إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

رواية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • رواية

    بسم الله الرحمن الرحيم
    ذهب فلان إلى أوروبا وما ننكر من أمره شيئاً فلبث فيها بضع سنين ، ثم عاد وما بقي مما كنا نعرفه منه شيء.
    ذهب بوجه كوجه العذراء ليلة عرسها ، وعاد بوجه الصخرة الملساء تحت الليلة الماطرة
    وذهب بقلب نقي طاهر يأنس بالعفو ويستريح إلى العذر ، وعاد بقلب ملفف مدخول لا يفارقة السخط على الأرض وساكنها، والنقمة على السماء وخالقها
    وذهب بنفس غضة خاشعة ترى كل نفس قوفها ، وعاد بنفس ذهابة نزاعة لا ترى شيئاً فوقها ولا تلقي نظرة واحدة على ما تحتها.
    وذهب برأس مملؤء حكمة ورأياً ، وعاد برأس التمثال المثقوب لا يملوه إلا الهواء المتردد
    وذهب وما على وجه الأرض أحب إليه من دينه ووطنه ، وعاد وما على وجهها أصغر ف عينه منهما!
    وكنت أرى أن هذه الصور الغريبة التي يتراءي فيها هؤلاء الضعفاء من الفتيان العائدين من تلك الديار إلى أوطانهم إنما هي اصباغ مفرغة على اجسامهم إفراغا لا تلبث أن تطلع عليها شمس المشرق فتحمحوها ، كأن لم تكن ، وأن مكان المدينة الغربية من نفوسهم مكان الوجه من المرآة ، إذا انحرف عنها زال خياله منها.
    فلم أشا أن أفارق ذلك الصديق ولبسته على علاته وفاء بعهده السابق ، ورجاء لغده المنتظر محتملاً في سبيل ذلك من حمقه ووسواسة وفساد تصوراته ، وغرابة أطواره ، ما لا طاقة لمثلى باحتمال مثله
    حتى جاءنى ذات ليلة بداهية الدواهي ومصيبة المصائب ، فكانت آخر عهدي به !!.
    دخلت عليه فرأيته واجما مكتئباً ، فحييته ، فأوماً إلي بالتحية إيماء فسألته : ما باله؟
    فقال : ما زالت منذ الليلة من هذه المرأة في عناء لا أعرف السبيل إلى الخلاص منه، ولا أدري مصير أمري فيه
    قلت : واي أمرأة تريد؟..
    قال : تلك التي يسميها الناس زوجتى ، وأسميها الصخرة العاتية القائمة في طريق مطالبي وآمالي.
    قلت : إنك كثير الآمال يا سيدي ، فعن أي آمالك تحدث ؟
    قال : ليس لي في الحاة إلا أمل واحد ، وهو أن أغمض عينى ثم افتحها فلا أري برقعا على وجه أمرأة في هذا البلد.
    قلت :ذلك ما لا تملكه ، ولا رأي لك فهي .
    قال : إن كثيراً من الناس يرون في الحجاب رأيي ، ويتمنون في أمره ما أتمنى ، ولا يحول بينهم وبين تمزيقه عن وجوه نسائهم وإبرازهن إلى الرجال يجالسنهم كما يجلس بعضهن إلى بعض إلا العجز والضعف والهيبة التي لا تزال تلم بنفس الشرقي كلما حاول الإقدام على أمر جديد ، فرأيت أن أكون أو هادم لهذا البناء العادي(2 ) القديم الذي وقف سداً دون سعادة الأمة وارتقائها دهراً طويلاً ، وأن يتم علي يدي من ذلك ما لم يتم على يد أحد غيري من دعاء الحرية وأشياعها ، فعرضت الأمر على زوجتي فأكبرته واعظمته وخيل إليها أننى جئتها بنكبة من نكبات الدهر أو رزيئة من رزايا ، وزعمت أنها إن برزت إلى الرجال فإنها لا تستطيع أن تبرز إلي النساء من بعد ذلك حياء منهن وخجلاً ولا خجل هناك ولا حياء ولكنه الموت والجمود والذل الذي ضربه الله على هولياء النساء في هذا البلد (3) أن يعشن في قبور مظلمة من خدروهن حتى يأتيهن الموت فينتقلن من مقبرة الدنيا إلي مقبرة الاخرى ، فلابد لى أن أبلغ أمنيتى وأن اعالج هذا الرأس القاسي المتحجر علاجاً ينتهي بإحدى الحسنيين ، إما بكسرة أو بشفائة !
