وبالأسناد المذكور ، عن ابي بكر ، عن الصّادق عليه السلام قال : لمّا أُسري برسول الله صلّى الله عليه وآله إلى سماء الدّنيا لم يمرّ بأحدٍ من الملائكة إلاّ استبشروا به ، قال : ثمّ مرّ بملك كئيب حزين فلم يستبشر به ، فقال : يا جبرئيل مامررت بأحد من الملائكة إلاّ استبشر بي إلاّ هذا الملك ، فمن هذا ؟ قال : هذا مالك خازن جهنّم ، وهكذا جعله الله ، فقال له النّبيّ صلّى الله عليه وآله : يا جبرئيل سله أن يرينيها ، قال : فقال جبرئيل : يامالك هذا محمّد رسول الله صلّى الله عليه وآله وقد شكا إليّ وقال : ما مررت بأحدٍ من الملائكة إلاّ استبشروا بي إلاّ هذا الملك ، فأخبرته أن هكذا جعله الله حيث شاء ، وقد سألني أن أسألك أن تريه جهنّم ، قال : فكشف له عن طبق من أطباقها، فما رؤي رسول الله صلّى الله عليه وآله ضاحكاً حتّى قبض (1) .
406 ـ وعن أبي بصير قال : سمعته يقول : إنّ جبرئيل احتمل رسول الله حتّى انتهى به إلى مكان من السّماء ، ثمّ تركه وقال : ما وطأ نبيٌّ قطّ مكانك .
وقال النّبي صلّى الله عليه وآله : أتاني جبرئيل عليه السلام وأنا بمكّة ، فقال : قم يامحمّد ، فقمت معه وخرجت إلى الباب ، فاذا جبرئيل ومعه ميكائيل وإسرافيل ، فأتى جبرئيل بالبراق ، فكان فوق الحمار ودون البغل ، خدّه كخدّ الإنسان ، وذنبه كذنب البقر ، وعرفه كعرف الفرس ، وقوائمه كقوائم الإبل ، عليه رحل من الجنّة ، وله جناحان من فخذيه ، خطوه منتهى طرفه (2) .
فقال : اركب ، فركب ومضيت ، حتّى انتهيت إلى بيت المقدس ، ولمّا انتهيت إليه إذا الملائكة نزلت من السّماء بالبشارة والكرامة من عند ربّ العزّة ، وصلّيت في بيت
____________
المقدس ، وفي بعضها بشرّ لي إبراهيم في رهط من الأنبياء ، ثم وصف موسى وعيسى صلوات الله عليهم ، ثمّ أخذ جبرئيل بيدي إلى الصّخرة فأقعدني عليها ، فاذا معارج إلى السّماء لم أر مثلها حسناً .
فصعدت إلى السّماء الدّنيا ، ورأيت عجائبها وملكوتها ، وملائكها يسلّمون عليّ . ثمّ صعد بي إلى السّماء الثّالثة ، فرأيت بها يوسف عليه السلام ، ثمّ صعدت إلى السماء الرّابعة ، فرأيت بها يوسف عليه السلام ، ثمّ صعدت إلى السّماء الخامسة ، فرأيت فيها هارون عليه السلام ، ثمّ صعد بي إلى السّماء السّادسة ، فاذا فيها خلق كثير يموج بعضهم في بعض وفيها الكرّوبيّون قال : ثمّ صعدبي إلى السّماء السّابعة فأبصرت فيها خلقاً وملائكة (1) .
407 ـ وفي حديث آخر قال النّبيّ صلّى الله عليه وآله : رأيت في السّماء موسى عليه السلام ، ورأيت في السّابعة إبراهيم عليه السلام ثمّ قال : جاوزنا متصاعدين إلى أعلى عليّين ، ووصف ذلك إلى أن قال : ثمّ كلّمني ربّي وكلّمته ، ورأيت الجنّة والنّار ، ورأيت العرش وسدرة المنتهى .
قال : ثمّ رجعت إلى مكّة ، فلمّا أصبحت حدّثت فيه النّاس ، فأكذبني أبو جهل والمشركون ، وقال مطعم بن عدي : أنزعم أنّك سرت مسيرة شهرين في ساعة ؟ أشهد أنّك كاذب ، ثمّ قالت قريش : أخبرنا عمّا رأيت .
فقال : مررت بعير بني فلان ، وقد أضلّوا بعيراً لهم هم في طلبه ، وفي رحلهم قعب من ماءٍ مملوّ ، فشرب الماء فغطّيته كما كان ، فاسألوهم هل وجدوا الماء في القدح ؟ قالوا : هذه أية واحدة ، فقال صلّى الله عليه وآله : مررت بعير بني فلان ، فنفر بعير فلان فانكسرت يده ، فاسألوهم عن ذلك ، فقالوا : هذه آية أخرى ، قالوا : فأخبرنا عن عيرنا قال : مررت بها بالتّنعيم ، وبيّن لهم أحوالها وهيئاتها ، قالوا : هذه آية اُخرى (2) .
____________
وفي رواية أخرى قال أبو جهل : قد أمكنتكم الفرصة منه ، فاسألوه كم فيها من الاساطين والقناديل ؟ فقالوا : يا محمّد إنّ ها هنا من دخل بيت المقدس فصف لنا أساطينه وقناديله ، فجاء جبرئيل عليه السلام فعلّق صورة بيت المقدس تجاه (1) وجهه فجعل يخبرهم بما سألوه عنه فلمّا أخبرهم قالوا : حتّى تجيء العير ونسألهم عمّا قلت ، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وآله : تصديق ذلك أنّ العير تطلع عليكم عند ونسألهم عمّا قلت ، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وآله : تصديق ذلك أنّ العير تطلع عليكم عند طلوع الشّمس يقدمها جمل أحمر (2) عليه غرارتان ، فلمّا كان من الغد أقبلوا ينظرون إلى العقبة والقرص ، فاذا العير يقدمها جمل أحمر ، فسألوهم عمّا قال رسول الله صلّى الله عليه وآله فقالوا : لقد كان هذا فلم يزدهم إلاّ عتوّاً (3) .
409 ـ فاجتمعوا في دار النّدوة وكتبوا صحيفة بينهم : أن لا يواكلوا بني هاشم ، ولا يكلّموهم ، ولا يبايعوهم ، ولا يزوّجوهم ، ولا يتزوّجوا إليهم حتّى يدفعوا إليهم محمّداً فيقتلونه ، وأنّهم يد واحدة على محمّد يقتلونه غيلة أو صريحاً ، فلمّا بلغ ذلك أبا طالب جمع بني هاشم ودخلوا الشّعب ، وكانوا أربعين رجلاً ، فحلف لهم أبو طالب بالكعبة والحرم : إنّ شاكت محمّداً شوكة لاتين (4) عليكم يا بني هاشم ، وحصّن الشّعب ، وكان يحرسه باللّيل والنهار ، فاذا جاء اللّيل يقوم بالسّيف عليه ورسول الله صلّى الله عليه وآله مضطجع ، ثمّ يقيمه ويضجعه في موضع آخر ،فلا يزال اللّيل كلّه هكذا ويوكّل ولده وولد أخيه به
يحرسونه بالنّهار فأصابهم الجهد .
وكان من دخل مكّة من العرب لا جسر أن يبيع من بني هاشم شيئاً ، ومن باع بني هاشم شيئاً انتهبوا ماله ، وكان أبو جهل والعاص بن وائل السّهمي والنّضر بن الحارث بن كلدة وعقبة بن أبي معيط يخرجون إلى الطّرقات الّتي تدخل مكّة ، فمن رأوه معه ميرة نهبوه أن يبيع من بني هاشم شيئاً ، ويحذّرونه إن باع شيئاً منهم انتهبوا ماله ، وكانت خديجة لها مال كثير وأنفقته على رسول الله صلّى الله عليه وآله في الشّعب ، ولم يدخل في حلق الصّحيفة مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد المطلب (1) بن عبد مناف ، وقال : هذا ظلم ، وختموا الصّحيفة بأربعين خاتماً كلّ رجل من رؤساء قريش بخاتمه ، وعلّقوها في الكعبة ، وتابعهم على ذلك أبو لهب .
وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله يخرج في كلّ يوم موسم ، فيدور على قبائل العرب ، فيقول لهم : تمنعون لي جانبي حتّى أتلو عليكم كتاب ربّكم وثوابكم الجنّة على الله ، وأبو لهب في إثره فيقول : لا تقبلوا منه ، فانّه ابن أخي وهو كذّاب ساحر ، فلم يزل هذا حالهم .
وبقوا في الشّعب أربع سنين لا يأمنون إلاّ من موسم إلى موسم ، ولا يشترون ولا يبيعون إلاّ في الموسم ، وكان يقوم بمكّة موسمان في كلّ سنة : موسم العمرة في رجب ، وموسم الحج في ذي الحجة ، فكان إذا اجتمعت المواسم يخرج بنو هاشم من الشّعب ، فيشترون ويبيعون ، ثمّ لايجسر أحد منهم أن يخرج الى الموسم الثّاني ، وأصابهم الجهد وجاعوا ، وبعث قريش إلى أبي طالب : ادفع إلينا محمّداً نقتله ونملّكك علينا ، وقال أبو طالب رضي الله عنه : قصيدته ألّلاميّة يقول فيها :
ولمّا رأيت القوم لا ودّ منهم (2) * وقد قطعوا كلّ العرى والوسائل
وأبيض يستسـقي الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصـمة للأرامل
كذبتم وبيـت الله يبـزى محمّدٌ * ولمـّا نطـاعـن دونه ونقاتل
لعمـري لقـد كلّفت وجداً بأحمد * وأحببته حبّ الحبيب المواصل
وجدت بنـفسي دونـه وحميته * ودارأت عنه بالذّرى والكواهل
فـأيّده ربّ العبـاد بنـصـره * وأظـهر ديناً حقـّه غير باطل
فلمّا سمعوا هذا القصيدة آيسوا منه ، وكان أبو العاص ابن الرّبيع وهو ختن رسول الله صلّى الله عليه وآله يأتي بالعير باللّيل عليها البرّ والتّمر إلى باب الشّعب ، ثمّ يصح بها فتدخل الشّعب فيأكله بنو هاشم ، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : لقد صاهرنا أبو العباس فأحمدنا صِهره .
ولمّا أتى أربع سنين بعث الله على صحيفتهم القاطعة دابة الأرض ، فلحست جميع ما فيها من قطيعة وظلم ، وتركت : باسمك اللّهم ، ونزل جبرئيل على رسول الله صلّى الله عليه وآله فأخبره بذلك ، فأخبر رسول الله أباطالب ، فقام أبو طالب ولبس ثيابه ثمّ مشى حتّى دخل المسجد على قريش وهم مجتمعون فيه ، فلمّا أبصروه قالوا : قد ضجر أبو طالب وجاء الآن ليسلّم ابن أخيه ، فدنا منهم وسلّم عليهم ، فقاموا إليه وعظّموه ، وقالوا : قد علمنا يا أبا طالب أنّك أردت مواصلتنا والرّجوع إلى جماعتنا ، وأن تسلّم ابن أخيك إلينا .
قال : والله ماجئت لهذا ، ولكن ابن أخي أخبرني ولم يكذبني أنّ الله تعالى أخبره أنّه بعث على صحيفتكم القاطعة دابة الأرض ، فلحست جميع ما فيها من قطيعة رحم ظلم وجور تركت اسم الله ،فابعثوا إلى صحيفتكم ، فان كان حقّاً فاتّقوا الله وارجعوا عما أنتم عليه من الظّلم والجور وقطيعة الرّحم ، وإن كان باطلاً دفعته إليكم ، فان شئتم قتلتموه ، وإن شئتم أسجنتموه .
فبعثوا إلى الصّحيفة وأنزلوها من الكعبة ، فاذا ليس فيها إلاّ باسمك اللّهم ، فقال لهم أبو طالب : يا قوم اتّقوا الله وكفّوا عمّا أنتم عليه ، فتفرّق القوم ولم يتكلّم أحد ، ورجع أبو طالب إلى الشّعب (1) .
410 ـ وقال عند ذلك نفر من بني عبد مناف وبني قصيّ ورجال من قريش ولدتهم
نساء بني هاشم منهم : مطعم بن عديّ ، وعامر بن لؤيّ ـ وكان شيخاً كبيراً كثير المال له أولاد ـ وأبو البختري بن هاشم ، وزهير بن اُميّة المخزومي في رجال من أشرافهم : نحن برآءٌ ممّا في هذه الصّحيفة ، فقال أبو جهل : هذا أمر قضي بليل ، وخرج النّبيّ صلّى الله عليه وآله ورهطه من الشّعب وخالطوا النّاس ومات أبو طالب بعد ذلك بشهرين ، وماتت خديجة رضي الله عنها بعد ذلك ، وورد على رسول الله صلّى الله عليه وآله أمران عظيمان جزع جزعاً شديداً ، ودخل علي أبي طالب وهو يجود بنفسه ، فقال يا عمّ : ربّيت صغيراً ، ونصرت كبيراً ، وكفّلت يتيماً ، فجزاك الله عنّي خير الجزاء أعطني كلمة أشفع لك بها عند ربّي (1) .
قال ابن عباس : فلمّا ثقل أبو طالب رُئي يحرّك شفتيه ، فأصغى إليه العبّاس يسمع قوله ، فرفع العبّاس عنه (2) وقال : يا رسول الله والله قد قال الكلمة الّتي سألته إيّاها .
وعن أبن عباس قال : إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله عارض جنازة أبي طالب ، فقال : وصلتك رحم (3) وجزيت خيراً ياعمّ (4) .
وعن الزّهري كان رسول الله صلّى الله عليه وآله يعرض نفسه على قبائل العرب في كلّ موسم ، ويكلّم كلّ شريف قوم لا يسأله منهم أحد (5) ، فلمّا توفّي أبو طالب اشتدّ
____________
وعن الزّهري كان رسول الله صلّى الله عليه وآله يعرض نفسه على قبائل العرب في كلّ موسم ، ويكلّم كلّ شريف قوم لا يسأله منهم أحد (5) ، فلمّا توفّي أبو طالب اشتدّ
____________
ذكر عليّ بن إبراهيم أنّ سعد بن زرارة وذكوان خرجا إلى عمرة رجب ، وكان أسعد صديقاً لعتبة ، فنزل عليه ، فقال له : إنّه كان بيننا وبين قومناحروب ، وقد جئناك نطلب الحلف عليهم ، فقال عتبة : بعدت دارنا من داركم ولنا شغل لا نتفرّغ لشيءٍ قال : وما شغلكم وأنتم في حرمكم وأمنكم ؟ فقال عتبة : خرج فينا رجلٌ يدعي أنّه رسول الله سفّه أحلامنا (1) ، فقال أسعد ومن هو منكم ؟ قال : محمّد بن عبد الله بن عبد المطلب من أوسطنا شرفاً وأعظمنا بيتاً .
وكان اسعد وذكوان وجيمع الأوس ولاخزرج يسمعون من اليهود الّذين كانوا بينهم النّضير وقريظة وقينقاع أنّ هذا أوان نبيّ يخرج من مكّة يكون مهاجره بالمدينة ، فلمّا سمع أسعد وقع في قلبه ماكان سمع من اليهود ، قال : أين هو ؟ قال : هو جالس في الحجر ، فلا تكلّمه فانّه ساحرٌ يسحرك بكلامه ، قال أسعد : كيف أصنع وأنا معتبر لابدّ لي أن أطوف بالبيت ؟ قال : ضع أُذنك القطن .
