إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

مخلوقة إقتحمت حياتـي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الحلقة الثامنـــة والأربعون

    طريــــق الهـــلاك

    رتبت للسفر إلى الشمال من جديد في يوم الغد, الخميس على أن أعود ليلة السبت.
    كان لا بد من العودة إلى أروى وحل المشاكل العظمى معها.. وقد كنت مداوما على الاتصال بالمزرعة غير أنها تهربت من مكالماتي ولم يصف لي عمي إلياس عنها حالا مطمئنة.
    وصلت الخادمة إلى منزلنا هذا الصباح وسأكون مطمئنا للسفر وتركها للعناية برغد, مع أخي.
    الانسجام التام يسود علاقتهما والمسافة بينهما تصغر... وأجد نفسي مضطرا لتقبل الوضع إذ لا خيار أفضل عندي...
    "أخيرا انتهينا".
    قلت وأنا أغلق آخر الملفات خاتما عمل هذا اليوم, والذي كان طويلا مرهقا...
    ابتسم السيد أسامة وقال:
    "أعطاك الله العافية".
    "عفاك الله, شكرا على جهودك".
    شد السيد أسامة ابتسامته وقال:
    "لا شكر على واجب".
    ثم قال:
    "بهذا نكون قد انتهينا من هذا المشروع على خير ولله الحمد. هل بقي شيء؟"
    فأجبت:
    "لا. ولا أريد أن نبدأ عملا جديدا قبل أسبوعين على الأقل. أريد أن أسترخي قليلا".
    فقال:
    "أراحك الله. إذن.. ليس لديك عمل شاغر هذا المساء".
    قلت:
    "سأنعم بنوم طويل وهانيء يريحني قبل السفر".
    فقد كنت خلال الأسبوع الماضي أعمل ليلا ونهارا... وأسهر حتى ساعة متأخرة على حاسوبي وبين وثائقي. كان أسبوعا حافلا جدا.
    قال السيد أسامة:
    "هل يناسبك أن أزورك الليلة؟"
    فنظرت إليه.. وابتسمت وقلت:
    "مرحبا بك في كل وقت.. تشرفنا أنّى حللت".
    فقال:
    "الشرف لنا يا سيد وليد. شكرا لك. إذن سنزورك أنا وأخي".
    قلت:
    "على الرحب والسعة".
    وعندما عدت إلى المنزل أخبرت شقيقي عن الضيوف وطلبت منه العودة باكرا ليستضيفهم معي.
    وفي العصر اصطحبت رغد إلى الطبيب الذي كان يشرف على علاجها قبل سفرها إلى الشمال.. فأعطانا موعدا لنزع الجبيرة بعد نحو أسبوع.
    وفي المساء حضر السيد أسامة مع السيد يونس, يرافقهما الأستاذ عارف,ابن أسامة الأكبر, والذي تعرفت إليه في المعرض الفني يوم أمس.
    قضينا مع الضيوف وقتا طيبا تجاذبنا فيه الأحاديث الممتعة وتبادلنا التعارف أكثر وأكثر.. وقد سر الأستاذ عارف كثيرا عندما اكتشف معرفته المسبقة بسامر ولم يكن قد ميزه مباشرة لأن أخي قد أجر عملية تجميل في عينه اليمنى, والتي كانت مشوهة منذ الطفولة.
    وجيء بذكر المعرض الفني الذي انتهى يوم أمس وعلق سامر بأنه سمع لأن لوحات الأستاذ عارف كانت مذهلة. واتخذ الحديث مجراه حول المعرض ومهارة الرسام عارف وكيف يعلم طلبته في المدرسة وكيف هي علاقته بهم وبزملائه المدرسين والفنانين وبأصدقائه ومعارفه وما إلى ذلك..
    حتى خشيت أن يكون الأستاذ مصابا بداء الغرور أو أن أباه وعمه مولعان به لأقصى حد!
    دار الحديث عن عارف وك
    أنه نجم السهرة! لم أجد تفسيرا لهذا الاستعراض الغريب إلى أن فوجئت بالسيد أسامة يقول:
    "سيكون من دواعي سرورنا وتشرفنا أن نناسبكم".
    دقت نواقيس الخطر في رأسي فجأة... حملقت في السيد أسامة بذهول... ثم التفت إلى شقيقي فرأيته لا يقل ذهولا عني... ارتبكت ولم أعرف إلى أين أرسل نظراتي... وإذا بي أسمع السيد يونس يقول:
    "يشرفنا أن نطلب يد كريمتكم لابننا الغالي عارف... عسى الله أن يوحد النصيب ويجعل البركة فيه".
    صعقت... ذهلت... شللت فجأة... غاب دماغي عن الوعي... وغشيت عيني سحابة سوداء داكنة حجبت عني رؤية أي شيء...
    مرت لحظة وأنا في حالة الذهول الشديد... لا أشعر بما يدور حولي... وسمعت صوت السيد أسامة بعدها يقول:
    "يبدو أن الموضوع فاجأك!"
