الرأس المقدّس
قال خالد بن معدان التابعي لمّا رأى رأس الإمام الحسين عليه السّلام في الشام، وكان حَملَه شمرُ بن ذي الجوشن الكِلابي وهو أحد قتَلَة الحسين عليه السّلام:
جاؤوا برأسِك يا ابنَ بنتِ محمّدٍ مُتَرمِّـلاً بدمـائـه تَـرميـلا
وكـأنّمـا بك يا ابنَ بنتِ محمّدٍ قَتَلـوا جِهـاراً عامِدين رسولا
قَتَلوكَ عطشانـاً ولمّـا يَرقُبـوا في قتـلِكَ التأويـلَ والتنزيـلا
ويُكبِّـرونَ بـأنْ قُتِلـتَ، وإنّما قَتَـلوا بـك التكبيـرَ والتهليـلا
قال زيد بن أرقم: كنتُ في غرفةٍ لي فمرّوا علَيّ بالرأس وهو يقرأ: أَمْ حَسِبتَ أنّ أنّ أصحابَ الكهفِ والرَّقيمِ كانوا مِن آياتِنا عَجَباً ، فوقف شَعري وقلت: واللهِ ـ يا ابن رسول الله ـ رأسُك أعجب، وأعجب! (1)
ولمّا نُصب الرأس الأقدس في موضع الصَّيارفة، أراد سيد الشهداء عليه السّلام توجيه النفوس نحوه ليسمعوا بليغَ عِظاته، فتنحنح تنحنحاً عالياً، فاتّجه إليه الناس وقد اعترتهم الدهشة حيث لم يسمعوا رأساً مقطوعاً يتنحنح قبل يوم الحسين عليه السّلام، فعندها قرأ سورة الكهف إلى قوله تعالى: إنّهُم فِتْيةٌ آمَنُوا بربِّهم وزِدْناهُم هدى .. وصُلِب على شجرةٍ فاجتمع الناس حولها ينظرون إلى النور الساطع، فأخذ الرأس الشريف يقرأ: وسيَعلَمُ الذينَ ظَلَموا أيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبون! (2).
ويحدّث ابن وكيدة أنّه سمع الرأس الأقدس يقرأ سورة الكهف، فشكّ في أنه صوتُه أو غيره، فترك عليه السّلام القراءة والتَفتَ إلى ابن وكيدة يخاطبه: يا ابنَ وكيدة! أمَا علمتَ أنّا معاشرَ الأئمّة أحياء عند ربّهم يُرزَقون ؟!
فعزم ابن وكيدة على أن يسرق الرأس ويدفنه، وإذا بالخطاب من الرأس الأزهر: يا ابنَ وكيدة! ليس إلى ذلك من سبيل، إنّ سفكَهم دمي أعظمُ عند الله مِن تسييري على الرمح، فذَرْهُم فسوف يعلمونَ إذِ الأغلالُ في أعناقهم والسلاسلُ يُسحَبون (3).
وقد ذكر الطبري في ( تاريخه 267:6 )، وابن الأثير في ( الكامل في التاريخ 35:4 )، وسبط ابن الجوزي في ( تذكرة خواصّ الأمّة 148 )، وابن حجر في ( الصواعق المحرقة 116)، وابن مفلح الحنبلي في ( الفروع في فقه الحنابلة 549:3 )، والهيثميّ في ( مجمع الزوائد 195:5 )، وابن الصبّاغ المالكي في ( الفصول المهمّة في معرفة أحوال الأئمّة 250 )، والمقريزي في ( خططه 289:3 )، وابن كثير في ( البداية والنهاية 192:8 ).. وغيرهم كثير أن يزيد بن معاوية أخذ قضيباً وجعل ينكث ثغر الإمام الحسين عليه السّلام وثناياه الشريفة.
وقد قال أبو بَرزَة الأسلَمي: أشهد لقد رأيتُ النبيَّ يرشف ثناياه وثنايا أخيه الحسن ويقول: أنتما سيّدا شباب أهل الجنّة، قتَلَ اللهُ قاتِلَكُما، ولعَنَه وأعدّ له جهنّمَ وساءت مصيراً! فغضب يزيد من أبي بَرزَة، وأمرَ به فأُخرِج سَحْباً (4).