فدخل أسعد المسجد وقد حشا أُذنيه القطن ، فطاف بالبيت ورسول الله صلّى الله عليه وآله في الحجر مع بني هاشم ، فنظر إليه نظرةً وجازه ، فلمّا كان في الشّوط الثّاني رمى القطن وقال في نفسه : لا أحد أجهل منّي ، فقال : أنعم صباحاً ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : قد أبدلنا الله أحسن (2) من هذا ، تحية أهل الجنّة : سلامٌ عليكم ، فقال : أشهد أن لا اله إلاّ الله ، وأنّك رسول الله ، أنا من اهل يثرب من الخزرج ، وبيننا وبين إخوتنامن الأوس حبال مقطوعة ، فإن وصلها الله بك ، فلا أحد أعزّ منك ، ومعي رجل من قومي فان دخل في هذا الامر أرجو أن يتم الله لنا أمورنا فيك ، لقد كنّا نسمع من اليهود خبرك وصفتك ، وأرجو أن تكون دارنا دار هجرتك ، فقد أعلمنا اليهود ذلك ، فالحمد لله الّذي ساقني إليك .
ثمّ أقبل ذكوان ، فقال له أسعد : هذا رسول الله الّذي كانت اليهود تبشّرنا به تخبرنا
____________
بصفته ، فأسلم ذكوان وقالا : يا رسول الله ابعث معنا رجلاً يعلّمنا القرآن كثيراً ، فبعث معهما مصعب ، فنزل على أسعد ، وأجاب من كلّ بطن الرّجل والرّجلان لمّا أخبروهم بخير رسول الله وأمره .
وكان مصعب يخرج في كلّ يوم ، فيطوف على مجالس الخزرج يدعوهم إلى الاسلام فيجيبه الأحدث ، وقال سعد لمصعب : إنّ خالي سعد بن معاذ من رؤساء الأوس ، فإن دخل في هذا الأمر تمّ لنا أمرنا ، فجاء مصعب مع أسعد إلى محلّة سعد بن معاذ ، وقعد على بئر من آبارهم ، واجتمع إليه قوم من أحداثهم ، وهو يقرأ عليهم القرآن ، فبلغ ذلك سعد بن معاذ ، فقال لا سيد بن حصين ـ وكان من أشرافهم ـ : بلغني أنّ أسعد أتى محلّتنا مع هذا القرشي يفسد شبابنا ائته وانهه عن ذلك ، فأتى أسيد وقال لاسعد : يا أبا أمامة يقول لك خالك : لا تأتينا في نادينا ولا تفسد شبابنا .
فقال مصعب : أو تجلس فنعرض عليك أمراً؟ فإن أحببته دخلت فيه ، وإن كرهته نحّينا عنك ما تكره ، فجلس فقرأ عليه سورة ، فأسلم أسيد ، ثمّ رجع إلى سعد بن معاذ ، فلمّا نظر اليه سعد قال : أقسم انّ أسيداً رجع إلينا بغير الوجه الّذي ذهب من عندنا ، وأتاهم سعد فقرأ عليه أسعد : « حم تنزيل من الرّحمن الرّحيم » فلمّا سمع بعث إلى منزله وابي بثوبين طاهرين ، واغتسل وشهد الشّهادتين ، وصلّى ركعتين ، ثمّ قام وأخذ بيد مصعب وحوّله إليه وقال : أظهر أمرك ولا تهابنّ أحداً .
ثمّ صاح لايبقيّن رجل ولا امرأة إلاّ خرج ، فليس هذا يوم ستر ولا حجاب ، فلمّا اجتمعوا قال : كيف حالي عندكم ؟ قالوا: أنت سيّدنا والمطاع فينا ، ولا نردّ لك أمراً ، فقال : كلام رجالكم ونساؤكم علي حرام حتّى تشهدوا أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمّداً رسول الله ، والحمد لله الّذي أكرمنا بذلك ، وهو الّذي كانت اليهود تخبرنا به ، وشاع الاسلام بالمدينة ودخل فيه من البطنين أشرافهم .
وكتب مصعب إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله بذلك فكلّ من دخل في الاسلام من قريش ضربه قومه وعذّبوه ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يأمرهم أن يخرجوا إلى المدينة ، فيصيرون إليها فينزلهم الأوس والخزرج عليهم ويواسونهم
ثمّ إنّ الاوس والخزرج قدموا مكّة ، فجاءهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وقال : تمنعون جانبي حتّى أتلوا عليكم كتاب ربّكم وثوابكم على الله الجنّة ؟ قالوا : نعم قال : موعدكم العقبة في اللّيلة الوسطى من ليالي التّشريق ، فلمّا حجّوا رجعوا إلى منى ، فلمّا اجتمعوا قال لهم رسول الله صلّى الله عليه وآله : تمنعوني بما تمنعون به أنفسكم ؟ قالوا : فما لنا على ذلك ؟ قال : الجنة ، قالوا : رضينا دماؤنا بدمك وأنفسنا بنفسك ، فاشترط لربّك ولنفسك ما شئت .
فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : أخرجوا إليّ منكم اثنى عشر نقيباً يكونون عليكم بذلك ، كما أخذ موسى من بني إسرائيل اثنى نقيباً ، فقالوا : اختر من شئت ، فأشار جبرئيل إليهم فقال : هذا نقيب وهذا نقيب (1) حتّى اختار تسعةً من الخزرج ، وهم : أسعد بن زرارة ، والبرء بن معرور ، وعبد الله بن حرام (2) ـ أبو جابر (3) بن عبد الله ـ ورافع بن مالك ، وسعد بن عبادة ، والمنذر بن عمرو ، وعبد الله بن رواحة ، وسعد بن الرّبيع ، وعبادة بن الصّامت .
وثلاثة من الأوس ، وهم : أبو الهيثم بن التّيهان ( وكان رجلاً من اليمن حليفاً في بني عمرة بن عوف ) وأسيد بن حصين ، وسعد بن خيثمة .
فلمّا اجتمعوا وبايعوا رسول الله صلّى الله عليه وآله إبليس : يا معشر قريش والعرب هذا محمّد والصّباة من الأوس والخزرج على جمرة العقبة يبايعونه على حربكم ، فأسمع أهل منى ، فهاجت قريش وأقبلوا بالسّلاح وسمع رسول الله صلّى الله عليه وآله النّداء ، فقال للأنصار : تفرّقوا ، فقالوا : يا رسول الله صلّى الله عليه وآله إن أمرتنا أن نميل إليهم بأسيافنا فعلنا ؟ فقال الرّسول صلّى الله عليه وآله : لم أؤمر بذلك ، ولم يأذن الله لي في
____________
محاربتهم ، فقالوا : يا رسول الله صلّى الله عليه وآله تخرج معنا ؟ قال : أنتظر أمر الله تعالى .
فجاءت قريش قد أخذوا السّلاح وخرج حمزة ومعه السّيف ومعه عليّ عليه السلام فوقفا على العقبة ، فقالوا : ما هذا الّذي اجتمعتم عليه ؟ قال حمزة : ما ها هنا أحد وما اجتمعنا ، والله لا يجوز أحد هذه العقبة إلاّ ضربت عنقه بسيفي ، فرجعوا وغدوا إلى عبد الله بن أبيّ وقالوا : بلغنا أنّ قومك بايعوا محمّداً على حربنا ، فحلف لهم عبد الله أنّهم لم يفعلوا ولا علم له بذلك ، فإنّهم لم يطّلعوه على أمرهم فصدّقوه ، وتفرّقت الأنصار ، ورجع رسول الله صلّى الله عليه وآله إلى مكّة (1) .