    فاجأني فقط؟؟
    أتريد أن تفقدني صوابي؟؟
    كيف تجرؤ!! تخطب فتاتي مني؟؟ هل أنت مجنون؟؟ هل كلكم مجانين؟؟ ألا ترون؟؟ ألا تسمعون هؤلاء؟؟
    شددت على يدي وتمالكت أعصابي لئلا أنكب على الضيوف صفعا... عضضت على أسناني وجررت بضع كلمات من لساني أخرجتها عنوة:
    "أأ... فاجأتني جدا..."
    ثم سألت, في محاولة غبية لتفسير الموضوع على غير ما هو واضح:
    "مــــ... من تعني؟؟"
    تبادل السيدان أسامة ويونس النظرات ثم أجاب أولهنا:
    "كريمتكم.. ابنة عمك.. ليس لديكم غير ابنة عم واحدة على ما أعرف".
    التفت إلى أخي فوجدت الاحمرار يلطخ وجهه... كان صامتا متسمرا في مكانه, كتمثال شمعي يوشك على الذوبان...
    ما بك؟؟ ألا تسمع؟؟ ألا تعي؟؟ يريدون خطبة رغد مني!! هل أضحك؟؟ هل أصرخ؟؟
    قل شيئا... افعل شيئا...
    قال أسامة:
    "يبدو أن الفتاة لم تخبركما".
    وأضاف:
    "فابنتي قد حدثتها حسب علمي".
    وتابع:
    "وكنا نرغب في فتح الموضوع منذ زمن ولكن كريمتكم أصيبت وسافرت لفترة... أم عارف كانت ستزوركم لو كانت حرمكم هنا".
    وتكلم المحامي يونس قائلا:
    "أردنا أن نؤجل لحين حضورها بالسلامة لكن".
    ونظر إلى الأستاذ عارف وهو يبتسم متمما:
    "عارف ألح علينا الحضور الليلة!"
    فعقب عارف في خجل:
    "خير البر عاجله".
    كل هذا وأنا جامد في مكاني.. كالجبل...
    أحسست بالاختناق... ففتحت ربطة عنقي بعض الشيء وتحسست نحري... كان حار يسبح في العرق... زفرت آخر نفس جبته مع شهقة المفاجأة.. فخرج بخارا ساخنا من فرط اشتعالي..
    اهدأ يا وليد.. تمالك نفسك يا وليد.. هؤلاء.. المجانين.. لا يعرفون شيئا.. سايرهم على قدر فهمهم... واحترم كونهم ضيوفك.. اصبر إلى أن يغادروا.. ثم انسف المنزل بمن فيه..
    قال السيد أسامة مستدركا ردي:
    "نقول على بركة الله".
    أي مبروك يا هذا؟ أمسك لسانك وإلا...
    وأمسكت أنا بلساني وقلت:
    "على رسلك.. الموضوع مفاجىءو... لم أستوعب بعد".
    فقال المحامي يونس:
    "خذوا وقتكم... الشاب كتاب مفتوح واسألوا عنه من تشاءون. وسنكون غاية في السرور إذا ما توافق النصيب وارتبطت العائلتان بهذا النسب المشرف".
    ثم تمتم هو وأخوه وابنه بكلام لم يجد في ذاكرتي متسع لتخزينه فضلا عن سماعه أصلا... وأخيرا شكرونا على حسن الضيافة, واستأذنو منصرفين...
    غادر الضيوف.. مخلفين خلفهم صمتا موحشا...
    مرت الدقيقة تلو الأخرى.. ونحن.. أنا وشقيقي في حالة تيه وتشتت... كان أحدنا يلقي بنظره على الآخر بين الفنية والفنية.. منتظرا منه أي تعليق, ولا تعليق...
    أخيرا سمعنا صوت حركة في المنزل.. تحديدا... كان صوت اصطفاق عكاز رغد بالأرضية الرخامية.. وكان الصوت يقترب منا.. حتى توقف.. عند الباب.
    التفتنا إلى الباب مترقبين ظهور وجه رغد... فسمعنا صوتها يقول:
    "هل أدخل؟"
    ولم يجب أيّنا... ثم سمعناها تنادي باسمينا.. ولا من مجيب, فقد أكلت الصدمة لسانينا...
    ربما شكت رغد في وجود أحد في الغرفة فأطلت برأسها بحذر واندهشت حين رأتنا نحن الاثنين جالسين في الداخل, واجمين وكأن على رؤوسنا الطير...
    قالت:
    "ماذا هناك؟؟"
    تبادلنا النظرات أنا وأخي, ثم تجرأ لساني ونطق:
    "لا شيء..."
    لكن رغد وهي تحملق فينا أحست بأن في الأمر شيئا...
    أو ربما كانت تعرف أصلا ماذا هناك, وتتظاهر بالجهل...
    ألم يقل أسامة أن ابنته أخبرتها؟؟
    قلت:
    "تفضلي رغد".