    فورد على من حديثه ما ملأ نفسي هما وحزناً
    ونظرات أليه نظرة الراحم الراثي ، وقلت له : أعالم أنت أيها الصديق ما تقول
    قال : نعم أقول الحقيقة التي أعتقدها وادين نفسي بها واقعة من نفسك ونفوس الناس جميعاً حيث وقعت .
    قلت : هل تأذن لي أن أقول لك إنك عشت برهة من الزمان في ديار قوم لا حجاب بين رجالهم ونسائهم فهل تذكر أن نفسك حدثتك يوماً من الأيام وأنت فيهم بالطمع في شئ مما لا تملك يمينك فنلت ما تطمع فيه من حيث لا يشعر مالكه ؟
    قال : رقما وقع لي شيء من ذلك فماذا تريد؟
    أريد أن أقول لك : إني أخاف على عرضك أن يلم به من الرجال ما ألم بأعراض الرجال منك!
    قال : إن المرأة الشريفة تستطيع أن تعيش بين الرجال من شرفها في حصن حصين لا تمتد إليه الاعناق فتداخلني ما لم أملك نفسي معه وقلت :
    تلك هي الخدعة التي يخدعكم بها الشيطان أيها الضعفاء ، والثلمة التي يعثر بها في زوايا رووسكم فينحدر منها إلى عقولكم ومدارككم فيفسدها عليكم ، فالشرف كلمة لا وجود لها إلا في قواميس اللغة ومعاجمها ، فإن أردنا أن نفتش عنها في قلوب الناس وأفئدتهك فإنا لا نجدها والنفس الإنسانية كالغدير الراكد لا يزال صافياً رائقاً حتى يسقط فيه حجر فإذا هو مستنقع كدر .
    والعفة لون من ألون النفس ، لا جوهر من جواهرها، وقلما تثبت الالوان على أشعة الشمس المتساقطة .
    قال : أتنكر وجود العفة بين الناس ؟
    قلت : لا أنكرها لأني أعلم أنها موجوده بين البله والضفاء والمتعملين ، ولكني أنكر وجودها عند الرجل القادر المختلب ، والمرأة الحاذقة المترفقة إذا سقط من بينهما الحجاب وخال وجه كل منهما لصاحبة !.
    في أي جو من أجواء هذا البلد تريدون أن تبرز نسأؤكم لرجالكم ؟!
    أفي جو المتعلمين وفيهم من سئل مرة : لم لم يتزوج ؟ اجاب : نساء الامة جميعاً نسائي!!!.
    أم في جو الطلبة وفيهم من يتوارى عن أعين خالنة واترابه حياء وخجلاً إن خلت محفظته يوماً من الأيام من صور عشيقاته وخليلاته أو أقفزت من رسائل الحب والغرام ؟!
    أم في جو الرعاع والغوغاء وكثير منهم يدخل البيت خادماً ذليلاً ، ويخرج منه صهراً كريماً ؟!
    وبعد:
    فما هذا الولع بقصة المرأة ، والتمطق(1) بحديثها والقيام والقعود بأمرها ، وأمر حجابها وسفورها وحريتها وأسرها؟.
    كأنما قد قمتم بكل حق واجب للأمة عليكم في أنفسكم فلم يبق إلا أن تفيضوا من تلك النعم على غيركم!
    هذبوا رجالكم قبل أن تهذبوا نساءكم فإن عجزتم عن الرجال فأنتم عن النساء أعجز.