والتفتَ رسولُ قيصر الروم ـ وكان قد اتّفق أن حضر عند يزيد ـ فقال له: إنّ عندنا في بعض الجزائر حافِرَ حمارِ عيسى، ونحن نحجّ إليه في كلّ عام من الأقطار ونُهدي إليه النُّذورَ ونُعظّمه كما تُعظّمون كتبكم، فأشهدُ أنّكم على باطل (5)، فأَغضبَ يزيدَ هذا القولُ وأمر بقتله، فقام إلى الرأس وقبّله، وتشهّد الشهادتين، وعند قتله سمع أهلُ المجلس من الرأس الشريف صوتاً عالياً فصيحاً « لا حولَ ولا قوّةَ إلاّ بالله! » (6).
ثمّ أُخرِج الرأسُ الشريف من المجلس وصُلِب على باب القصر ثلاثة أيّام (7).. فلمّا رأت هندُ بنت عمرو بن سُهيل زوجةُ يزيد الرأسَ على باب دارها والنورُ الإلهي يسطع منه ودمُه طريّ لم يَجِفّ، ويُشَمّ منه رائحةٌ طيّبة (8)، دخلت مهتوكة الحجاب وهي تقول: رأس ابن بنت رسول الله على باب دارنا!! (9).
وأمر يزيد بالرؤوس ـ رؤوس شهداء كربلاء ـ أن تُصلَبَ على أبواب البلد والجامع الأُموي، ففعلوا بها ذلك (10). ورحم الله الشاعر حيث يقول:
أروحُـك أم روحُ النبـوّةِ تَـصـعَـدُ من الأرضِ للفردَوسِ والحُورُ سُجَّدُ ؟!
ورأسُك أم رأسُ الرسـولِ على القَنـا بآيـةِ أهـلِ الـكـهفِ راح يُـردِّدُ ؟!
ورحم الله الشاعر الآخر إذ يقول:
لهفي لرأسِك فوقَ مسلوبِ القَنـا يكـسـوهُ مِـن أنـوارِه جِلبابا
يتلو الكتابَ على السِّنان.. وإنّما رفعوا به فوقَ السنانِ كتابا (11)
تحقيقات
وقع الخلاف بين المؤرّخين في موضع دفن الرأس المطهَّر للإمام الحسين بن عليّ عليهما السّلام، في: كربلاء، أم دمشق، أم القاهرة.. أم غيرها ؟
ولعلّ السبب في حيرتهم أنّ السلطة الأُموية الغاشمة أمَرَت بأن يُطاف بالرؤوس الشريفة لشهداء كربلاء في البلدان ـ كما تنصّ على ذلك كتب التاريخ ـ وفي كلّ موضعٍ وُضع رأس سيد الشهداء سبط رسول الله صلّى الله عليه وآله ثمّ حُمل إلى مكانٍ آخر، فاتّخذ المؤمنون الموالون كلَّ موضعٍ للرأس الأقدس مَقاماً يرمز إلى التضحية والجهاد وإلى ظليمة آل البيت عليهم السّلام.
وعمدة الأقوال في هذا الباب ثلاثة:
القول الأوّل: أنّ الرأس المقدَّس دُفن مع الجسد الشريف بكربلاء، وهو الرأي الأقوى والأشهر. قاله ابن حجر العسقلاني في كتابه ( الإصابة في تمييز الصحابة 7:2 ) وعلّق على هذا الرأي بقوله: ولهذا السبب يُعبِّر البعض عن يوم الأربعين بـ « يوم مَرَدّ الرأس » في العراق. وفي روايةٍ لأبي مخنف أنّ غلاماً مِن خاصّة يزيد اشترى رأس الإمام الحسين عليه السّلام بمئة ألف دينار، وردّه إلى كربلاء.