    فسارت بتردد حتى جلست على أحد المقاعد.. ونقلت بصرها بيننا ثم سألت:
    "هل حصل شيء؟؟ لا تبدوان طبيعيين؟!"
    وهل تتوقعين مني أن أبدو طبيعيا.. وقد غادر المنزل خاطب لك قبل قليل؟؟ لماذا يارغد؟؟ لماذا تفعلين هذا بي؟؟ لماذا أنت مصرة على الخيانة؟؟ يئست من حسام ففتشت عن غيره؟؟ إنني سأقتله قبل أن يتمكن أي رجل من الوصول إليك... سأقتلهم جميعا...
    عادت رغد تسأل:
    "ماذا؟؟"
    فنطقت أخيرا وعيناي ملؤها الغضب:
    "رغد.. هل تعرفين من الضيوف الذين زارونا الليلة؟؟"
    وقبل أن تجيب نطق أخي رادعا:
    "ليس وقته وليد".
    تجاهلت كلام أخي, أما رغد فقد ألقت عليه نظرة حائرة ثم عادت إلي وقالت:
    "كلا... ما أدراني؟؟"
    فقلت وأنا أعض على لساني:
    "إنه السيد أسامة المنذر... والد صديقتك".
    وتفحصت عينيها لأرصد تعبير يظهر منهما دالا على أي شيء... ولم أجد غير الحيرة والتساؤل...
    قلت بذات الحدة والشرر المتطاير من عيني:
    "أتعرفين من جاء برفقته؟؟"
    فهتف أخي بانفعال:
    "ليس وقته يا وليد دعنا نناقش الأمر فيما بيننا أولا".
    فالتفتنا إلى شقيقي.. هي تعلوها الحيرة وأنا يجتاحني الغضب...
    سامر نظر إلى رغد وقال:
    "رغد عودي إلى غرفتك رجاء".
    تأملته رغد بقلق ثم نظرت إلي وعلائم التعجب تحيط برأسها من كل جانب...
    سألت:
    "ماذا هناك؟؟"
    فتولى أخي الإجابة قائلا:
    "لا شيء يا رغد. من فضلك اذهبي إلى غرفتك الآن".
    وأنا صامت لا أعلق... فتفاقم القاق والحيرة على وجهها ووجهت إلي السؤال:
    "ما الخطب وليد؟؟"
    فابتلعت غيضي وحبسته في جوفي وقلت محاولا أن يظهر صوتي لطيفا قدر الإمكان:
    "عودي إلى غرفتك".
    وأرادت أن تجادلني ولكنها رأت الإصرار في عيني والشرر المتطاير منهما.. فتراجعت... وقامت وغادرت الغرفة.
    بعدد ذهابها قام سامر وأغلق الباب ليضمن عدم تسرب صوتينا إليها ثم قال:
    "والآن... ما موقفك؟"
    رفعت رأسي إلى أخي وقلت:
    "أي موقف بعد؟"
    فقال:
    "أعني فيم تفكر؟"
    فأطلقت زفرة ضيق من صدري ومررت أصابعي بين خصلات شعري مشتتا... ثم أجبت:
    "الأمر..خلف حدود التفكير أصلا... إنما أنا متفاجىء..لم يذكر لي السيد أسامة شيئا.. ولا حتى بالتلميح أو الإشارة.. أنهم يفكرون بهذا..مع أن.. خالتي متوفاة مؤخرا.."
    قال أخي:
    "ورغد؟؟"
    نظرت إليه نظرة مطولة.. شاعرا بأن في صدري خنجرا يغرس وينزع ويغرس مرارا وتكرار... من رغد...
    سأل:
    "أتظنها تعرف؟ كما قال أسامة؟؟"
    زممت شفتي غيظا ثم قلت وأنا أضغط على أسناني أخرج الحروف من بينها:
    "لا أستبعد.. وارد جدا..."
    قال أخي:
    "لا... لا أظن".
    فرميته بنظرة اعتراض فقال:
    "رغد لن تفكر في هذا".
    فقلت وأنا أحاول السيطرة على نفسي قدر الإمكان:
    "بل تفكر.. والله الأعلم بما يدور في رأسها وما الذي تخطط له.. إنه ليس العرض الأول..."
    وانتبهت إلى أنني تهورت في الافصاح عما في نفسي.. فسألني أخي:
    "ماذا تعني.. بأنه ليس الرعض الأول؟؟"
    وكان الهلع والتعجب يغمران وجهه.. فقلت منسحبا:
    "لا يهم. الفتاة ليست للزواج على أية حال. والموضوع مستبعدا تماما إلى أن تنهي دراستها الجامعية".
    وصمتنا برهة ثم سأل أخي وشيء من التردد يلحظ على نبرة صوته:
    "وبعد ذلك؟"
    بعد لك؟؟ بعد ذلك ماذا؟؟ لم أجد جوابا لكن نظرات أخي ظلت تطاردني فاضطررت لقول:
    "لن نفكر الآن فيما بعد ذلك. نترك الموضوع برمته إلى أوانه. الآن.. هي ستدرس فقط وفقط".