    أبواب الفخر أمامكم كثيرة فاطرقوا أيها شئتم ودعوا هذا الباب موصداً فإنكم إن فتحتموه فتحتم على أنفسكم ويلاً عظيماً ، وشقاءً طويلاً.
    أروني رجلاً واحداًَ منكم يستطيع أن يزعم في نفسه أنه يمتلك هواه بين يدي أمرأة يرضاها فأصدق أن امراة تستطيع أن تمتلك هواها بين يدي رجل ترضاه ؟!
    إنكم تكلفون المرأة ما تعلمون أنكم تعجزون عنه ، وتطلبون عندها ما لا تعرفونه عند أنفسكم.
    فأنتم تخاطرون بها في معركة الحياة مخاطرة لا تعلمون : اتربحونها من بعدها أ م تخسرونها ؟ وما أحسبكم إلا خاسرين.
    ما شكت المرأة إليكم ظلماً ، ولا تقدمت إليكم في أن تحلوا قيدها، وتطلقوها من أسرها ، فما دخولكم بينها وبين نفسها ؟ وما تمضغكم ليلكم ونهاركم بصصها واحاديثها!؟
    إنها لا تشكو إلا فضولكم وإسفافكم ، ومضايقتكم لها ، ووقوفكم في وجهها حيثما سارت ، وأينما حلت ، حتى ضاق بها وجه ألفضاء فلم تجد لها سبيلاً إلا أن تسجنه نفسها بنفسها في بيتها فوق ما سجنها أهلها ، فأوصدت من دونها بابها وأسبلت أستارها ترماً بكم، وفراراً من فضولكم ، فواعجباً لكم تسجنونها بأيديكم ثم تقفون على باب سجنها تبكونها وتدبون شقاءهاً!!
    إنكم لا ترثون لها بل ترثون لانفسكم ، ولا تبكون عليها بل على أيام قضيتموها في ديار يسيل جوها تبرجاً وسفوراً ويتدفق حرية واستهتاراً (1) وتودون بجدع الانف لو ظفرتم هنا بهذا العيش الذي خلفتموه هنا! .
    لقد كنا وكانت العفة في سقاء (2) من الحجاب موكوء (3) فما زلتم به تثقبون في جوانبه كل يوم ثقباً والعفة تتسلل منه قطرة قطرة حتى تقبض(4) وتضاءل ثم لم يكفكم ذلك منه حتى جئتم اليوم تريدون أن تحلوا وكاءة حتى لا تبقى فيه قطرة واحدة
    عاشت المرأة المصرية حقبة من دهرها هادئة مطمئنة في بيتها راضية عن نفسها وعن عيشها، ترى السعادة كل السعادة في واجب تؤديه لنفسها ، أو وقفة تقفها بين يدي ربها ، أو عطفة تعطفها على ولدها أو جلسة تجلسها إلى جارتها فتبثها ذات نفسها وتستبثها سريرة قلبها وترى الشرف كل الشرف في خضوعها لابيها وائتمارها بأمر زوجها ونزولها عند رضاهما .
    وكانت تفهم معنى الحب وتجهل معنى الغرام فتحب زوجها لأنه زوجها ، كما تحب ولدها لأنه ولدها فإن رأي النساء غيرها أن الحب أساس الزواج رأته هي أن الزواج اساس الحب ، فقلتم لها إن هؤلاء الذي يستبدون بأمرك من أهلك ليسوا بأكبر منك عقلاً ولا أفضل رأياً ولا أقدر على النظر لك من نظرك لنفسك ، فلا حق لهم في هذا السلطان الذي يزعمونه لنفسهم عليك فازدرت أباها ، وتمردت على زوجها واصبح البيت الذي كان بالأمس عرصاً من الاعراص الضاحكة مناحة قائمة لا تهدأ نارها ولا يخبو أوارها.