أمّا ابن طاووس فيؤكّد عودة الرأس الأزهر إلى البدن الشريف بكربلاء حيث يقول: فأمّا رأس الحسين عليه السّلام، فرُوي أنّه أُعيد فدُفن بكربلاء مع جسده الشريف، وكان عمل الطائفة على هذا، ورُويت آثارٌ كثيرة مختلفة على ما ذكرناه، انتهى.
وخير من يجمع لنا دلائل ذلك من المحقّقين المعاصرين المرحوم السيّد عبدالرزّاق الموسوي المقرّم حيث يقول في كتابه القيّم ( مقتل الحسين عليه السّلام ص 362 ـ 363 ): لمّا عرف زينُ العابدين ( عليّ بن الحسين عليهما السّلام ) الموافقة مِن يزيد، طلَبَ منه الرؤوس كلَّها ليدفنها في محلّها، فلم يتباعد يزيد عن رغبته، فدفع إليه رأس الحسين مع رؤوس أهل بيته وصحبه، فألحقها عليه السّلام بالأبدان.
نَصَّ على مجيئه بالرؤوس إلى كربلاء: حبيب السير ـ لغياث الدين الهروي، كما في نَفَس المهموم ص 253، ورياض الأحزان ص 155. وأمّا رأس الحسين عليه السّلام ففي: روضة الواعظين للفتّال النيسابوري ص 165، ومثير الأحزان لابن نما الحلّي ص 58: أنّه المعوَّل عليه عند الإمامية، وفي اللهوف لابن طاووس ص 112: عليه عمل الإمامية، وفي إعلام الورى بأعلام الهدى للطبرسي 477:1 ( قال: ذكر السيّد الأجلّ المرتضى قدّس الله روحه في بعض مسائله ـ رسائل الشريف المرتضى 130:3 ) أنّ رأس الحسين بن علي عليهما السّلام رُدّ إلى بدنه بكربلاء من الشام، وضُمّ إليه. وفي المقتل من كتاب العوالم للشيخ عبدالله الحراني ص 154، ورياض المصائب، وفي البحار للشيخ المجلسي ج 45: إنّه المشهور بين العلماء. وقال ابن شهرآشوب في مناقب آل أبي طالب 200:2: ذكر المرتضى في بعض رسائله أنّ رأس الحسين أُعيد إلى بدنه بكربلاء، وقال الطوسي: ومنه زيارة الأربعين، وفي البحار عن ( العُدَد القوية ) لأخ العلاّمة الحلّي، وفي ( عجائب المخلوقات ) للقزويني ص 67: في العشرين من صفر رُدّ رأس الحسين عليه السّلام إلى جثمانه. وقال الشبراوي في ( الإتحاف بحبّ الأشراف ص 12 ): قيل: أُعيد رأس الحسين بعد أربعين يوماً. وفي شرح همزية البوصيري لابن حجر: أُعيد رأس الحسين بعد أربعين يوماً من قتله، وقال سبط ابن الجوزي في ( تذكرة خواصّ الأمّة ص 150 ): انّه رُدّ إلى كربلاء فدُفن مع الجسد. والمناوي في ( الكواكب الدريّة 57:1 ) نقلَ اتّفاقَ الإمامية على أنّه أُعيد إلى كربلاء، وأنّ القرطبي رجّحه ولم يتعقّبه، بل نسب إلى بعض أهل الكشف والشهود أنّه حصل له اطّلاع على أنّه أُعيد إلى كربلاء. وقال أبو الريحان البيروني في ( الآثار الباقية 331:1 ): في العشرين من صفر رُدّ رأس الحسين إلى جثّته، حتّى دُفن مع جثّته.
والقول الثاني: أنّ مدفن الرأس في النجف الأشرف، على ضوء خبرٍ يفيد أنّ مولىً من مَوالي أهل البيت عليهم السّلام سرق الرأس الشريف ودفنه في النجف بموضع يُدعى اليوم « مسجد الحنّانة »، حتّى اشتهر لدى العوام أنّه موضع رأس سيّد الشهداء سلام الله عليه.