    لم يبدو أن شقيقي اقتنع بالتوقف هنا, كان واضحا في عينيه المزيد من الكلام...
    وإذا به يقول:
    "وستنتهي الدراسة ذات يوم.. وربما يقبل عريس الغفلة هذا بالانتظار أو ربما... ربما يزورك عرسان آخرون... هكذا هي الطبيعة..."
    هببت واقفا من تأثير الكلمة علي... أي عرسان وأي آخرين؟؟ هذا ما كان ينقصني...
    تابع أخي:
    "أجل.. فهي فتاة رائعة... ابنة عائلة راقية وعالية الأخلاق وطيبة السمعة.. ولها مواصفات مرغوبة ولن تخطئها العين الباحثة عن عروس مثالية".
    فرددت بعصبية:
    "ماا تعني؟؟"
    فوقف أخي وقال:
    "أعني أنه سيأتي اليوم المناسب والظروف المناسبة لتوافق على زواج رغد.. مهما طال الأمد فهذه سنة الحياة".
    رددت بانفعال:
    "قلت إن الموضوع سابق جدا لأوانه.. لماذا أشغل دماغي في التفكير به أو الحديث عنه؟؟ لم لا ننهي الحوار العقيم هذا؟؟"
    قال أخي:
    "أريد أن أعرف فقط... ما هو موقفك من زواج رغد مستقبلا؟"
    قلت بضيق:
    "ولم أنت مهتم هكذا؟"
    فأجاب أخي وقد تبدلت تعبيرات وجهه إلى المرارة.. وفضحت خوالجه قبل أن يفصح عنها لسانه:
    "لأنني أنا.. أولى بها من أي شخص آخر.. وإن كنت ستزوّجها ذات يوم.. فيجب أن تعيدها إلي".
    واجتاحت قلبي زوبعة مجنونة.. لفت به مئة مره حول المنزل في ثواني.. بعثرت دماءه على أسواره وجدرانه.. وعادت إلي.. خالية اليدين...
    كان أخي يحدق بي.. ينتظر ردة فعلي والتي أكاد أعبر عنها بقبضتي...
    كيف تجرؤ يا سامر..؟؟ ألم تكف الضربة المدمرة التي تلقيتها قبل قليل؟؟ أنت أيضا تتحدث عن أخها مني؟؟
    هل خلت الدنيا من النساء.. إلا رغد؟؟ لماذا يريد الجميع سرقتها مني؟؟ هل يستكثرون علي أن أحظى في هه الدنيا بها؟؟ أنا لا أريد من الدنيا شيئا غيرها... إنها خلقت لي أنا... كيف يتجرأون على التفكير في شيء يخصني أنا؟؟ رغد هي فتاتي أنا.. هي جزء مني أنا.. حبيبتي أنا.. حلمي وواقعي أنا.. وستكون وتظل لي أنا... أتسمعون؟؟ لي أنا.. أنا وأنا فقط...
    كان سامر لا يزال ينتظر ردي.. وإن هو تأمل التغيرات التي اجتاحت قسمات وجهي لأدركَ مدى خطورة جريمته..لكنني أوليته ظهري وخطوت نحو الباب, محاولا الابتعاد قبل أن أفقد السيطرة على يدي..
    سامر ناداني:
    "وليد إلى أين؟"
    فقلت دون أن استدير إليه:
    "النقاش منته. ولا تعد لفتح الموضوع ثانية أبدا".
    لكن أخي لم يستمع لكلامي بل قال متابعا:
    "أريدك أن تجيبني فقط على هذا السؤال.. هل ستعيدها إلي؟"
    ثار بركاني لأقصى حد.. ولا بد أنكم ترون الدخان الأسود يتطاير من جسدي...
    رددت وأنا لا أزال موليا إيّاه ظهري:
    "سامر قلت لك وأكرر وللمرة الأخيرة... لا تتحدث في الموضوع ثانية, والتزم الصمت أسلم لك".
    فقال سامر بعصبية:
    "لن يدوم صمتي طويلا.. لقد تعبت من ها يا وليد.. إما أن تعطيني أملا في أن تعيدها إلي كما فرقتها عني.. وإلا فأنني لن أستمر في العيش معكما وتمثيل دور البليد.. أنت لا تشعر بمقدار ما أعانيه".
    هنا... انطلقت شياطين رأسي أخيرا وباندفاع جنوني... لا أستطيع السيطرة على نفسي... لا أستطيع... التفت إلى أخي ورشقته بسهام حادة.. ثم سرت نحوه.. وانقضت يداي على ذراعه بعنف... وصرخت في وجهه:
    "حذرتك من الاستمرار يا سامر... لم أعد السيطرة على غضبي... أنت المسؤول".
