .. لم أكن أهتم به كثيراً..
>اعتبرته غير موجود في المنزل ..
>حين يشتد بكاؤه أهرب إلى الصالة لأنام فيها ..
>كانت زوجتي تهتم به كثيراً .. وتحبّه كثيراً ..
>أما أنا فلم أكن أكرهه .. لكني لم أستطع أن أحبّه !
>كبر سالم .. بدأ يحبو .. كانت حبوته غريبة ..
>قارب عمره السنة فبدأ يحاول المشي .. فاكتشفنا أنّه أعرج ..
>أصبح ثقيلاً على نفسي أكثر ..
>أنجبت زوجتي بعده عمر وخالداً ..
>مرّت السنوات .. وكبر سالم .. وكبر أخواه ..
>كنت لا أحب الجلوس في البيت .. دائماً مع أصحابي ..
>في الحقيقة كنت كاللعبة في أيديهم ..
>لم تيأس زوجتي من إصلاحي..
>كانت تدعو لي دائماً بالهداية .. لم تغضب من تصرّفاتي الطائشة ..
>لكنها كانت تحزن كثيراً إذا رأت إهمالي لسالم واهتمامي بباقي إخوته ..
>كبر سالم .. وكبُر معه همي ..
>لم أمانع حين طلبت زوجتي تسجيله في أحدى المدارس الخاصة بالمعاقين ..
>لم أكن أحس بمرور السنوات .. أيّامي سواء .. عمل ونوم وطعام وسهر ..
>في يوم جمعة ..
>استيقظت الساعة الحادية عشر ظهراً..
>ما يزال الوقت مبكراً بالنسبة لي .. كنت مدعواً إلى وليمة ..
>لبست وتعطّرت وهممت بالخروج ..
>مررت بصالة المنزل .. استوقفني منظر سالم .. كان يبكي بحرقة !
>إنّها المرّة الأولى التي أنتبه فيها إلى سالم يبكي مذ كان طفلاً .. عشر
>سنوات مضت .. لم ألتفت إليه .. حاولت أن أتجاهله .. فلم أحتمل .. كنت أسمع
>صوته ينادي أمه وأنا في الغرفة ..
>التفت .. ثم اقتربت منه .. قلت : سالم ! لماذا تبكي ؟!
>حين سمع صوتي توقّف عن البكاء .. فلما شعر بقربي ..
>بدأ يتحسّس ما حوله بيديه الصغيرتين .. ما بِه يا ترى؟!
>اكتشفت أنه يحاول الابتعاد عني !!
>وكأنه يقول : الآن أحسست بي .. أين أنت منذ عشر سنوات ؟!
>تبعته .. كان قد دخل غرفته ..
>رفض أن يخبرني في البداية سبب بكائه ..
>حاولت التلطف معه ..
>بدأ سالم يبين سبب بكائه .. وأنا أستمع إليه وأنتفض .. تدري ما السبب !!
>تأخّر عليه أخوه عمر .. الذي اعتاد أن يوصله إلى المسجد ..
>ولأنها صلاة جمعة .. خاف ألاّ يجد مكاناً في الصف الأوّل ..
>نادى عمر .. ونادى والدته .. ولكن لا مجيب .. فبكى .. أخذت أنظر إلى الدموع
>تتسرب من عينيه المكفوفتين ..
>لم أستطع أن أتحمل بقية كلامه ..
>وضعت يدي على فمه .. وقلت : لذلك بكيت يا سالم !!..
>قال : نعم ..
>نسيت أصحابي .. ونسيت الوليمة .. وقلت :
>سالم لا تحزن .. هل تعلم من سيذهب بك اليوم إلى المسجد؟ ..
>قال : أكيد عمر .. لكنه يتأخر دائماً ..
>قلت : لا .. بل أنا سأذهب بك ..
>دهش سالم .. لم يصدّق .. ظنّ أنّي أسخر منه .. استعبر ثم بكى ..
>مسحت دموعه بيدي .. وأمسكت يده ..