وذلك مستفاد ممّا رواه عبدالله بن طلحة النهدي عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّه بعدما زار أميرَ المؤمنين عليه السّلام في النجف الأشرف قال لإسماعيل ابنه: قُمْ فسلِّمْ على جدّك الحسين. فقلت: جُعِلت فداك، أليس الحسين بكربلاء ؟! قال: نعم، ولكن لمّا حُمل رأسه سرقه مولىً لنا فدفنه بجنب أمير المؤمنين عليه السّلام ( رواه: الطوسي في تهذيب الأحكام 12:2، والسيّد عبدالكريم بن طاووس في فرحة الغري ص 52. وعقد الشيخ الحر العامليّ في وسائل الشيعة ج 10 ص 309 باباً لذلك، وأورد ثماني روايات كلّها مرويّة عن الإمام الصادق عليه السّلام، واللفظ في بعضها: ( موضع رأس الحسين عليه السّلام )؛ وعليه فقد يكون المراد أنّ الرأس كان قد وُضع في ذلك المكان من مسير سبايا أهل البيت إلى الكوفة ).
القول الثالث: أنّ مدفن الرأس المقدّس في القاهرة بمصر، وهذا القول مشهور بين الجمهور، وللموضع مَقامٌ مشهود شُوهِدَت فيه البركات والكرامات.
وعلى أيّة حال، فكلّ المواضع المشهورة والمظنونة هي مهبط رحمة الله تبارك وتعالى، لِما انصرف من قلوب الناس من توجّه الولاء إلى أهل البيت عليهم السّلام، مُعرِبةً تلك القلوب عن تقديسها ومحبّتها للإمام الحسين عليه السّلام، ومنعطفةً بالتبرّك فيما يُظَنّ أنّه موضع الرأس الأقدس أو محلّ دفنه، فتستقرّ الأرواح المؤمنة عند ذلك الموضع مستعيدة ذكريات الرسالة وأهل بيت الوحي الذين طهّرهم الله جلّ وعلا تطهيراً وأمرَ بمودّتهم صلوات الله عليهم.
قال خالد بن معدان التابعي لمّا رأى رأس الإمام الحسين عليه السّلام في الشام، وكان حَملَه شمرُ بن ذي الجوشن الكِلابي وهو أحد قتَلَة الحسين عليه السّلام:
جاؤوا برأسِك يا ابنَ بنتِ محمّدٍ مُتَرمِّـلاً بدمـائـه تَـرميـلا
وكـأنّمـا بك يا ابنَ بنتِ محمّدٍ قَتَلـوا جِهـاراً عامِدين رسولا
قَتَلوكَ عطشانـاً ولمّـا يَرقُبـوا في قتـلِكَ التأويـلَ والتنزيـلا
ويُكبِّـرونَ بـأنْ قُتِلـتَ، وإنّما قَتَـلوا بـك التكبيـرَ والتهليـلا
قال زيد بن أرقم: كنتُ في غرفةٍ لي فمرّوا علَيّ بالرأس وهو يقرأ: أَمْ حَسِبتَ أنّ أنّ أصحابَ الكهفِ والرَّقيمِ كانوا مِن آياتِنا عَجَباً ، فوقف شَعري وقلت: واللهِ ـ يا ابن رسول الله ـ رأسُك أعجب، وأعجب! (1)
ولمّا نُصب الرأس الأقدس في موضع الصَّيارفة، أراد سيد الشهداء عليه السّلام توجيه النفوس نحوه ليسمعوا بليغَ عِظاته، فتنحنح تنحنحاً عالياً، فاتّجه إليه الناس وقد اعترتهم الدهشة حيث لم يسمعوا رأساً مقطوعاً يتنحنح قبل يوم الحسين عليه السّلام، فعندها قرأ سورة الكهف إلى قوله تعالى: إنّهُم فِتْيةٌ آمَنُوا بربِّهم وزِدْناهُم هدى .. وصُلِب على شجرةٍ فاجتمع الناس حولها ينظرون إلى النور الساطع، فأخذ الرأس الشريف يقرأ: وسيَعلَمُ الذينَ ظَلَموا أيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبون! (2).