    وقلتم لها : لا بد لك أن تختاري زوجك بنفسك حتى لا يخدعك أهلك عن سعادة مستقبلك (1) فاختارت بنفسها أسوأ مما اختار لها أهلها فلم يزد عمر سعاد المرأة في حياتها أن يكون زوجها عشيقها ، وما كانت تعرف إلا أن الزوج غير العشيق فأصبحت تطلب في كل يوم زوجاً جديداًَ يحيي من لوعة الحب ما أمات القديم فلا قديماً استبقت ولا جديداً أفادت
    وقلتم لها لابد لك أن تتعلمي لتحسني تربية ،ولدك والقيام على شؤون بيتك فتعلمت كل شئ إلا تربية ولدها ولا قيام على شؤون بيتها!
    وقلتم لها إنا لا نتزوج من النساء إلا من نحبها ونرضاها ويلاءم ذوقها ذوقنا، وشعورها شعورنا فكان لابد لها أن تعرف مواقع أهوائكم ومسارح انظاركم لتتجمل لكم بما تحبون ، فراجعت فهرس اعمالكم في حياتكم صحفة صحفة فلم تر فيه غير أسماء الخليعات المستهترات والضاحكات اللاعبات والاعجاب بهن والثناء على ذكائهن وفطنتهن ، فتخلعت واستهتر لتبلغ رضاكم وتنزل عند محبتكم ثم تقدمت إليكم بهذا الثوب الرقيق الشفاف تعرض نفسها عليكم عرضاً كما يعرض النخاس أمته في سوق الرقيق فأعرضتم عنها ونبوتم بها .
    وقلتم لها إنا لا نتزوج النساء العاهرات كأنكم لا تبالون أن يكون نساء الأمة جميعاً ساقطات إذا سلمت لكم نساؤكم فرجعت أدراجها خائبة منكسرة وقد أباها الخليع وترفع عنها المحتشم فلم تجد بين يديها غير باب السقوط فسقطت وهكذا انتشرت الربية في نفوس الأمة جميعها وتمشت الظنون بين رجالها ونسائها ، فتحاجز الفريقان وأظلم الفضاء بينهما، وأصبحت البيوت كالأديرة لا يرى فيها الرائي إلا رجالاً مترهبين ونساء عانسات
    ذلك بكاؤكم على المرأة أيها الراحمون ، وهذا رثاؤكم لها وعطفكم عليها!
    نحن نعلم كما تعلمون أن المرأة في حاجة إلى العلم فليهذبها أبوها أو اخوها فالتهذيب أنفع لها من العلم (1) وإلي اختيار الزوج العادل الرحيم فليحسن الآباء الاختيار لبناتهم وليجمل الأزواج عشرة نساءهم وإلي النور والهواء تبرز إليهما تتمتع فيهما بنعمة الحياة فليأذن لها أولياؤها بذلك وليرافقها رفيق منهم في غداوتها وروحاتها كما يرافق الشاة راعيها خوفاً عليها من الذئاب فإن عجزنا عن أن نأخذ الآباء والإخوة والأزواج بذلك فلنفض أيدينا من الامة جميعها : نسائها ورجالها فليست المرأة بأقدر على إصلاح نفسها من الرجل على إصلاحها .
    أعجب ما أعجب له من شؤونكم أنكم تعلمتم كل شئ إلا شيئاً واحدا هو أدنى إلى مدارككم أن تعلموة قبل كل شيء وهو أن لكل تربة نباتاً ينبت فيها ولكل نبات زمناً ينمو فيه .
    رأيتم العلماء في أوروبا يشتغلون بكماليات العلوم بين أمم قد فرغت من ضرورياتها فاشتغلتم بها مثلهم في أمة لا يزال سوادها الاعظم في حاجة إلى معرفة حروف الهجاء .