>أردت أن أوصله بالسيّارة .. رفض قائلاً : المسجد قريب .. أريد أن أخطو إلى
>المسجد .. - إي والله قال لي ذلك - ..
>لا أذكر متى كانت آخر مرّة دخلت فيها المسجد ..
>لكنها المرّة الأولى التي أشعر فيها بالخوف .. والنّدم على ما فرّطته طوال
>السنوات الماضية ..
>كان المسجد مليئاً بالمصلّين .. إلاّ أنّي وجدت لسالم مكاناً في الصف
>الأوّل ..
>استمعنا لخطبة الجمعة معاً وصلى بجانبي .. بل في الحقيقة أنا صليت بجانبه
>..
>بعد انتهاء الصلاة طلب منّي سالم مصحفاً ..
>استغربت !! كيف سيقرأ وهو أعمى ؟
>كدت أن أتجاهل طلبه .. لكني جاملته خوفاً من جرح مشاعره .. ناولته المصحف
>..
>طلب منّي أن أفتح المصحف على سورة الكهف..
>أخذت أقلب الصفحات تارة .. وأنظر في الفهرس تارة .. حتى وجدتها ..
>أخذ مني المصحف .. ثم وضعه أمامه .. وبدأ في قراءة السورة .. وعيناه
>مغمضتان ..
>يا الله !! إنّه يحفظ سورة الكهف كاملة !!
>خجلت من نفسي.. أمسكت مصحفاً ..
>أحسست برعشة في أوصالي.. قرأت .. وقرأت..
>دعوت الله أن يغفر لي ويهديني ..
>لم أستطع الاحتمال .. فبدأت أبكي كالأطفال ..
>كان بعض الناس لا يزال في المسجد يصلي السنة .. خجلت منهم .. فحاولت أن
>أكتم بكائي .. تحول البكاء إلى نشيج وشهيق ..
>لم أشعر إلاّ بيد صغيرة تتلمس وجهي .. ثم تمسح عنّي دموعي ..
>إنه سالم !! ضممته إلى صدري ..
>نظرت إليه .. قلت في نفسي .. لست أنت الأعمى .. بل أنا الأعمى .. حين انسقت
>وراء فساق يجرونني إلى النار ..
>عدنا إلى المنزل .. كانت زوجتي قلقة كثيراً على سالم ..
>لكن قلقها تحوّل إلى دموع حين علمت أنّي صلّيت الجمعة مع سالم ..
>من ذلك اليوم لم تفتني صلاة جماعة في المسجد ..
>هجرت رفقاء السوء .. وأصبحت لي رفقة خيّرة عرفتها في المسجد..
>ذقت طعم الإيمان معهم ..
>عرفت منهم أشياء ألهتني عنها الدنيا ..
>لم أفوّت حلقة ذكر أو صلاة الوتر ..
>ختمت القرآن عدّة مرّات في شهر ..
>رطّبت لساني بالذكر لعلّ الله يغفر لي غيبتي وسخريتي من النّاس ..
>أحسست أنّي أكثر قرباً من أسرتي ..
>اختفت نظرات الخوف والشفقة التي كانت تطل من عيون زوجتي ..
>الابتسامة ما عادت تفارق وجه ابني سالم ..
>من يراه يظنّه ملك الدنيا وما فيها ..
>حمدت الله كثيراً على نعمه ..
>ذات يوم .. قرر أصحابي الصالحون أن يتوجّهوا إلى أحدى المناطق البعيدة
>للدعوة ..
>تردّدت في الذهاب.. استخرت الله .. واستشرت زوجتي ..
>توقعت أنها سترفض .. لكن حدث العكس !
>فرحت كثيراً .. بل شجّعتني ..فلقد كانت تراني في السابق أسافر دون
>استشارتها فسقاً وفجوراً ..
>توجهت إلى سالم .. أخبرته أني مسافر .. ضمني بذراعيه الصغيرين مودعاً ..
>تغيّبت عن البيت ثلاثة أشهر ونصف ..
>كنت خلال تلك الفترة أتصل كلّما سنحت لي الفرصة بزوجتي وأحدّث أبنائي ..