    حاول أخي إبعاد يدي عنه وهو يقول:
    "أبعد يديك يا وليد... ما الذي يغضبك الآن..؟ كأنك لا تعرف أنني أحبها وأنها كانت عروسي قبل أن تظهر أنت وتفسد كل شيء... أنا لم أتوقف عن التفكير بها".
    صرخت وأنا أجر أخي ثم أدفع به نحو الباب مستسلما لثورتي:
    "سأكسر جمجمتك... وأخرجها من رأسك عنوة... وأريحك... أيها المسكين".
    وبدأ العراك بالأيدي...
    كلانا استسلم للغضب.. وسلم قبضته لشياطين الجنون..
    تبادلنا اللكمات والركلات.. الضرب واللطم والصفع.. وحتى الدوس وشد الشعر والخنق.. كانت ساعة مجنونة.. مجنونة جدا.. أجن من أن نملك السيطرة عليها...
    مشاعرنا كانت هائجة كأمواج البحر الثائرة في ليلة إعصار عنيف مدمر...
    أنا سأحطم جماجم كل رجل... يفكر في رغد...
    كنت أمسك بذراع أخي وألويها بشدة بينما ألصق رأسه بالجدار بقوة وأصرخ:
    "إن فكرت بها ثانية فسأسوى رأسك بهذا الجدار.. هل فهمت؟؟"
    ثم شددته ودفعت به نحو المقعد.. وأخذنا نلهث من التعب.. ونتأوه من الألم..
    بعد قليل... سمعت نشيج أخي.. ورأيت دمعا يسيل من عينيه فشعرت بها دماء تقطر من قلبي...
    ذهبت إليه وجثوت إلى جانبه وأمسكت برأسه وقلت بعطف:
    "أخي.. أنا لا أريد أن أفعل بك هذا.. ليت ذراعي تقطع قبل أن أؤذيك.. سامحني..لكن.. لماذا استفززتني؟؟"
    وتأملت وجهه المتألم... وقلت:
    "يجب أن تنساها.. إنها لا تريك ياسامر... لو كانت ترغب بك بالفعل لما أوقفت زواجكما في آخر الأيام.. لما عرضتك لكل ما حصل... رغد لا تحبك.. إنها لا تحبك يا أخي فلا تتعب قلبك".
    وكان رد أخي أن لكم وجهي لكمة قوية أوقعتني أرضا.. وأدمت أنفي... ثم نهض ومسح وجهه براحتيه وقال:
    "أنت السبب يا وليد.. ليتك لم تخرج من السجن إلا بعد عشرين سنة من الآن.. ليتك تعود إليه من جديد وتخلصنا من وجودك.. أفسدت حياتي.. حطمت حلمي.. ضيعت مستقبلي يا وليد.. انعم بالحياة من بعدي إذن..."
    واستدار وسار نحو الباب وفتحه وصفعه بالجدار بقوة... وغادر المنزل...

    ********************
    غرفتي الحالية بعيده بعض الشيء عن مجلس الضيوف الذي استقبل فيه ابنا عمي ضيوفهما. ولكني سمعت صوت جلبة فخرجت من غرفتي ووقفت في الممر.. فتناهى إلى سمعي صوت شجار بين ابني عمي وربما عراك أيضا...
    داهمني القلق وسرت في اتجاه مجلس الضيوف ولما سمعت صوت ارتطام شيء بالباب.. ذعرت.. وتراجعت للوراء.. ثم عدت إلى غرفتي خائفة...
    وقفت عند باب الغرفة مضطربة تنقصني الشجاعة للذهاب إلى مجلس الضيوف واستكشاف ما الأمر.. إلى أن سمعت صوت ارتطام باب بجدار.. كان صوتا قويا انتقلت ذبذباته إلى باب غرفتي فاهتز ذعرا... وزادني فوق قلقي قلقا...
    أصغيت جيدا فسمعت وقع خطوات قوية وسريعة تعلو ثم تنخفض مبتعدة.. ثم صوت الباب الرئيسي ينفتح ثم ينغلق... ثم يخيم الهدوء في المكان..
    أحدهما قد خرج.. ومن وقع أقدامه على الأرض.. يظهر أنه كان غاضبا..
    وليد!؟؟
    خرجت من غرفتي هلعة.. وسرت بعكازي إلى أن بلغت مجلس الضيوف.. كان الباب مفتوحا.. أطللت برأسي من خلال فتحته فوقعت عيناي على وليد.. يجلس على الأرض بجانب المقعد.. ويسند رأسه إليه...
    هوى قلبي إلى قدمي وخارت قوتي فجأة لدى رؤيته على هذا الوضع فاستندت إلى الجدار وشهقت ثم قلت مفزوعة:
    "وليد ما بك؟"
    انتفض وليد فجأة وأدار وجهه إلي بسرعة.. فإذا بي أرى سيلا من الدماء يتدفق من أنفه..
    حملقت عيناي فيه أوسعهما.. وانحبس نفسي في صدري وكاد العكاز أن ينزلق مني ويوقني أرضا..