    ورأيتم الفلاسفة فيها ينشرون فلسفة الكفر بين شعوب ملحدة ، لها من عقولها وآدابها ما قد يغنيها بعض الغناء عن إيمانها(1) فاشتغلتم بنشرها بين أمة ضعيفة ساذجة لا يغنيها عن إيمانها شئ
    ورايتم الرجل الأوروبي حرا مطلقاً يفعل ما يشاء ويعيش كما يريد لأنه يستطيع أن يملك نفسه وخطواته في الساعة التي يعلم فيها أنه قد وصل إلى حدود الحرية التي رسمها لنفسه فلا يتخطاها فأردتم أن تمنحوا هذه الحرية نفسها رجلاً ضعيف الإرادة والعزيمة يعيش من حياته الادبية على رأس منحدر زلق فإن زلت به قدمه مرة انحدر من حيث لا يستطيع أن يستمسك حتى يبلغ الهوة ويتردى في قرارتها .
    ورأيتم الزوج الأوروبي الذي أطفات البيئة غيرته وأزالت خشونة نفسه وحرشتها يستطيع أن يرى زوجته تخاصر من تشأء من الرجال وترافق من تشأء وتخلو بمن تشاء ، فيقف أمام ذلك المشهد موقف الجامد المتبلد فأردتم من الرجل الشرقي الغيور المتلهب أن يقف موقفه ويستمسك استمساكه
    ورأيتم المرأة الأوربية الجريئة المتفتية تستطيع في بعض مواقفها بين الرجال أن تحتفظ بعصمتها ! فأردتم من المرأة المصرية الضعيفة الساذجة أن تبرز للرجال بروزها وتحتفظ بنفسها احتفاظها!
    وكل نبات يزرع في أرض غير أرضه ، أو ساعة غير ساعته ، إما أن تأباه الارض فتلفظه ،وإما أن ينشب فيها فيقفسدها .
    إنا نضرع إليكم باسم ( خالق الأرض والسماء ونذكركم) بالشرف الوطنى والحرمة الدينية أن تتركوا تللك البقية الباقية من نساء الأمة آمنات مطمئنات في بيوتهن ولا تزعجوهن بأحلامكم وآمالكم كما أزعجتم من قبلهن .
    فكل جرح من جروح الأمة له دواء الأ جرح الشرف ، فلا دواء له ، فإن أبيتم إلا أن تفعلوا ! فانتظروا بأنفسكم قليلاً ريثما تنتزع الايام من صدروكم هذه الغيرة التي ورثتموها عن آبائكم وأجدادكم لتستطيعوا أن تعيشوا في حياتكم الجديدة سعداء آمنين.
    فما زاد الفتى على أن ابتسم في وجهي أبتسامة الهزء والسخرية وقال : تلك حماقات ما جئنا إلما لمعالجتها ، فلنصطبر عليها حتى يقضى الله بيننا وبينها
    فقلت له : لك أمرك في نفسك وفي أهلك فاصنع بهما ما تشاء وائذن لي أن أقول لك: إني لا أستطيع أن أختلف إليك (1) بعد اليوم إبقاءً عليك وعلى نفس لأنى أعلم أن الساعة التي ينفرج لي فيها جانب ستر من أستار بيتك عن وجه امرأة من أهلك تقتلينى حياء وخجلاً .
    ثم انصرفت وكان هذا آخر مابينى وبينه .
    وما هي إلا أيام قلائل حتى سمعت الناس يتحدثون أن فلاناً هتك الستر في منزلة بين نسائه وأصدقائه ، وأن بيته قد أصبح مغشياً لا تزال النعال خافقة ببابة .
    فذرفت عينى دمعة لا أعلم : هل هي دمعة الغيرة على العرض المذال أو الحزن على الصديق المفقود؟!!
    مرت على تلك الحادثة ثلاثة أعوام لا أزوره فيها ولا يزورنى ولا ألقاه في طريقة إلا قليلاً فأحيية تحية الغريب للغريب من حيث لا يجري لما كان بيننا ذكر ثم أنطلق في سبيلى
    فأني لعائد إلى منزلي ليلة أمس وقد مضى الشطر الأول من الليل إذارأيته خارجاً من منزله يمشى مشية المضطرب الحائر، وبجانبه جندي من جنود الشرطة ، كأنما هو يحرسه أو يقتاده ، فأهمنى أمره ، ودنوت منه، فسألته عن شأنه ؟.