>اشتقت إليهم كثيراً .. آآآه كم اشتقت إلى سالم !!
>تمنّيت سماع صوته .. هو الوحيد الذي لم يحدّثني منذ سافرت ..
>إمّا أن يكون في المدرسة أو المسجد ساعة اتصالي بهم ..
>كلّما حدّثت زوجتي عن شوقي إليه .. كانت تضحك فرحاً وبشراً ..
>إلاّ آخر مرّة هاتفتها فيها .. لم أسمع ضحكتها المتوقّعة .. تغيّر صوتها ..
>
>قلت لها : أبلغي سلامي لسالم .. فقالت : إن شاء الله .. وسكتت ..
>أخيراً عدت إلى المنزل .. طرقت الباب ..
>تمنّيت أن يفتح لي سالم ..
>لكن فوجئت بابني خالد الذي لم يتجاوز الرابعة من عمره ..
>حملته بين ذراعي وهو يصرخ : بابا .. بابا ..
>لا أدري لماذا انقبض صدري حين دخلت البيت ..
>استعذت بالله من الشيطان الرجيم ..
>أقبلت إليّ زوجتي .. كان وجهها متغيراً .. كأنها تتصنع الفرح ..
>تأمّلتها جيداً .. ثم سألتها : ما بكِ؟
>قالت : لا شيء ..
>فجأة تذكّرت سالماً .. فقلت .. أين سالم ؟
>خفضت رأسها .. لم تجب .. سقطت دمعات حارة على خديها ..
>صرخت بها .. سالم .. أين سالم ..؟
>لم أسمع حينها سوى صوت ابني خالد .. يقول بلثغته : بابا .. ثالم لاح الجنّة
>.. عند الله..
>لم تتحمل زوجتي الموقف .. أجهشت بالبكاء .. كادت أن تسقط على الأرض ..
>فخرجت من الغرفة ..
>عرفت بعدها أن سالم أصابته حمّى قبل موعد مجيئي بأسبوعين ..
>فأخذته زوجتي إلى المستشفى ..
>فاشتدت عليه الحمى .. ولم تفارقه .. حين فارقت روحه جسده
منقووووووووووول
>.. أعمى يسدد الهدف ..
>لم أكن جاوزت الثلاثين حين أنجبت زوجتي أوّل أبنائي..
>ما زلت أذكر تلك الليلة .. بقيت إلى آخر الليل مع الشّلة في إحدى
>الاستراحات ..
>كانت سهرة مليئة بالكلام الفارغ .. بل بالغيبة والتعليقات المحرمة ..
>كنت أنا الذي أتولى في الغالب إضحاكهم .. وغيبة الناس .. وهم يضحكون ..
>أذكر ليلتها أنّي أضحكتهم كثيراً..
>كنت أمتلك موهبة عجيبة في التقليد ..
>بإمكاني تغيير نبرة صوتي حتى تصبح قريبة من الشخص الذي أسخر منه ..
>أجل كنت أسخر من هذا وذاك .. لم يسلم أحد منّي أحد حتى أصحابي ..
>صار بعض الناس يتجنّبني كي يسلم من لساني ..
>أذكر أني تلك الليلة سخرت من أعمى رأيته يتسوّل في السّوق.. والأدهى أنّي
>وضعت قدمي أمامه فتعثّر وسقط يتلفت برأسه لا يدري ما يقول .. وانطلقت ضحكتي
>تدوي في السّوق ..
>عدت إلى بيتي متأخراً كالعادة ..
>وجدت زوجتي في انتظاري .. كانت في حالة يرثى لها ..
>قالت بصوت متهدج : راشد .. أين كنتَ ؟
>قلت ساخراً : في المريخ .. عند أصحابي بالطبع ..
>كان الإعياء ظاهراً عليها .. قالت والعبرة تخنقها: راشد… أنا تعبة جداً ..
>الظاهر أن موعد ولادتي صار وشيكا ..
>سقطت دمعة صامته على خدها ..
>أحسست أنّي أهملت زوجتي ..
>كان المفروض أن أهتم بها وأقلّل من سهراتي .. خاصة أنّها في شهرها التاسع
>..