فصل ـ 9 ـ
414 ـ ثمّ اجتمعت قريش في دار النّدوة ، فجاءهم إبليس لمّا أخذوا مجلسهم ، فقال أبو جهل : لم يكن أحد من العرب أعزّ منّا حتّى نشأ فينا محمّد ، وكنّا نسمّيه الأمين لصلاحه وأمانته ، فزعم أنّه رسول ربّ العالمين وسبّ آلهتنا ، وقد رأيت فيه رأياً ، وهو : أن ندسّ اليه رجلاً فيقتله ، وإن طلبت بنو هاشم بدمه أعطيناهم عشر ديات ، فقال إبليس : هذا رأي خبيث ، فانّ بني هاشم لا يرضون أن يمشي قاتل محمّد على الأرض أبداً ، ويقع بينكم الحروب في الحرم ، فقال آخر : الرّأي أن نأخذه فنحبسه في بيت ونثبته فيه ، ونلقي إليه قوته حتّى يموت ، كما مات زهير والنّابغة . قال إبليس : إنّ بني هاشم لا ترضى بذلك ، فاذا جاء مواسم العرب اجتمعوا عليكم ، فأخرجوه فيخدعهم بسحره . فقال آخر : الرّأي أن نخرجه من بلادنا ونطرده ونتفرغ لآلهتنا ، فقال ابليس : هذا أخبث منهما ، فانّه إذا خرج يفجأكم وقد ملأها خيلاً ورجلاً فبقوا حيارى ، قالوا : ما الرّأي عندك ؟
قال : ما فيه إلاّ رأي واحد ، وهو أن يجتمع من كلّ بطن من بطون قريش رجل شريف ، ويكون معكم من بني هاشم أحد ، فيأخذون سيفاً ويدخلون عليه ، فيضر به كلّهم ضربة واحدة ، فيتفرق دمه في قريش كلّهم ، فلا يستطيع بنو هاشم أن يطلبوا بدمه
وقد شاركوا فيه ، فحماداهم أن تعطوا الدّية (1) .
فقالوا : الرّأي رأي الشّيخ النّجدي ، فاختاروا خمسة عشر رجلاً فيهم أبو لهب على أن يدخلوا على رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فأنزل الله تعالى جلّ ذكره : ( وإذ يمكر بك الّذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمركون ويمكر الله والله خير الماكرين ) (2) وأجمعوا أن يدخلوا عليه ليلاً وكتموا أمره ، فقال أبو لهب : بل نحرسه ، فاذا أصبحنا دخلنا عليه ، فقاموا حول حجرة رسول الله صلّى الله عليه وآله .
وأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله أن يفرش له ، وقال لعليّ بن ابي طالب عليه السلام : أفدني نفسك ، فقال : نعم يا رسول الله قال : نم على فراشي والتحف ببردتي ، فقام وجاء جبرئيل عليه السلام فقال : اخرج والقوم يشرفون على الحجرة (3) فيرون فراشه وعليّ عليه السلام نائم عليه ، فيتوهّمون أنّه رسول الله .
فخرج رسول الله وهو يقرأ : يس إلى قوله : ( فأغشيناهم فهم لا يبصرون ) (4) أخذ تراباً بكفّه ونثره عليهم وهم نيام ومضى ، فقال جبرئيل عليه السلام : يا محمّد خذ ناحية ثور ، وهو جبل على طريق منى له سنام كسنام الثّور ، فمرّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وتلقاه أبو بكر في الطّريق ، فأخذ بيده ومرّ به ، فلمّا انتهى إلى ثور دخل الغار .
فلمّا أصبحت قريش وأضاء الصّبح ، وثبوا في الحجرة وقصدوا الفراش ، فوثب عليّ عليه السلام إليهم وقام في وجوههم ، فقال لهم : ما لكم ؟ قالوا : أين ابن عمّك ؟ قال عليّ عليه السلام جعلتموني عليه رقيباً ؟ ألستم قلتم له : اخرج عنّا ؟ فقد خرج عنكم فما تريدون ؟
فأقبلوا عليه يضربونه ، فمنعهم أبو لهب وقالوا : أنت كنت تخدعنا منذ اللّيلة ، فلمّا أصبحوا تفرّقوا في الجبال .
وكان فيهم رجل من خزاعة يقال له : أبو كرز يقفو الآثار ، فقالوا له : يا أبا كرز اليوم (1) ، اليوم فما زالوا يقفون أثر رسول الله حتّى وقف على باب الغار ، فقال : هذه قدم محمّد هي والله أخت القدم الّتي في المقام ، فلم يزل بهم حتّى وقفهم على باب الغار ، وقال : ما جاوزوا هذا المكان : إمّا أن يكونوا صعدوا إلى السّماء ، أو دخلوا الأرض ، فبعث الله العنكبوت فنسجت على باب الغار وجاء فارس من الملائكة في صوة الانس ، فوقف على باب الغار وهو يقول لهم : اطلبوا في هذه الشّعاب ، فليس ها هنا فأقبلوا يدورون في الشّعاب (2) .
415 ـ وبقي رسول الله صلّى الله عليه وآله في الغار ثلاثة أيّام ، ثمّ أذن الله له في الهجرة وقال : اخرج عن مكّة يا محمّد ، فليس لك بها ناصر بعد أبي طالب ، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وأقبل راع لبعض قريشس يقال له : ابن أريقط ، فدعاه رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فقال له : ائتمنك على دمي ، فقال : إذاً والله أحرسك ولا ادلّ عليك ، فأين تريد يا محمّد ؟ قال : يثرب ، قال : لأسلكنّ بك مسلكاً لا يهتدي فيها أحد (3) فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله : ائت عليّاً وبشّره بانّ الله تعالى قد أذن لي في الهجرة ، فهيّئ لي زاداً وراحلة وقال أبو بكر : أعلم عامر بن فهيرة أمرنا وقل له : ائتنا بالزّاد والرّاحلة (4) وخرج رسول الله صلّى الله عليه وآله من الغار ، فلم يرجعوا إلى الطّريق إلاّ بقديد ، وكانت الأنصار بلغهم خروج رسول الله صلّى الله عليه وآله اليهم ، وكانوا يتوقعون قدومه إلى أن وافى مسجد قبا .
ونزل على كلثوم بن الهدم شيخ صالح مكفوف ، واجتمعت ، واجتمعت إليه بطون الأوس ، ولم تجسر الخزرج أن يأتوا رسول الله لما كان بينهم وبين الاوس من العداة ، فلمّا أمسى أتاه
____________
أسعد بن زرارة مقنّعاً ، فسلّم على رسول الله صلّى الله عليه واله وفرح بقدومه فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله للأوس : من يجيره ؟ فأجاره عويمر بن ساعدة وسعد بن خيثمة .
فبقي رسول الله صلّى الله عليه وآله خمسة عشر يوماً فقال أبوبكر : ندخل المدينة فالقوم متشوّقون إلى نزولك ، فقال : لأديم في هذا المكان حتّى يوافيني أخي علي بن أبي طالب عليه السلام وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله قدبعث إليه أن احمل العيال واقدم ، فقال أبو بكر : ماأحسب عليّاً يوافي ، قال : بلى ما أسرعه .
فلمّا قدم عليّ ركب رسول الله صلّى الله عليه وآله راحلته ، واجتمعت اليه (1) بنو عمرو وابن عوف ، فقالوا : يا رسول الله أقم عندنا ، قال : خلّوا عنها فانّها مأمورة وبلغ الأوس والخزرج خروج رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فلبسوا السّلاح وأقبلوا يعدون حول ناقته ، وأخذ كلّ حيّ بزمام ناقته ، ويقول : خلّوا سبيلها فإنّها مأمورة ، فبركت النّاقة على باب أبي أيّوب ، فنزل رسول الله صلّى الله عليه وآله .
وجاءته اليهود ، فقالوا : يا محمّد إلى ما تدعو (2) ؟ قال : إلى شهادة أن لا اله الاّ الله ، وإنّي رسول الله ، وأنّا الّذي تجدونني مكتوباً في التّوراة ، والّذي أخبركم به علماؤكم ، فحرمي بمكّة ومهاجري في هذه البحيرة (3) ، فقالوا : قد سمعنا ماتقول وقد جئناك لنطلب منك الهدنة على أن لا نكون لك ولا عليك ، فأجابهم رسول الله صلّى الله عليه وآله إلى ذلك ، وكتب بينهم كتاباً .
وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله يصلّي في المربد بأصحابه ، ثمّ اشتراه وجعله المسجد ، وكان يصلّي إلى بيت المقدس ، حتّى إتى له سبعة أشهر ، فأمر أن يصلّي إلى الكعبة ، فصلّى بهم الظّهر ركعتين إلى ها هنا وركعتين إلى ها هنا (4) .
____________
النهايه
و شكرا
تحياتي بنوته قمر
406 ـ وعن أبي بصير قال : سمعته يقول : إنّ جبرئيل احتمل رسول الله حتّى انتهى به إلى مكان من السّماء ، ثمّ تركه وقال : ما وطأ نبيٌّ قطّ مكانك .
وقال النّبي صلّى الله عليه وآله : أتاني جبرئيل عليه السلام وأنا بمكّة ، فقال : قم يامحمّد ، فقمت معه وخرجت إلى الباب ، فاذا جبرئيل ومعه ميكائيل وإسرافيل ، فأتى جبرئيل بالبراق ، فكان فوق الحمار ودون البغل ، خدّه كخدّ الإنسان ، وذنبه كذنب البقر ، وعرفه كعرف الفرس ، وقوائمه كقوائم الإبل ، عليه رحل من الجنّة ، وله جناحان من فخذيه ، خطوه منتهى طرفه (2) .
فقال : اركب ، فركب ومضيت ، حتّى انتهيت إلى بيت المقدس ، ولمّا انتهيت إليه إذا الملائكة نزلت من السّماء بالبشارة والكرامة من عند ربّ العزّة ، وصلّيت في بيت
____________
المقدس ، وفي بعضها بشرّ لي إبراهيم في رهط من الأنبياء ، ثم وصف موسى وعيسى صلوات الله عليهم ، ثمّ أخذ جبرئيل بيدي إلى الصّخرة فأقعدني عليها ، فاذا معارج إلى السّماء لم أر مثلها حسناً .
فصعدت إلى السّماء الدّنيا ، ورأيت عجائبها وملكوتها ، وملائكها يسلّمون عليّ . ثمّ صعد بي إلى السّماء الثّالثة ، فرأيت بها يوسف عليه السلام ، ثمّ صعدت إلى السماء الرّابعة ، فرأيت بها يوسف عليه السلام ، ثمّ صعدت إلى السّماء الخامسة ، فرأيت فيها هارون عليه السلام ، ثمّ صعد بي إلى السّماء السّادسة ، فاذا فيها خلق كثير يموج بعضهم في بعض وفيها الكرّوبيّون قال : ثمّ صعدبي إلى السّماء السّابعة فأبصرت فيها خلقاً وملائكة (1) .
407 ـ وفي حديث آخر قال النّبيّ صلّى الله عليه وآله : رأيت في السّماء موسى عليه السلام ، ورأيت في السّابعة إبراهيم عليه السلام ثمّ قال : جاوزنا متصاعدين إلى أعلى عليّين ، ووصف ذلك إلى أن قال : ثمّ كلّمني ربّي وكلّمته ، ورأيت الجنّة والنّار ، ورأيت العرش وسدرة المنتهى .
قال : ثمّ رجعت إلى مكّة ، فلمّا أصبحت حدّثت فيه النّاس ، فأكذبني أبو جهل والمشركون ، وقال مطعم بن عدي : أنزعم أنّك سرت مسيرة شهرين في ساعة ؟ أشهد أنّك كاذب ، ثمّ قالت قريش : أخبرنا عمّا رأيت .
فقال : مررت بعير بني فلان ، وقد أضلّوا بعيراً لهم هم في طلبه ، وفي رحلهم قعب من ماءٍ مملوّ ، فشرب الماء فغطّيته كما كان ، فاسألوهم هل وجدوا الماء في القدح ؟ قالوا : هذه أية واحدة ، فقال صلّى الله عليه وآله : مررت بعير بني فلان ، فنفر بعير فلان فانكسرت يده ، فاسألوهم عن ذلك ، فقالوا : هذه آية أخرى ، قالوا : فأخبرنا عن عيرنا قال : مررت بها بالتّنعيم ، وبيّن لهم أحوالها وهيئاتها ، قالوا : هذه آية اُخرى (2) .
____________
وفي رواية أخرى قال أبو جهل : قد أمكنتكم الفرصة منه ، فاسألوه كم فيها من الاساطين والقناديل ؟ فقالوا : يا محمّد إنّ ها هنا من دخل بيت المقدس فصف لنا أساطينه وقناديله ، فجاء جبرئيل عليه السلام فعلّق صورة بيت المقدس تجاه (1) وجهه فجعل يخبرهم بما سألوه عنه فلمّا أخبرهم قالوا : حتّى تجيء العير ونسألهم عمّا قلت ، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وآله : تصديق ذلك أنّ العير تطلع عليكم عند ونسألهم عمّا قلت ، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وآله : تصديق ذلك أنّ العير تطلع عليكم عند طلوع الشّمس يقدمها جمل أحمر (2) عليه غرارتان ، فلمّا كان من الغد أقبلوا ينظرون إلى العقبة والقرص ، فاذا العير يقدمها جمل أحمر ، فسألوهم عمّا قال رسول الله صلّى الله عليه وآله فقالوا : لقد كان هذا فلم يزدهم إلاّ عتوّاً (3) .
409 ـ فاجتمعوا في دار النّدوة وكتبوا صحيفة بينهم : أن لا يواكلوا بني هاشم ، ولا يكلّموهم ، ولا يبايعوهم ، ولا يزوّجوهم ، ولا يتزوّجوا إليهم حتّى يدفعوا إليهم محمّداً فيقتلونه ، وأنّهم يد واحدة على محمّد يقتلونه غيلة أو صريحاً ، فلمّا بلغ ذلك أبا طالب جمع بني هاشم ودخلوا الشّعب ، وكانوا أربعين رجلاً ، فحلف لهم أبو طالب بالكعبة والحرم : إنّ شاكت محمّداً شوكة لاتين (4) عليكم يا بني هاشم ، وحصّن الشّعب ، وكان يحرسه باللّيل والنهار ، فاذا جاء اللّيل يقوم بالسّيف عليه ورسول الله صلّى الله عليه وآله مضطجع ، ثمّ يقيمه ويضجعه في موضع آخر ،فلا يزال اللّيل كلّه هكذا ويوكّل ولده وولد أخيه به
يحرسونه بالنّهار فأصابهم الجهد .
وكان من دخل مكّة من العرب لا جسر أن يبيع من بني هاشم شيئاً ، ومن باع بني هاشم شيئاً انتهبوا ماله ، وكان أبو جهل والعاص بن وائل السّهمي والنّضر بن الحارث بن كلدة وعقبة بن أبي معيط يخرجون إلى الطّرقات الّتي تدخل مكّة ، فمن رأوه معه ميرة نهبوه أن يبيع من بني هاشم شيئاً ، ويحذّرونه إن باع شيئاً منهم انتهبوا ماله ، وكانت خديجة لها مال كثير وأنفقته على رسول الله صلّى الله عليه وآله في الشّعب ، ولم يدخل في حلق الصّحيفة مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد المطلب (1) بن عبد مناف ، وقال : هذا ظلم ، وختموا الصّحيفة بأربعين خاتماً كلّ رجل من رؤساء قريش بخاتمه ، وعلّقوها في الكعبة ، وتابعهم على ذلك أبو لهب .
وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله يخرج في كلّ يوم موسم ، فيدور على قبائل العرب ، فيقول لهم : تمنعون لي جانبي حتّى أتلو عليكم كتاب ربّكم وثوابكم الجنّة على الله ، وأبو لهب في إثره فيقول : لا تقبلوا منه ، فانّه ابن أخي وهو كذّاب ساحر ، فلم يزل هذا حالهم .