    فقال : لا علم لي بشئ سوى أن هذا الجندى قد طرق الساعة بابي يدعوني إلى مخفر الشرطة ولا اعلم لمثل هذه الدعوة في مثل هذه الساعة سبباً ، وما أنا بالرجل المذنب ولا المريب ، فهل استطيع أن أرجوك – ياصديقى القديم – بعد الذي كان بينى وبينك أن تصحبنى الليلة في وجهي هذا ، علني احتاج إلى معونتك فيما قد يعرض لي هناك من الشؤون ؟
    قلت : لا احب إلى من ذلك ؟.
    ومشيت معه صامتاً لا أحدثه ، ولا يقول لي شيئاً حتى شعرت كأنه يزور(1) في نفسه كلاماً يريد أن يفضي به إلى فيمنعه الخجل والحياء ، ففاتحته الحديث وقلت له :
    ألم تستطع أن تتذكر لهذه الدعوة سبباً ؟.
    فنظر إلى نظرة حائرة وقال : إن خوف ما أخافة أن يكون قد حدث لزوجتى الليلة حادث مؤلم ، فقد رابنى من أمرها أنها لم تعد إلي منزلها حتى الساعة ، وما كان ذلك شأنها من قبل!.
    قلت : أما كان يصحبها أحد؟
    قال : لا .
    قلت : ألا تعلم المكان الذي ذهبت إليه ؟.
    قال : لا .
    قلت : ومم تخاف عليها ؟
    قال : لا اخاف شيئاً سوى أنى اعلم أنها امرأة غيرو حمقاء ، فلعل بعض الناس حاول العبث بها في طريقها فشرست عليه فوقعت بينهما واقعة انتهى حديثها إلى رجال الشرطة .
    وكنا قد وصلنا إلى المخفر فاقتادنا الجندي إلي قاعة المأمور ، حتى صرنا بين يديه فأشار إلى جندي أمامه إشارة لم نفهمها ، ثم استدني الفتي إليه ، وقال له : يسوؤني يا سيدي أن أقول لك : أن رجال الشرطة قد عثروا الليلة في مكان من أمكنة الريبة على رجل وأمرأة في حال غير صالحة فاقتادوهما إلى مخفر ، فزعمت ألمرأة أن لها بك صلة ،فدعوناك لتكشف لنا الحقيقة فيأمرها ، وأمر صاحبها ، فأن كانت صادقة أذنا لها بالأنصراف معك : اكراماً لك ، وإبقاء على شرفك والا فهي امرأة فاجرة لا نجاة لها من عقاب الفاجرات وهاهما وراءك فانظرهما.
    وكان الجندي قد جاء بهما من غرفة اخرى ، فنظر ، فإذا المرأة زوجته وإذا الرجل احد اصدقائة .
    فصرخ صرخة رجفت لها جوانب المخفر وملأت نوافذة وأبوابه عيوناً وآذاناً ، ثم سقط في مكانه مغشياً عليه
    فأشرت على المأمور أن يرسل المرأة إلى منزل أبيها ، ففعل وأطلق سبيل صاحبها ، ثم حملنا الفتى في مركبة إلى منزله ودعونا الطبيب ، فقرر أنه مصاب بحمى دماغية شديد ولبث ساهرا بجانبه بقية الليل يعالجه ، حتى دنا الصبح ، فانصرف على أن يعود متى دعوناه ، وعهد إلي بأمره، فلبثت بجانبه أرثي لحاله ، وأنتظر قضاء الله فيه، حتى رايته يتحرك في مضجعة ثم فتح عينية ، فرآنى ، فلبث شاخصا إلى هنيهة كأنما يحاول أن يقول لى شيئاً فلا يستطيعه فدنوت منه وقلت
    هل من حاجة يا سيدي ؟..
    فأجاب بصوت ضعيف خافت حاجتي أن لا يدخل على من الناس أحد
    قلت : لن يدخل عليك إلا من تريد
    فأطرق هنيهة ثم رفع رأسة فإذا عيناه مبتلتان بالدموع .