ويحدّث ابن وكيدة أنّه سمع الرأس الأقدس يقرأ سورة الكهف، فشكّ في أنه صوتُه أو غيره، فترك عليه السّلام القراءة والتَفتَ إلى ابن وكيدة يخاطبه: يا ابنَ وكيدة! أمَا علمتَ أنّا معاشرَ الأئمّة أحياء عند ربّهم يُرزَقون ؟!
فعزم ابن وكيدة على أن يسرق الرأس ويدفنه، وإذا بالخطاب من الرأس الأزهر: يا ابنَ وكيدة! ليس إلى ذلك من سبيل، إنّ سفكَهم دمي أعظمُ عند الله مِن تسييري على الرمح، فذَرْهُم فسوف يعلمونَ إذِ الأغلالُ في أعناقهم والسلاسلُ يُسحَبون (3).
وقد ذكر الطبري في ( تاريخه 267:6 )، وابن الأثير في ( الكامل في التاريخ 35:4 )، وسبط ابن الجوزي في ( تذكرة خواصّ الأمّة 148 )، وابن حجر في ( الصواعق المحرقة 116)، وابن مفلح الحنبلي في ( الفروع في فقه الحنابلة 549:3 )، والهيثميّ في ( مجمع الزوائد 195:5 )، وابن الصبّاغ المالكي في ( الفصول المهمّة في معرفة أحوال الأئمّة 250 )، والمقريزي في ( خططه 289:3 )، وابن كثير في ( البداية والنهاية 192:8 ).. وغيرهم كثير أن يزيد بن معاوية أخذ قضيباً وجعل ينكث ثغر الإمام الحسين عليه السّلام وثناياه الشريفة.
وقد قال أبو بَرزَة الأسلَمي: أشهد لقد رأيتُ النبيَّ يرشف ثناياه وثنايا أخيه الحسن ويقول: أنتما سيّدا شباب أهل الجنّة، قتَلَ اللهُ قاتِلَكُما، ولعَنَه وأعدّ له جهنّمَ وساءت مصيراً! فغضب يزيد من أبي بَرزَة، وأمرَ به فأُخرِج سَحْباً (4).
والتفتَ رسولُ قيصر الروم ـ وكان قد اتّفق أن حضر عند يزيد ـ فقال له: إنّ عندنا في بعض الجزائر حافِرَ حمارِ عيسى، ونحن نحجّ إليه في كلّ عام من الأقطار ونُهدي إليه النُّذورَ ونُعظّمه كما تُعظّمون كتبكم، فأشهدُ أنّكم على باطل (5)، فأَغضبَ يزيدَ هذا القولُ وأمر بقتله، فقام إلى الرأس وقبّله، وتشهّد الشهادتين، وعند قتله سمع أهلُ المجلس من الرأس الشريف صوتاً عالياً فصيحاً « لا حولَ ولا قوّةَ إلاّ بالله! » (6).
ثمّ أُخرِج الرأسُ الشريف من المجلس وصُلِب على باب القصر ثلاثة أيّام (7).. فلمّا رأت هندُ بنت عمرو بن سُهيل زوجةُ يزيد الرأسَ على باب دارها والنورُ الإلهي يسطع منه ودمُه طريّ لم يَجِفّ، ويُشَمّ منه رائحةٌ طيّبة (8)، دخلت مهتوكة الحجاب وهي تقول: رأس ابن بنت رسول الله على باب دارنا!! (9).
وأمر يزيد بالرؤوس ـ رؤوس شهداء كربلاء ـ أن تُصلَبَ على أبواب البلد والجامع الأُموي، ففعلوا بها ذلك (10). ورحم الله الشاعر حيث يقول:
أروحُـك أم روحُ النبـوّةِ تَـصـعَـدُ من الأرضِ للفردَوسِ والحُورُ سُجَّدُ ؟!
ورأسُك أم رأسُ الرسـولِ على القَنـا بآيـةِ أهـلِ الـكـهفِ راح يُـردِّدُ ؟!