وبقوا في الشّعب أربع سنين لا يأمنون إلاّ من موسم إلى موسم ، ولا يشترون ولا يبيعون إلاّ في الموسم ، وكان يقوم بمكّة موسمان في كلّ سنة : موسم العمرة في رجب ، وموسم الحج في ذي الحجة ، فكان إذا اجتمعت المواسم يخرج بنو هاشم من الشّعب ، فيشترون ويبيعون ، ثمّ لايجسر أحد منهم أن يخرج الى الموسم الثّاني ، وأصابهم الجهد وجاعوا ، وبعث قريش إلى أبي طالب : ادفع إلينا محمّداً نقتله ونملّكك علينا ، وقال أبو طالب رضي الله عنه : قصيدته ألّلاميّة يقول فيها :
ولمّا رأيت القوم لا ودّ منهم (2) * وقد قطعوا كلّ العرى والوسائل
وأبيض يستسـقي الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصـمة للأرامل
كذبتم وبيـت الله يبـزى محمّدٌ * ولمـّا نطـاعـن دونه ونقاتل
لعمـري لقـد كلّفت وجداً بأحمد * وأحببته حبّ الحبيب المواصل
وجدت بنـفسي دونـه وحميته * ودارأت عنه بالذّرى والكواهل
فـأيّده ربّ العبـاد بنـصـره * وأظـهر ديناً حقـّه غير باطل
فلمّا سمعوا هذا القصيدة آيسوا منه ، وكان أبو العاص ابن الرّبيع وهو ختن رسول الله صلّى الله عليه وآله يأتي بالعير باللّيل عليها البرّ والتّمر إلى باب الشّعب ، ثمّ يصح بها فتدخل الشّعب فيأكله بنو هاشم ، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : لقد صاهرنا أبو العباس فأحمدنا صِهره .
ولمّا أتى أربع سنين بعث الله على صحيفتهم القاطعة دابة الأرض ، فلحست جميع ما فيها من قطيعة وظلم ، وتركت : باسمك اللّهم ، ونزل جبرئيل على رسول الله صلّى الله عليه وآله فأخبره بذلك ، فأخبر رسول الله أباطالب ، فقام أبو طالب ولبس ثيابه ثمّ مشى حتّى دخل المسجد على قريش وهم مجتمعون فيه ، فلمّا أبصروه قالوا : قد ضجر أبو طالب وجاء الآن ليسلّم ابن أخيه ، فدنا منهم وسلّم عليهم ، فقاموا إليه وعظّموه ، وقالوا : قد علمنا يا أبا طالب أنّك أردت مواصلتنا والرّجوع إلى جماعتنا ، وأن تسلّم ابن أخيك إلينا .
قال : والله ماجئت لهذا ، ولكن ابن أخي أخبرني ولم يكذبني أنّ الله تعالى أخبره أنّه بعث على صحيفتكم القاطعة دابة الأرض ، فلحست جميع ما فيها من قطيعة رحم ظلم وجور تركت اسم الله ،فابعثوا إلى صحيفتكم ، فان كان حقّاً فاتّقوا الله وارجعوا عما أنتم عليه من الظّلم والجور وقطيعة الرّحم ، وإن كان باطلاً دفعته إليكم ، فان شئتم قتلتموه ، وإن شئتم أسجنتموه .
فبعثوا إلى الصّحيفة وأنزلوها من الكعبة ، فاذا ليس فيها إلاّ باسمك اللّهم ، فقال لهم أبو طالب : يا قوم اتّقوا الله وكفّوا عمّا أنتم عليه ، فتفرّق القوم ولم يتكلّم أحد ، ورجع أبو طالب إلى الشّعب (1) .
410 ـ وقال عند ذلك نفر من بني عبد مناف وبني قصيّ ورجال من قريش ولدتهم
نساء بني هاشم منهم : مطعم بن عديّ ، وعامر بن لؤيّ ـ وكان شيخاً كبيراً كثير المال له أولاد ـ وأبو البختري بن هاشم ، وزهير بن اُميّة المخزومي في رجال من أشرافهم : نحن برآءٌ ممّا في هذه الصّحيفة ، فقال أبو جهل : هذا أمر قضي بليل ، وخرج النّبيّ صلّى الله عليه وآله ورهطه من الشّعب وخالطوا النّاس ومات أبو طالب بعد ذلك بشهرين ، وماتت خديجة رضي الله عنها بعد ذلك ، وورد على رسول الله صلّى الله عليه وآله أمران عظيمان جزع جزعاً شديداً ، ودخل علي أبي طالب وهو يجود بنفسه ، فقال يا عمّ : ربّيت صغيراً ، ونصرت كبيراً ، وكفّلت يتيماً ، فجزاك الله عنّي خير الجزاء أعطني كلمة أشفع لك بها عند ربّي (1) .
قال ابن عباس : فلمّا ثقل أبو طالب رُئي يحرّك شفتيه ، فأصغى إليه العبّاس يسمع قوله ، فرفع العبّاس عنه (2) وقال : يا رسول الله والله قد قال الكلمة الّتي سألته إيّاها .
وعن أبن عباس قال : إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله عارض جنازة أبي طالب ، فقال : وصلتك رحم (3) وجزيت خيراً ياعمّ (4) .
وعن الزّهري كان رسول الله صلّى الله عليه وآله يعرض نفسه على قبائل العرب في كلّ موسم ، ويكلّم كلّ شريف قوم لا يسأله منهم أحد (5) ، فلمّا توفّي أبو طالب اشتدّ
____________
وعن الزّهري كان رسول الله صلّى الله عليه وآله يعرض نفسه على قبائل العرب في كلّ موسم ، ويكلّم كلّ شريف قوم لا يسأله منهم أحد (5) ، فلمّا توفّي أبو طالب اشتدّ
____________
ذكر عليّ بن إبراهيم أنّ سعد بن زرارة وذكوان خرجا إلى عمرة رجب ، وكان أسعد صديقاً لعتبة ، فنزل عليه ، فقال له : إنّه كان بيننا وبين قومناحروب ، وقد جئناك نطلب الحلف عليهم ، فقال عتبة : بعدت دارنا من داركم ولنا شغل لا نتفرّغ لشيءٍ قال : وما شغلكم وأنتم في حرمكم وأمنكم ؟ فقال عتبة : خرج فينا رجلٌ يدعي أنّه رسول الله سفّه أحلامنا (1) ، فقال أسعد ومن هو منكم ؟ قال : محمّد بن عبد الله بن عبد المطلب من أوسطنا شرفاً وأعظمنا بيتاً .
وكان اسعد وذكوان وجيمع الأوس ولاخزرج يسمعون من اليهود الّذين كانوا بينهم النّضير وقريظة وقينقاع أنّ هذا أوان نبيّ يخرج من مكّة يكون مهاجره بالمدينة ، فلمّا سمع أسعد وقع في قلبه ماكان سمع من اليهود ، قال : أين هو ؟ قال : هو جالس في الحجر ، فلا تكلّمه فانّه ساحرٌ يسحرك بكلامه ، قال أسعد : كيف أصنع وأنا معتبر لابدّ لي أن أطوف بالبيت ؟ قال : ضع أُذنك القطن .
فدخل أسعد المسجد وقد حشا أُذنيه القطن ، فطاف بالبيت ورسول الله صلّى الله عليه وآله في الحجر مع بني هاشم ، فنظر إليه نظرةً وجازه ، فلمّا كان في الشّوط الثّاني رمى القطن وقال في نفسه : لا أحد أجهل منّي ، فقال : أنعم صباحاً ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : قد أبدلنا الله أحسن (2) من هذا ، تحية أهل الجنّة : سلامٌ عليكم ، فقال : أشهد أن لا اله إلاّ الله ، وأنّك رسول الله ، أنا من اهل يثرب من الخزرج ، وبيننا وبين إخوتنامن الأوس حبال مقطوعة ، فإن وصلها الله بك ، فلا أحد أعزّ منك ، ومعي رجل من قومي فان دخل في هذا الامر أرجو أن يتم الله لنا أمورنا فيك ، لقد كنّا نسمع من اليهود خبرك وصفتك ، وأرجو أن تكون دارنا دار هجرتك ، فقد أعلمنا اليهود ذلك ، فالحمد لله الّذي ساقني إليك .