>حملتها إلى المستشفى بسرعة ..
>دخلت غرفة الولادة .. جعلت تقاسي الآلام ساعات طوال ..
>كنت أنتظر ولادتها بفارغ الصبر .. تعسرت ولادتها .. فانتظرت طويلاً حتى
>تعبت .. فذهبت إلى البيت ..
>وتركت رقم هاتفي عندهم ليبشروني ..
>بعد ساعة .. اتصلوا بي ليزفوا لي نبأ قدوم سالم ..
>ذهبت إلى المستشفى فوراً ..
>أول ما رأوني أسأل عن غرفتها ..
>طلبوا منّي مراجعة الطبيبة التي أشرفت على ولادة زوجتي ..
>صرختُ بهم : أيُّ طبيبة ؟! المهم أن أرى ابني سالم ..
>قالوا .. أولاً .. راجع الطبيبة ..
>دخلت على الطبيبة .. كلمتني عن المصائب .. والرضى بالأقدار ..
>ثم قالت : ولدك به تشوه شديد في عينيه ويبدوا أنه فاقد البصر !!
>خفضت رأسي .. وأنا أدافع عبراتي .. تذكّرت ذاك المتسوّل الأعمى .. الذي
>دفعته في السوق وأضحكت عليه الناس ..
>سبحان الله كما تدين تدان ! بقيت واجماً قليلاً .. لا أدري ماذا أقول .. ثم
>تذكرت زوجتي وولدي ..
>فشكرت الطبيبة على لطفها .. ومضيت لأرى زوجتي ..
>لم تحزن زوجتي .. كانت مؤمنة بقضاء الله .. راضية .. طالما نصحتني أن أكف
>عن الاستهزاء بالناس ..
>كانت تردد دائماً .. لا تغتب الناس ..
>خرجنا من المستشفى .. وخرج سالم معنا ..
>في الحقيقة .. لم أكن أهتم به كثيراً..
>اعتبرته غير موجود في المنزل ..
>حين يشتد بكاؤه أهرب إلى الصالة لأنام فيها ..
>كانت زوجتي تهتم به كثيراً .. وتحبّه كثيراً ..
>أما أنا فلم أكن أكرهه .. لكني لم أستطع أن أحبّه !
>كبر سالم .. بدأ يحبو .. كانت حبوته غريبة ..
>قارب عمره السنة فبدأ يحاول المشي .. فاكتشفنا أنّه أعرج ..
>أصبح ثقيلاً على نفسي أكثر ..
>أنجبت زوجتي بعده عمر وخالداً ..
>مرّت السنوات .. وكبر سالم .. وكبر أخواه ..
>كنت لا أحب الجلوس في البيت .. دائماً مع أصحابي ..
>في الحقيقة كنت كاللعبة في أيديهم ..
>لم تيأس زوجتي من إصلاحي..
>كانت تدعو لي دائماً بالهداية .. لم تغضب من تصرّفاتي الطائشة ..
>لكنها كانت تحزن كثيراً إذا رأت إهمالي لسالم واهتمامي بباقي إخوته ..
>كبر سالم .. وكبُر معه همي ..
>لم أمانع حين طلبت زوجتي تسجيله في أحدى المدارس الخاصة بالمعاقين ..
>لم أكن أحس بمرور السنوات .. أيّامي سواء .. عمل ونوم وطعام وسهر ..
>في يوم جمعة ..
>استيقظت الساعة الحادية عشر ظهراً..
>ما يزال الوقت مبكراً بالنسبة لي .. كنت مدعواً إلى وليمة ..
>لبست وتعطّرت وهممت بالخروج ..
>مررت بصالة المنزل .. استوقفني منظر سالم .. كان يبكي بحرقة !
>إنّها المرّة الأولى التي أنتبه فيها إلى سالم يبكي مذ كان طفلاً .. عشر
>سنوات مضت .. لم ألتفت إليه .. حاولت أن أتجاهله .. فلم أحتمل .. كنت أسمع
>صوته ينادي أمه وأنا في الغرفة ..