ورحم الله الشاعر الآخر إذ يقول:
لهفي لرأسِك فوقَ مسلوبِ القَنـا يكـسـوهُ مِـن أنـوارِه جِلبابا
يتلو الكتابَ على السِّنان.. وإنّما رفعوا به فوقَ السنانِ كتابا (11)
تحقيقات
وقع الخلاف بين المؤرّخين في موضع دفن الرأس المطهَّر للإمام الحسين بن عليّ عليهما السّلام، في: كربلاء، أم دمشق، أم القاهرة.. أم غيرها ؟
ولعلّ السبب في حيرتهم أنّ السلطة الأُموية الغاشمة أمَرَت بأن يُطاف بالرؤوس الشريفة لشهداء كربلاء في البلدان ـ كما تنصّ على ذلك كتب التاريخ ـ وفي كلّ موضعٍ وُضع رأس سيد الشهداء سبط رسول الله صلّى الله عليه وآله ثمّ حُمل إلى مكانٍ آخر، فاتّخذ المؤمنون الموالون كلَّ موضعٍ للرأس الأقدس مَقاماً يرمز إلى التضحية والجهاد وإلى ظليمة آل البيت عليهم السّلام.
وعمدة الأقوال في هذا الباب ثلاثة:
القول الأوّل: أنّ الرأس المقدَّس دُفن مع الجسد الشريف بكربلاء، وهو الرأي الأقوى والأشهر. قاله ابن حجر العسقلاني في كتابه ( الإصابة في تمييز الصحابة 7:2 ) وعلّق على هذا الرأي بقوله: ولهذا السبب يُعبِّر البعض عن يوم الأربعين بـ « يوم مَرَدّ الرأس » في العراق. وفي روايةٍ لأبي مخنف أنّ غلاماً مِن خاصّة يزيد اشترى رأس الإمام الحسين عليه السّلام بمئة ألف دينار، وردّه إلى كربلاء.
أمّا ابن طاووس فيؤكّد عودة الرأس الأزهر إلى البدن الشريف بكربلاء حيث يقول: فأمّا رأس الحسين عليه السّلام، فرُوي أنّه أُعيد فدُفن بكربلاء مع جسده الشريف، وكان عمل الطائفة على هذا، ورُويت آثارٌ كثيرة مختلفة على ما ذكرناه، انتهى.
وخير من يجمع لنا دلائل ذلك من المحقّقين المعاصرين المرحوم السيّد عبدالرزّاق الموسوي المقرّم حيث يقول في كتابه القيّم ( مقتل الحسين عليه السّلام ص 362 ـ 363 ): لمّا عرف زينُ العابدين ( عليّ بن الحسين عليهما السّلام ) الموافقة مِن يزيد، طلَبَ منه الرؤوس كلَّها ليدفنها في محلّها، فلم يتباعد يزيد عن رغبته، فدفع إليه رأس الحسين مع رؤوس أهل بيته وصحبه، فألحقها عليه السّلام بالأبدان.