    وليد وقف وتلفت يمينا ويسارا حتى لمح علبة المناديل فسار إليها وتناول بعضها وجعل يمسح الدماء...
    انطلق نفسي السجين من صدري مصدرا صوتا يشبه الأنين.. تلاه صوت حنجرتي تحاول القول:
    "ماذا حصل؟"
    وكان واضحا أنه تعارك مع سامر...
    كانت ربطة عنقه مفتوحة كليا.. وملوثة ببقع الدماء الهاطلة من أنفه.. شعره مبعثر وهندامه غير مرتب.. ووجهه شديد الاحمرار والتعرق..
    لم يجب وليد على سؤالي, بل تهالك على المقعد وهو يرفع برأسه للأعلى ويضغط بالمناديل على أنفه ليوقف نزف الدماء... فخطوت نحو الداخل يسوقني الفزع والقلق..
    وحين صرت بمحاذاته خاطبته:
    "وليد.. ماذا حدث؟؟ أخبرني أرجوك".
    أبعد وليد المناديل الغرقة بالدم عن وجهه ووجه بصره إلي.. وحدق بي طويلا.. ولم يتكلم..
    كانت عيناه تتكلمان.. كأنهما تتهماني.. أو تعاتباني.. أو تتشاجران معي..
    ولكن ما الذي فعلته أنا...؟؟
    "وليد.."
    ناديته مجددا فما كان منه إلا أن قال:
    "عودي إلى غرفتك".
    ماذا؟؟ أعود إلى غرفتي وأنا أراك بهذا الشكل؟؟
    "لكن... أخبرني أرجوك ماذا حدث؟"
    فكرر وليد:
    "عودي يا رغد".
    قلت:
    "لا أستطيع.. طمئني أولا ما الذي يحدث؟؟ لماذا تعاركتما وإلى أين ذهب سامر؟؟"
    فأشاح وليد بوجهه عني.. لم أستطع إلا الانصياع لقلقي.. كيف أنصرف وأنا أراك هكذا وليد لا أقدر...
    جلست على المقعد بجواره.. تركت العكاز جانبا ومددت يدي وأمسكت بذراعه بحنان...
    التفت وليد إلي.. نظر إلي نظرة قصيرة ثم أغمض عينيه وأسند رأسه إلى مسند المقعد وتنفس بعمق...
    بقيت ممسكة بذراعه أكاد أحضنها.. وأكاد أفقد صوابي وأمد يدي وأمسح على رأسه وأطبطب على كتفيه.. رغم جهلي بحقيقة ما يحصل أشعر بأن وليد قلبي يتألم.. وأنا لا أتحمل هذا...
    "وليد...رد علي".
    توسلت إليه.. ففتح عينيه ونظر إلي ثم قال:
    "أرجوك يا رغد.. اذهبي إلى غرفتك الآن ولازميها.. لا تتعبيني أكثر".
    أنا أتعبك؟؟ أنا من يتعب لتعبك.. لكن إذا وجودي الآن يتعبك فأنا ذاهبة..
    قلت:
    "حاضر".
    وسحبت يدي من حول ذراعه وأمسكت بعكازي, ثم انصرفت دون أن أنطق بحرف واحد...
    في صباح اليوم التالي استيقضت متأخرة...
    ذهبت إلى المطبخ كالعادة لأعد شاي.
    كانت الخادمة منهمكة في أعمل التنظيف والساعة التاسعة والنصف صباحا. وكان المنزل خاليا من أي صوت أو حركة عدا ما تصدره هي. تركت الإبريق على الموقد وخرجت أتفقد ابني عمي. اليوم خميس وهو عطلة لدى المصنع... وقبيل الظهيرة سيسافر وليد إلى المزرعة من جديد... وقد يعود بالشقراء... ذهبت وتفقدت أولا غرفة المعيشة, المجاورة لغرفة نومي. طرقت الباب ولم يرد أحد.. ففتحتها ببطء وأرسلت نظراتي للداخل ولم أجد أحدا. كان سامر ينام هنا على الكنبة الكبيرة في الليالي الماضية وقد طلبت منه أن يبقى كذلك إلى أن تزال الجبيرة عني الأسبوع المقبل وأعود إلى غرفتي العلوية, حتى مع حضور الخادمة وبياتها على مقربة من غرفتي الحالية, لم أكن لأشعر بالطمئنان في هذا المنزل الكبير الموحش..
    سرت بعد ذلك في أرجاء المنزل.. هنا وهناك, ولم أعثر لأي من ابني عمي على أثر.
    عدت إلى المطبخ وسألت الخادمة عما إذا كانت قد رأت أيا منهما هذا الصباح فأجابت بالنفي.
    ساورني بعض القلق.. فطلبت منها أن تصعد للطابق العلوي وتتفقدهما. وعادت بعد قليل يتبعها وليد.