    فقلت : ما بكاؤك ياسيدى ؟
    قال : أتعلم أين زوجتى الان ؟
    قلت : وماذا تريد منها؟
    قال: لا شيء سوى أن أقول لها : إني عفوت عنها.
    قلت : إنها في بيت أبيها.
    قال : وارحمتاه لها، ولابيها ، ولجميع قومها، فلقد كانوا قبل أن يتصلوا بي شرفاء أمجاداً فألبتسعم مذ عرفوني ثوباً من العار لا تبلوه الايام .
    من لي بمن يبلغهم عني جميعاً أني رجل مريض مشرف (1)، وأننى اخشى لقاء الله إن لقيته بدمائهم ، وأننى اضرع إليهم أن يصفحوا عني ويغتفروا ذنبي ، قبل أن يسبق إلي اجلي .
    لقد كنت أقسمت لأبيها يوم اهتديتها(2) ، أن أصون عرضها صيانتى لحياتى ، وأن أمنعها مما أمنع منه نفسي فحنثت في يمينى فهل يغفر لي ذنبي فيغفر لي الله بغفرانك ؟!.
    إنها قتلتيى ، ولكني أنا الذي وضعت في يدها الخنجر الذي اغمدته في صدري فلا يسألها أحد عن ذنبي!.
    البيت بيتى والزوجة زوجتي والصديق صديقي وأنا الذي فتحت باب بيتى لصديقي إلي زوجتى ، فلم يذنب إلي أحد سواي .
    ثم أمسك عن الكلام لحظة فنظرت إليه فإذا سحابة سوداء تنتشر فوق جبينه شيئاً فشيئاً ، حتى لبست وجهة ، فزفر زفرة خلت أنها خرقت حجاب قلبه ، ثلم أنشأة يقول :
    آه ما اشد الظلام أمام عينى ، وما أضيق الدنيا في وجهي في هذ الغرفة على هذا المقعد تحت هذا السقف كنت أراهما جالسين يتحدثان فتمتلئي نفس غبطة وسروراً ، وأحمد الله على أن رزقني بصديق وفي يونس زوجتي في وحدتها وزوجة سمحة كريمة تكرم صديقى في غيبتي فقولوا للناس جميعاً : إن ذلك الرجل الذي كان يفخر بالامس بذكائه
    وفطنته ويزعم أنه أكيس الناس وأحزمهم ، قد أصبح يعترف اليوم أنه أبله إلى الغاية من البلاهة وإبي إلى الغاية التي لا غاية وراءها!.
    والهفاً على أم لم تلدني ، وأب عاقر لا نصيب له في البنين(1)!.
    لعل الناس كانوا يعلمون من أمري ما كنت اجهل ، ولعلهم كانوا إذا مررت بهم يتناظرون ويتغامزون ، ويبتسم بعضهم إلى بعض أو يحدقون إلى ويطيلون النظر في وجهي ليروا كيف تتمثل البلاهة في وجوه البله ، والغباوة في وجوه الاغبياء .
    ولعل الذين كانوا يطيفون بى ، ويتوددون إلي من أصدقائي إنما كانوا يفعلون ذلك من أجلها لا من أجلي ولعلهم كانوا يسموننى فيما بينهم وبين أنفسهم قواداً ، ويسمون زوجتى مومساً ، وبيتى ماخوراً (2)
    فوراحمتاه لي إن بقيت على ظهر الأرض بعد اليوم ساعة واحدة ، ووالهفاً على زاوية من زوايا قبر عميق يطوينى ويطوى عاري معي
    ثم أغمض عينيه وعاد إلى ذهوله واستغراقه
    وهنا : دخلت الحجرة مرضع ولده تحمله على يدها ، حتى دنت به من فراشة ، فتركته وانصرفت.