نَصَّ على مجيئه بالرؤوس إلى كربلاء: حبيب السير ـ لغياث الدين الهروي، كما في نَفَس المهموم ص 253، ورياض الأحزان ص 155. وأمّا رأس الحسين عليه السّلام ففي: روضة الواعظين للفتّال النيسابوري ص 165، ومثير الأحزان لابن نما الحلّي ص 58: أنّه المعوَّل عليه عند الإمامية، وفي اللهوف لابن طاووس ص 112: عليه عمل الإمامية، وفي إعلام الورى بأعلام الهدى للطبرسي 477:1 ( قال: ذكر السيّد الأجلّ المرتضى قدّس الله روحه في بعض مسائله ـ رسائل الشريف المرتضى 130:3 ) أنّ رأس الحسين بن علي عليهما السّلام رُدّ إلى بدنه بكربلاء من الشام، وضُمّ إليه. وفي المقتل من كتاب العوالم للشيخ عبدالله الحراني ص 154، ورياض المصائب، وفي البحار للشيخ المجلسي ج 45: إنّه المشهور بين العلماء. وقال ابن شهرآشوب في مناقب آل أبي طالب 200:2: ذكر المرتضى في بعض رسائله أنّ رأس الحسين أُعيد إلى بدنه بكربلاء، وقال الطوسي: ومنه زيارة الأربعين، وفي البحار عن ( العُدَد القوية ) لأخ العلاّمة الحلّي، وفي ( عجائب المخلوقات ) للقزويني ص 67: في العشرين من صفر رُدّ رأس الحسين عليه السّلام إلى جثمانه. وقال الشبراوي في ( الإتحاف بحبّ الأشراف ص 12 ): قيل: أُعيد رأس الحسين بعد أربعين يوماً. وفي شرح همزية البوصيري لابن حجر: أُعيد رأس الحسين بعد أربعين يوماً من قتله، وقال سبط ابن الجوزي في ( تذكرة خواصّ الأمّة ص 150 ): انّه رُدّ إلى كربلاء فدُفن مع الجسد. والمناوي في ( الكواكب الدريّة 57:1 ) نقلَ اتّفاقَ الإمامية على أنّه أُعيد إلى كربلاء، وأنّ القرطبي رجّحه ولم يتعقّبه، بل نسب إلى بعض أهل الكشف والشهود أنّه حصل له اطّلاع على أنّه أُعيد إلى كربلاء. وقال أبو الريحان البيروني في ( الآثار الباقية 331:1 ): في العشرين من صفر رُدّ رأس الحسين إلى جثّته، حتّى دُفن مع جثّته.
والقول الثاني: أنّ مدفن الرأس في النجف الأشرف، على ضوء خبرٍ يفيد أنّ مولىً من مَوالي أهل البيت عليهم السّلام سرق الرأس الشريف ودفنه في النجف بموضع يُدعى اليوم « مسجد الحنّانة »، حتّى اشتهر لدى العوام أنّه موضع رأس سيّد الشهداء سلام الله عليه.
وذلك مستفاد ممّا رواه عبدالله بن طلحة النهدي عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّه بعدما زار أميرَ المؤمنين عليه السّلام في النجف الأشرف قال لإسماعيل ابنه: قُمْ فسلِّمْ على جدّك الحسين. فقلت: جُعِلت فداك، أليس الحسين بكربلاء ؟! قال: نعم، ولكن لمّا حُمل رأسه سرقه مولىً لنا فدفنه بجنب أمير المؤمنين عليه السّلام ( رواه: الطوسي في تهذيب الأحكام 12:2، والسيّد عبدالكريم بن طاووس في فرحة الغري ص 52. وعقد الشيخ الحر العامليّ في وسائل الشيعة ج 10 ص 309 باباً لذلك، وأورد ثماني روايات كلّها مرويّة عن الإمام الصادق عليه السّلام، واللفظ في بعضها: ( موضع رأس الحسين عليه السّلام )؛ وعليه فقد يكون المراد أنّ الرأس كان قد وُضع في ذلك المكان من مسير سبايا أهل البيت إلى الكوفة ).
القول الثالث: أنّ مدفن الرأس المقدّس في القاهرة بمصر، وهذا القول مشهور بين الجمهور، وللموضع مَقامٌ مشهود شُوهِدَت فيه البركات والكرامات.
وعلى أيّة حال، فكلّ المواضع المشهورة والمظنونة هي مهبط رحمة الله تبارك وتعالى، لِما انصرف من قلوب الناس من توجّه الولاء إلى أهل البيت عليهم السّلام، مُعرِبةً تلك القلوب عن تقديسها ومحبّتها للإمام الحسين عليه السّلام، ومنعطفةً بالتبرّك فيما يُظَنّ أنّه موضع الرأس الأقدس أو محلّ دفنه، فتستقرّ الأرواح المؤمنة عند ذلك الموضع مستعيدة ذكريات الرسالة وأهل بيت الوحي الذين طهّرهم الله جلّ وعلا تطهيراً وأمرَ بمودّتهم صلوات الله عليهم.
تعليق