    كان وجه وليد ممتقعا وعلى خده كدمةمبهمة اللون.. كان يهبط الدرجات ببطء ونظره مركز على موضع قدميه.. كنت أقف أسفل الدرج في انتظار ظهور أي من وليد وسامر..
    ابتعدت الخادمة عائدة إلى المطبخ وبقيت أراقب وليد وهو يهبط الدرج درحة درجة..
    إلى أن توقف أخيرا بجانبي.
    بادرت بإلقاء التحية:
    "صباح الخير".
    فرد وهو لا يرفع بصره إلي:
    "صباح الخير".
    ثم سار وتخطاني وتوجه نحو المطبخ.
    لحقت به فوجدته يفتح الثلاجة ويستخرج علبة حليب بارد ويهم بفتحها.
    قلت:
    "ألا ترغب في بعض الشاي؟؟"
    فقال وهو يفتح الععلبة ويسكب شيئا منها في أحد الكؤوس:
    "كلا شكرا... الجو حار".
    وجلس على أحد المقاعد الموزعة حول الطاولة وأخذ يشرب الحليب البارد دفعة واحدة حتى أتى على آخره...
    يحب ابن عمي هذا الحليب.. ألا تلاحظون ذلك؟؟
    حضرت كوب الشاي الخاص بي ووضعته على الطاولة وجلست على المقعد المقابل لمقعده..
    بدأت بطرف الحديث:
    "هل أعد لك فطورا؟"
    أجاب:
    "لا, شكرا".
    قلت:
    "ولو وجبة بسيطة؟"
    فأكد:
    "شكرا يا رغد. لا أرغب بشيء الآن".
    احتسيت من قدح الشاي ثم قلت:
    "هل سامر في الأعلى؟"
    فنظر إلي باهتمام أخيرا.. ثم أجاب:
    "لا".
    فتعجبت وسألت:
    "أليس في المنزل؟؟"
    فأجاب:
    "كلا.."
    فازداد قلقي.. أيمكن أنه لم يبت هنا البارحة؟؟
    قلت:
    "أين هو؟"
    فرد:
    "خرج باكرا.. لم يحدد وجهته".
    وظهر الانزعاج على وجه وليد.. لم أقو على إطالة المقدمات.. أنا متلهفة لأعرف ما حصل البارحة.. قلت مباشرة:
    "لماذا تشاجرتما؟"
    فرماني بنظرة ثاقبة.. ثم زاح بصره عني وتجاهل سؤالي. قلت:
    "أرجوك أخبرني.. أنا أعيش معكما في هذا المنزل وأشارككما في كل شيء".
    فأرجع بصره إلي.. ثم قال:
    "نعم.. في كل شيء".
    ولا أعرف أن قالها جادا أم ساخرا.. لأن تعبيرات وجهه غامضة جدا.. استأت من تهربه وقلت:
    "أرجوك وليد.. أخبرني وأرحني.. أنا لم أنم جيدا البارحة من شدة القلق ولم أجرؤ على مغادرة غرفتي حتى لا تغضب مني.. أرجوك قل لي ماذا هناك؟"
    ظل وليد ينظر إلي بتركيز.. ثم سأل:
    "أحقا لا تعرفين؟؟ ألم تخبرك صديقتك بشيء؟؟"
    أصابتني الدهشة.. صديقتي؟؟ تعني مرح؟؟ ما دخل مرح بالأمر؟؟
    سألته فيما الفضول يكاد يلتهمني:
    "تخبرني بماذا؟؟ مرح؟؟"
    فألقى وليد نظرة سريعة على الخادمة ثم عاد ينظر إلي. خاطبت الخادمة وطلبت منها الذهاب لتنظيف غرفتي... ولما انصرفت سألت وليد:
    "ما علاقة صديقتي بما حصل البارحة.. وليد أرجوك أوضح لي فأنا لا أفهم شيئا".
    وليد مد يده وأمسك بيدي وضغط عليها بشدة وتحولت تعبيرات وجهه إلى الجد المفاجىء والممزوج بالتهديد وقال:
    "اسمعي يا رغد.. إياك أن تفتحي الموضوع أمام سامر.. لا تسأليه عن أي شيء ولا تأتي بذكر شيء عن ليلة أمس لا تصريحا ولا تلميحا أمامه.. هل تفهمين؟؟"
    القلق بلغ ذروته عندي.. يبدو أن الموضوع أخطر مما كنت أعتقد.. قلت:
    "لا.. لم أفهم شيئا".
    فأغضب ردي وليد.. فشد الضغط على يدي واحتد صوته أكثر وهو يكرر:
    "بل تفهمين.. اسمعيني جيدا.. لا أريدك ولا بحال من الأحوال أن تشيري لليلة البارحة أمامه. تصرفي بشكل عادي وكأن البارحة لم تكن أساسا".
    سألت:
    "لماذا".