>التفت .. ثم اقتربت منه .. قلت : سالم ! لماذا تبكي ؟!
>حين سمع صوتي توقّف عن البكاء .. فلما شعر بقربي ..
>بدأ يتحسّس ما حوله بيديه الصغيرتين .. ما بِه يا ترى؟!
>اكتشفت أنه يحاول الابتعاد عني !!
>وكأنه يقول : الآن أحسست بي .. أين أنت منذ عشر سنوات ؟!
>تبعته .. كان قد دخل غرفته ..
>رفض أن يخبرني في البداية سبب بكائه ..
>حاولت التلطف معه ..
>بدأ سالم يبين سبب بكائه .. وأنا أستمع إليه وأنتفض .. تدري ما السبب !!
>تأخّر عليه أخوه عمر .. الذي اعتاد أن يوصله إلى المسجد ..
>ولأنها صلاة جمعة .. خاف ألاّ يجد مكاناً في الصف الأوّل ..
>نادى عمر .. ونادى والدته .. ولكن لا مجيب .. فبكى .. أخذت أنظر إلى الدموع
>تتسرب من عينيه المكفوفتين ..
>لم أستطع أن أتحمل بقية كلامه ..
>وضعت يدي على فمه .. وقلت : لذلك بكيت يا سالم !!..
>قال : نعم ..
>نسيت أصحابي .. ونسيت الوليمة .. وقلت :
>سالم لا تحزن .. هل تعلم من سيذهب بك اليوم إلى المسجد؟ ..
>قال : أكيد عمر .. لكنه يتأخر دائماً ..
>قلت : لا .. بل أنا سأذهب بك ..
>دهش سالم .. لم يصدّق .. ظنّ أنّي أسخر منه .. استعبر ثم بكى ..
>مسحت دموعه بيدي .. وأمسكت يده ..
>أردت أن أوصله بالسيّارة .. رفض قائلاً : المسجد قريب .. أريد أن أخطو إلى
>المسجد .. - إي والله قال لي ذلك - ..
>لا أذكر متى كانت آخر مرّة دخلت فيها المسجد ..
>لكنها المرّة الأولى التي أشعر فيها بالخوف .. والنّدم على ما فرّطته طوال
>السنوات الماضية ..
>كان المسجد مليئاً بالمصلّين .. إلاّ أنّي وجدت لسالم مكاناً في الصف
>الأوّل ..
>استمعنا لخطبة الجمعة معاً وصلى بجانبي .. بل في الحقيقة أنا صليت بجانبه
>..
>بعد انتهاء الصلاة طلب منّي سالم مصحفاً ..
>استغربت !! كيف سيقرأ وهو أعمى ؟
>كدت أن أتجاهل طلبه .. لكني جاملته خوفاً من جرح مشاعره .. ناولته المصحف
>..
>طلب منّي أن أفتح المصحف على سورة الكهف..
>أخذت أقلب الصفحات تارة .. وأنظر في الفهرس تارة .. حتى وجدتها ..
>أخذ مني المصحف .. ثم وضعه أمامه .. وبدأ في قراءة السورة .. وعيناه
>مغمضتان ..
>يا الله !! إنّه يحفظ سورة الكهف كاملة !!
>خجلت من نفسي.. أمسكت مصحفاً ..
>أحسست برعشة في أوصالي.. قرأت .. وقرأت..
>دعوت الله أن يغفر لي ويهديني ..
>لم أستطع الاحتمال .. فبدأت أبكي كالأطفال ..
>كان بعض الناس لا يزال في المسجد يصلي السنة .. خجلت منهم .. فحاولت أن
>أكتم بكائي .. تحول البكاء إلى نشيج وشهيق ..
>لم أشعر إلاّ بيد صغيرة تتلمس وجهي .. ثم تمسح عنّي دموعي ..
>إنه سالم !! ضممته إلى صدري ..
>نظرت إليه .. قلت في نفسي .. لست أنت الأعمى .. بل أنا الأعمى .. حين انسقت
>وراء فساق يجرونني إلى النار ..