ثمّ أقبل ذكوان ، فقال له أسعد : هذا رسول الله الّذي كانت اليهود تبشّرنا به تخبرنا
____________
بصفته ، فأسلم ذكوان وقالا : يا رسول الله ابعث معنا رجلاً يعلّمنا القرآن كثيراً ، فبعث معهما مصعب ، فنزل على أسعد ، وأجاب من كلّ بطن الرّجل والرّجلان لمّا أخبروهم بخير رسول الله وأمره .
وكان مصعب يخرج في كلّ يوم ، فيطوف على مجالس الخزرج يدعوهم إلى الاسلام فيجيبه الأحدث ، وقال سعد لمصعب : إنّ خالي سعد بن معاذ من رؤساء الأوس ، فإن دخل في هذا الأمر تمّ لنا أمرنا ، فجاء مصعب مع أسعد إلى محلّة سعد بن معاذ ، وقعد على بئر من آبارهم ، واجتمع إليه قوم من أحداثهم ، وهو يقرأ عليهم القرآن ، فبلغ ذلك سعد بن معاذ ، فقال لا سيد بن حصين ـ وكان من أشرافهم ـ : بلغني أنّ أسعد أتى محلّتنا مع هذا القرشي يفسد شبابنا ائته وانهه عن ذلك ، فأتى أسيد وقال لاسعد : يا أبا أمامة يقول لك خالك : لا تأتينا في نادينا ولا تفسد شبابنا .
فقال مصعب : أو تجلس فنعرض عليك أمراً؟ فإن أحببته دخلت فيه ، وإن كرهته نحّينا عنك ما تكره ، فجلس فقرأ عليه سورة ، فأسلم أسيد ، ثمّ رجع إلى سعد بن معاذ ، فلمّا نظر اليه سعد قال : أقسم انّ أسيداً رجع إلينا بغير الوجه الّذي ذهب من عندنا ، وأتاهم سعد فقرأ عليه أسعد : « حم تنزيل من الرّحمن الرّحيم » فلمّا سمع بعث إلى منزله وابي بثوبين طاهرين ، واغتسل وشهد الشّهادتين ، وصلّى ركعتين ، ثمّ قام وأخذ بيد مصعب وحوّله إليه وقال : أظهر أمرك ولا تهابنّ أحداً .
ثمّ صاح لايبقيّن رجل ولا امرأة إلاّ خرج ، فليس هذا يوم ستر ولا حجاب ، فلمّا اجتمعوا قال : كيف حالي عندكم ؟ قالوا: أنت سيّدنا والمطاع فينا ، ولا نردّ لك أمراً ، فقال : كلام رجالكم ونساؤكم علي حرام حتّى تشهدوا أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمّداً رسول الله ، والحمد لله الّذي أكرمنا بذلك ، وهو الّذي كانت اليهود تخبرنا به ، وشاع الاسلام بالمدينة ودخل فيه من البطنين أشرافهم .
وكتب مصعب إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله بذلك فكلّ من دخل في الاسلام من قريش ضربه قومه وعذّبوه ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يأمرهم أن يخرجوا إلى المدينة ، فيصيرون إليها فينزلهم الأوس والخزرج عليهم ويواسونهم
ثمّ إنّ الاوس والخزرج قدموا مكّة ، فجاءهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وقال : تمنعون جانبي حتّى أتلوا عليكم كتاب ربّكم وثوابكم على الله الجنّة ؟ قالوا : نعم قال : موعدكم العقبة في اللّيلة الوسطى من ليالي التّشريق ، فلمّا حجّوا رجعوا إلى منى ، فلمّا اجتمعوا قال لهم رسول الله صلّى الله عليه وآله : تمنعوني بما تمنعون به أنفسكم ؟ قالوا : فما لنا على ذلك ؟ قال : الجنة ، قالوا : رضينا دماؤنا بدمك وأنفسنا بنفسك ، فاشترط لربّك ولنفسك ما شئت .
فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : أخرجوا إليّ منكم اثنى عشر نقيباً يكونون عليكم بذلك ، كما أخذ موسى من بني إسرائيل اثنى نقيباً ، فقالوا : اختر من شئت ، فأشار جبرئيل إليهم فقال : هذا نقيب وهذا نقيب (1) حتّى اختار تسعةً من الخزرج ، وهم : أسعد بن زرارة ، والبرء بن معرور ، وعبد الله بن حرام (2) ـ أبو جابر (3) بن عبد الله ـ ورافع بن مالك ، وسعد بن عبادة ، والمنذر بن عمرو ، وعبد الله بن رواحة ، وسعد بن الرّبيع ، وعبادة بن الصّامت .
وثلاثة من الأوس ، وهم : أبو الهيثم بن التّيهان ( وكان رجلاً من اليمن حليفاً في بني عمرة بن عوف ) وأسيد بن حصين ، وسعد بن خيثمة .
فلمّا اجتمعوا وبايعوا رسول الله صلّى الله عليه وآله إبليس : يا معشر قريش والعرب هذا محمّد والصّباة من الأوس والخزرج على جمرة العقبة يبايعونه على حربكم ، فأسمع أهل منى ، فهاجت قريش وأقبلوا بالسّلاح وسمع رسول الله صلّى الله عليه وآله النّداء ، فقال للأنصار : تفرّقوا ، فقالوا : يا رسول الله صلّى الله عليه وآله إن أمرتنا أن نميل إليهم بأسيافنا فعلنا ؟ فقال الرّسول صلّى الله عليه وآله : لم أؤمر بذلك ، ولم يأذن الله لي في
____________
محاربتهم ، فقالوا : يا رسول الله صلّى الله عليه وآله تخرج معنا ؟ قال : أنتظر أمر الله تعالى .
فجاءت قريش قد أخذوا السّلاح وخرج حمزة ومعه السّيف ومعه عليّ عليه السلام فوقفا على العقبة ، فقالوا : ما هذا الّذي اجتمعتم عليه ؟ قال حمزة : ما ها هنا أحد وما اجتمعنا ، والله لا يجوز أحد هذه العقبة إلاّ ضربت عنقه بسيفي ، فرجعوا وغدوا إلى عبد الله بن أبيّ وقالوا : بلغنا أنّ قومك بايعوا محمّداً على حربنا ، فحلف لهم عبد الله أنّهم لم يفعلوا ولا علم له بذلك ، فإنّهم لم يطّلعوه على أمرهم فصدّقوه ، وتفرّقت الأنصار ، ورجع رسول الله صلّى الله عليه وآله إلى مكّة (1) .