    فما زال الطفل يدب على يدية حتى علا صدر أبيه فأحس به ففتح عينيه ، فرآه ، فابتسم لمرآة ، وضمه إليه ضمة الرفق والحنان وأدنى فمه من وجهة كأنما يريد أن يقبله ثم انتفض فجأة واستسر (1) بشره ، ودفعة عنه بيده دفعاً شديداً فانكفأ على وجهة يبكى ويصيح وقال: أبعدوه عنى لا أعرفه ليس لي أولاد ولا نساء سلوا أمه عن أبيه! أين مكانه؟ واذهبوا به إليه لا ألبس العار في حياتي واتركه اثراً خالداً ورائي بعد مماتى .
    وكانت المرضع قد سمعت صياح الطفل فعادت إليه وحملته وذهبت به .
    فسمع صوته وهو يبتعد عنه شيئا فشيئاً ، فأنصت إليه واستعبر باكياً وصاح :
    أرجعوا إلي .
    فعادت به المرضع فتناوله من يدها وأنشأ يقلب نظره في وجهة ويقول :
    في سبيل الله يا بني ما خلف لك أبوك من اليتم ، وما خلفتلك أمك من العار ، فاغفر لهما ذنبهما إليك فلقد كانت أمك امرأة ضعيفة فعجزت عن احتمال صدمة القضاء فسقطت وكان أبوك حسن النية في جريمته التي اجترمها فأساء من حيث أراد الإحسان .
    سواء أكنت ولدي يا بني او ولد الجريمة فإني قد سعدت بك برهة من الدهر ، فلا انسي يدك عندي حيا أو ميتا !.
    ثم احتضنه إليه وقبله في جبينه قبله ، لا اعلم هل هي قبلة الاب الرحيم ، أو الرجل الكريم !
    وكان قد بلغ منه الجهد فعاودته الحمى وغلت نارها في رأسة وما زال يثقل شيئاً فشيئاً حتى خفت عليه التلف، فأرسلت وراء الطبيب فجاءه وألقي عليه نظرة طويلة ، ثم استردها مملوءة يأساً وحزناً
    ثم بدأ ينزع نزعاً شديداً ويئن أنيناً مؤلماً فلم تبق عين من العيون المحيطة به إلا أرفضت عن كل ما تستطيع أن تجود به من مدامعها.
    فإنا لجلوس حوله ، وقد بدأ الموت يسبل أستراه السوداء حول سريره وإذا بامرأة متزرة بإزار أسود قد دخلت الحجرة وتقدمت نحوه ببطء حتى ركعت بجانبه ، ثم اكبت على يده الممتدة فوق صدره قفبلتها ، وأخذت تقول له:
    لا تخرج من الدنيا وانت مرتاب في ولدك ، فإن أمه تعترف بين يديك وأنت ذاهب إلى ربك تسألة عن قولها أنها وإن كانت دنت من الجريمة فإنها لم ترتكبها فاعف عنى يا والد ولدي واسأل الله عندما تقف بين يديه أن يلحقنى بك فلا خير لي في الحياة من بعدك .
    ثم انفجرت باكية ، ففتح عينية ، وألقي على وجهها نظرة باسمة كانت هي آخر عهده بالحياة وقضي .
    الآن عدت من المقبرة بعد ما دفنت صديقي بيدى وأودعت حفرة القبر ذلك الشباب الناضر ، والروض الزاهر .
    وجلست لكتابة هذه السطور وأنا لا أكاد املك مدامعي وزفراتي فلا يهون وجدي عليه إلا أن الأمة كانت على باب خطر من أخطارها فتقدم هو أمامها إلى ذلك الخطر وحدة فاقتحمه فمات شهيداً بين يديها فنجت بهلاكه

  • #2
    مشكور اخوي بس والله قصتك طويله حيل وقريت منها ونشا الله اقدر اكمل الباجي ولك الشكر

    تعليق


    • #3
      مشكوووووووووووووور اخوي على الموضوع ولله يعطيك العافيه

      تعليق


      • #4
        هلا وغلا

        فووواز

        تسلم على القصة

        جميلة ومعبرة

        نسأل الله العفو والعافية

        دمت مظللا بالسعادة

        تعليق

        يعمل...
        X