>عدنا إلى المنزل .. كانت زوجتي قلقة كثيراً على سالم ..
>لكن قلقها تحوّل إلى دموع حين علمت أنّي صلّيت الجمعة مع سالم ..
>من ذلك اليوم لم تفتني صلاة جماعة في المسجد ..
>هجرت رفقاء السوء .. وأصبحت لي رفقة خيّرة عرفتها في المسجد..
>ذقت طعم الإيمان معهم ..
>عرفت منهم أشياء ألهتني عنها الدنيا ..
>لم أفوّت حلقة ذكر أو صلاة الوتر ..
>ختمت القرآن عدّة مرّات في شهر ..
>رطّبت لساني بالذكر لعلّ الله يغفر لي غيبتي وسخريتي من النّاس ..
>أحسست أنّي أكثر قرباً من أسرتي ..
>اختفت نظرات الخوف والشفقة التي كانت تطل من عيون زوجتي ..
>الابتسامة ما عادت تفارق وجه ابني سالم ..
>من يراه يظنّه ملك الدنيا وما فيها ..
>حمدت الله كثيراً على نعمه ..
>ذات يوم .. قرر أصحابي الصالحون أن يتوجّهوا إلى أحدى المناطق البعيدة
>للدعوة ..
>تردّدت في الذهاب.. استخرت الله .. واستشرت زوجتي ..
>توقعت أنها سترفض .. لكن حدث العكس !
>فرحت كثيراً .. بل شجّعتني ..فلقد كانت تراني في السابق أسافر دون
>استشارتها فسقاً وفجوراً ..
>توجهت إلى سالم .. أخبرته أني مسافر .. ضمني بذراعيه الصغيرين مودعاً ..
>تغيّبت عن البيت ثلاثة أشهر ونصف ..
>كنت خلال تلك الفترة أتصل كلّما سنحت لي الفرصة بزوجتي وأحدّث أبنائي ..
>اشتقت إليهم كثيراً .. آآآه كم اشتقت إلى سالم !!
>تمنّيت سماع صوته .. هو الوحيد الذي لم يحدّثني منذ سافرت ..
>إمّا أن يكون في المدرسة أو المسجد ساعة اتصالي بهم ..
>كلّما حدّثت زوجتي عن شوقي إليه .. كانت تضحك فرحاً وبشراً ..
>إلاّ آخر مرّة هاتفتها فيها .. لم أسمع ضحكتها المتوقّعة .. تغيّر صوتها ..
>
>قلت لها : أبلغي سلامي لسالم .. فقالت : إن شاء الله .. وسكتت ..
>أخيراً عدت إلى المنزل .. طرقت الباب ..
>تمنّيت أن يفتح لي سالم ..
>لكن فوجئت بابني خالد الذي لم يتجاوز الرابعة من عمره ..
>حملته بين ذراعي وهو يصرخ : بابا .. بابا ..
>لا أدري لماذا انقبض صدري حين دخلت البيت ..
>استعذت بالله من الشيطان الرجيم ..
>أقبلت إليّ زوجتي .. كان وجهها متغيراً .. كأنها تتصنع الفرح ..
>تأمّلتها جيداً .. ثم سألتها : ما بكِ؟
>قالت : لا شيء ..
>فجأة تذكّرت سالماً .. فقلت .. أين سالم ؟
>خفضت رأسها .. لم تجب .. سقطت دمعات حارة على خديها ..
>صرخت بها .. سالم .. أين سالم ..؟
>لم أسمع حينها سوى صوت ابني خالد .. يقول بلثغته : بابا .. ثالم لاح الجنّة
>.. عند الله..
>لم تتحمل زوجتي الموقف .. أجهشت بالبكاء .. كادت أن تسقط على الأرض ..
>فخرجت من الغرفة ..
>عرفت بعدها أن سالم أصابته حمّى قبل موعد مجيئي بأسبوعين ..
>فأخذته زوجتي إلى المستشفى ..
>فاشتدت عليه الحمى .. ولم تفارقه .. حين فارقت روحه جسده
منقووووووووووول
تعليق