فصل ـ 9 ـ
414 ـ ثمّ اجتمعت قريش في دار النّدوة ، فجاءهم إبليس لمّا أخذوا مجلسهم ، فقال أبو جهل : لم يكن أحد من العرب أعزّ منّا حتّى نشأ فينا محمّد ، وكنّا نسمّيه الأمين لصلاحه وأمانته ، فزعم أنّه رسول ربّ العالمين وسبّ آلهتنا ، وقد رأيت فيه رأياً ، وهو : أن ندسّ اليه رجلاً فيقتله ، وإن طلبت بنو هاشم بدمه أعطيناهم عشر ديات ، فقال إبليس : هذا رأي خبيث ، فانّ بني هاشم لا يرضون أن يمشي قاتل محمّد على الأرض أبداً ، ويقع بينكم الحروب في الحرم ، فقال آخر : الرّأي أن نأخذه فنحبسه في بيت ونثبته فيه ، ونلقي إليه قوته حتّى يموت ، كما مات زهير والنّابغة . قال إبليس : إنّ بني هاشم لا ترضى بذلك ، فاذا جاء مواسم العرب اجتمعوا عليكم ، فأخرجوه فيخدعهم بسحره . فقال آخر : الرّأي أن نخرجه من بلادنا ونطرده ونتفرغ لآلهتنا ، فقال ابليس : هذا أخبث منهما ، فانّه إذا خرج يفجأكم وقد ملأها خيلاً ورجلاً فبقوا حيارى ، قالوا : ما الرّأي عندك ؟
قال : ما فيه إلاّ رأي واحد ، وهو أن يجتمع من كلّ بطن من بطون قريش رجل شريف ، ويكون معكم من بني هاشم أحد ، فيأخذون سيفاً ويدخلون عليه ، فيضر به كلّهم ضربة واحدة ، فيتفرق دمه في قريش كلّهم ، فلا يستطيع بنو هاشم أن يطلبوا بدمه
وقد شاركوا فيه ، فحماداهم أن تعطوا الدّية (1) .
فقالوا : الرّأي رأي الشّيخ النّجدي ، فاختاروا خمسة عشر رجلاً فيهم أبو لهب على أن يدخلوا على رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فأنزل الله تعالى جلّ ذكره : ( وإذ يمكر بك الّذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمركون ويمكر الله والله خير الماكرين ) (2) وأجمعوا أن يدخلوا عليه ليلاً وكتموا أمره ، فقال أبو لهب : بل نحرسه ، فاذا أصبحنا دخلنا عليه ، فقاموا حول حجرة رسول الله صلّى الله عليه وآله .
وأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله أن يفرش له ، وقال لعليّ بن ابي طالب عليه السلام : أفدني نفسك ، فقال : نعم يا رسول الله قال : نم على فراشي والتحف ببردتي ، فقام وجاء جبرئيل عليه السلام فقال : اخرج والقوم يشرفون على الحجرة (3) فيرون فراشه وعليّ عليه السلام نائم عليه ، فيتوهّمون أنّه رسول الله .
فخرج رسول الله وهو يقرأ : يس إلى قوله : ( فأغشيناهم فهم لا يبصرون ) (4) أخذ تراباً بكفّه ونثره عليهم وهم نيام ومضى ، فقال جبرئيل عليه السلام : يا محمّد خذ ناحية ثور ، وهو جبل على طريق منى له سنام كسنام الثّور ، فمرّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وتلقاه أبو بكر في الطّريق ، فأخذ بيده ومرّ به ، فلمّا انتهى إلى ثور دخل الغار .
فلمّا أصبحت قريش وأضاء الصّبح ، وثبوا في الحجرة وقصدوا الفراش ، فوثب عليّ عليه السلام إليهم وقام في وجوههم ، فقال لهم : ما لكم ؟ قالوا : أين ابن عمّك ؟ قال عليّ عليه السلام جعلتموني عليه رقيباً ؟ ألستم قلتم له : اخرج عنّا ؟ فقد خرج عنكم فما تريدون ؟
فأقبلوا عليه يضربونه ، فمنعهم أبو لهب وقالوا : أنت كنت تخدعنا منذ اللّيلة ، فلمّا أصبحوا تفرّقوا في الجبال .
وكان فيهم رجل من خزاعة يقال له : أبو كرز يقفو الآثار ، فقالوا له : يا أبا كرز اليوم (1) ، اليوم فما زالوا يقفون أثر رسول الله حتّى وقف على باب الغار ، فقال : هذه قدم محمّد هي والله أخت القدم الّتي في المقام ، فلم يزل بهم حتّى وقفهم على باب الغار ، وقال : ما جاوزوا هذا المكان : إمّا أن يكونوا صعدوا إلى السّماء ، أو دخلوا الأرض ، فبعث الله العنكبوت فنسجت على باب الغار وجاء فارس من الملائكة في صوة الانس ، فوقف على باب الغار وهو يقول لهم : اطلبوا في هذه الشّعاب ، فليس ها هنا فأقبلوا يدورون في الشّعاب (2) .
415 ـ وبقي رسول الله صلّى الله عليه وآله في الغار ثلاثة أيّام ، ثمّ أذن الله له في الهجرة وقال : اخرج عن مكّة يا محمّد ، فليس لك بها ناصر بعد أبي طالب ، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وأقبل راع لبعض قريشس يقال له : ابن أريقط ، فدعاه رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فقال له : ائتمنك على دمي ، فقال : إذاً والله أحرسك ولا ادلّ عليك ، فأين تريد يا محمّد ؟ قال : يثرب ، قال : لأسلكنّ بك مسلكاً لا يهتدي فيها أحد (3) فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله : ائت عليّاً وبشّره بانّ الله تعالى قد أذن لي في الهجرة ، فهيّئ لي زاداً وراحلة وقال أبو بكر : أعلم عامر بن فهيرة أمرنا وقل له : ائتنا بالزّاد والرّاحلة (4) وخرج رسول الله صلّى الله عليه وآله من الغار ، فلم يرجعوا إلى الطّريق إلاّ بقديد ، وكانت الأنصار بلغهم خروج رسول الله صلّى الله عليه وآله اليهم ، وكانوا يتوقعون قدومه إلى أن وافى مسجد قبا .
ونزل على كلثوم بن الهدم شيخ صالح مكفوف ، واجتمعت ، واجتمعت إليه بطون الأوس ، ولم تجسر الخزرج أن يأتوا رسول الله لما كان بينهم وبين الاوس من العداة ، فلمّا أمسى أتاه
____________
أسعد بن زرارة مقنّعاً ، فسلّم على رسول الله صلّى الله عليه واله وفرح بقدومه فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله للأوس : من يجيره ؟ فأجاره عويمر بن ساعدة وسعد بن خيثمة .
فبقي رسول الله صلّى الله عليه وآله خمسة عشر يوماً فقال أبوبكر : ندخل المدينة فالقوم متشوّقون إلى نزولك ، فقال : لأديم في هذا المكان حتّى يوافيني أخي علي بن أبي طالب عليه السلام وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله قدبعث إليه أن احمل العيال واقدم ، فقال أبو بكر : ماأحسب عليّاً يوافي ، قال : بلى ما أسرعه .
فلمّا قدم عليّ ركب رسول الله صلّى الله عليه وآله راحلته ، واجتمعت اليه (1) بنو عمرو وابن عوف ، فقالوا : يا رسول الله أقم عندنا ، قال : خلّوا عنها فانّها مأمورة وبلغ الأوس والخزرج خروج رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فلبسوا السّلاح وأقبلوا يعدون حول ناقته ، وأخذ كلّ حيّ بزمام ناقته ، ويقول : خلّوا سبيلها فإنّها مأمورة ، فبركت النّاقة على باب أبي أيّوب ، فنزل رسول الله صلّى الله عليه وآله .
وجاءته اليهود ، فقالوا : يا محمّد إلى ما تدعو (2) ؟ قال : إلى شهادة أن لا اله الاّ الله ، وإنّي رسول الله ، وأنّا الّذي تجدونني مكتوباً في التّوراة ، والّذي أخبركم به علماؤكم ، فحرمي بمكّة ومهاجري في هذه البحيرة (3) ، فقالوا : قد سمعنا ماتقول وقد جئناك لنطلب منك الهدنة على أن لا نكون لك ولا عليك ، فأجابهم رسول الله صلّى الله عليه وآله إلى ذلك ، وكتب بينهم كتاباً .
وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله يصلّي في المربد بأصحابه ، ثمّ اشتراه وجعله المسجد ، وكان يصلّي إلى بيت المقدس ، حتّى إتى له سبعة أشهر ، فأمر أن يصلّي إلى الكعبة ، فصلّى بهم الظّهر ركعتين إلى ها هنا وركعتين إلى ها هنا (4) .
____________
النهايه
و شكرا
تحياتي بنوته قمر
تعليق