    فهتف بعصبية:
    "نفذي ما أقوله لك فقط.. فأنا سأسافر اليوم ولن أكون موجودا للتدخل وتحويل المواقف. أريد أن يمر اليومان بسلام إلى أن أعود وأجد مخرجا للمأزق الجديد الذي أقحمتنا فيه".
    هتفت:
    "أنا..!!"
    ووجهي يملؤه التعجب وعدم الفهم.. فأبعد وليد يده عني.. ثم نهض واقفا وأراد مغادرة المطبخ. قلت محتجة:
    "وليد انتظر أنت لم توضح لي شيئا".
    فأشار بيده لي أن أصمت.. ثم قال:
    "لاحقا يا رغد.. ليس وقته الآن.. افعلي فقط ما طلبته منك".
    وانصرف.
    لم أطق صبرا مع كل هذا الغموض.. توجهت إلى غرفتي وطلبت من الخادمة المغادرة, وتناولت هاتفي المحمول واتصلت بصديقتي مرح..
    لكم أن تتصوروا الدهشة التي اجتاحتني عندما علمت من مرح..أن.. أن... إه.. أن والدها وعمها.. تقدما بطلب يدي للزواج من... من شقيقها الرسام.. الأستاذ عارف.. الذي حضرت معه معرضه الفني أمس الأول.. ورآني صدفة هناك!!!!
    "لا يارغد.. كنا سنتقدم لخطبتك حتى قبل أن يراك فأمي وأختاي أعجبن بك عندما زرناكم بعد خروجك من المستشفى.. وأيدتا ترشيحي في الحال".
    وعادت بي الذكرى بسرعة إلى تلك الليلة.. حيث دعونا آل منذر للعشاء عندنا وحضرت أم مرح وأختاها.. أذكر أنني ليلتها كنت منزعجة لأنهن سلطن اهتمامن على الشقراء التي سرقت الأضواء مني.. ولم أكن لألحظ أن عيونا خفية كانت تراقبني أنا....!
    انتبهت من لحظة الذكرى على صوت مرح تقول:
    "وكنا نريد زيارتكم لو لا أنكم سافرتم... أما عارف فهو يثق في اختيارنا.. وعندما قلت أن ستحضرين المعرض خطرت ببالي فكرة أن أريكما بعضكما البعض وعارف ألح بأن يزوركم البارحة.. وأخي شخص مهذب وراغب في الزواج بكل جدية".
    وكانت نبرتها تمزج بين الضيق والعتب... فقلت مهدئة إياها:
    "ليس قصدي عكس ذلك لا سمح الله.. إنما.. آه.. لماذا لم تخبريني عن هذا سابقا؟"
    فأجابت بذات النبرة.. وهي نبرة لم أعتد سماعها من مرح التي لطالما غلب المزح والمرح على أسلوبها:
    "لمحت لك تلميحا خفيفا... لم أستطع التحدث معك مباشرة.. أنت خجولة جدا وخشيت أن أحرجك أو أن تغيري رأيك في حضور المعرض.. ولم تسنح الفرصة قبل ذلك بسبب سفرك".
    قلت:
    "لكن يا مرح".
    فقاطعتني مرح قائلة:
    "لكن ماذا يا رغد؟؟ أنتم تشعروننا بأننا ارتكبنا خطيئة بعرض الزواج هذا!"
    فاجأني رد مرح فقلت:
    "لم تقولين هذا؟"
    فقالت:
    "أنت تحققين معي الآن وكأنني متهمة.. وأبوك وأخوه لسعا أخي بنظراتهما البارحة
    ولم يتفوها بكلمة واحدة ولو من باب المجاملة تشير إلى أنهما يرحبان بالعرض أو يقدران أصحابه.. لقد أخبرني عارف بأنهم غادروا ولديهم الانطباع بأن العرض مرفوض قبل دراسته.. وكأن عائلتكم لا تتشرف بالرتباط بعائلتنا".
    قلت بسرعة نافية:
    "ما الذي تقولينه يا مرح الأمر ليس كلك إطلاقا".
    فسألت:
    "إذن ماذا؟؟"
    فقلت:
    "إنه أكبر بكثير مما تظنين..."
    بعد حديثي معها جلست أفكر طويلا... لم أكن أتوقع أن يكون الأمر هكذا... ما الذي سأفعله وكيف سأتصرف؟؟
    بعد حوالي الأربعين دقيقة خرجت من غرفتي قاصدة الذهاب إلى غرفة المعيشة ورأيت وليد هناك يجلس على طرف أحد المقاعد ويبدو عليه الاضطراب ولما رآني سأل:
    "ألم يعد سامر؟"
    فأجبت:
    "لا أعرف. لا أظن فأنا لم أسمع صوت الباب".
    وهنا سمعت صوت الباب الخارجي, فوقف وليد ثم قال بصوت هامس:
    "لا تنسي ما قلته لك".
    فأومأت برأسي.. وخطوت إلى الداخل.
    وافانا سامر مباشرة ولم يلق التحية بل ألقى علينا نظرة سريعة ثم هم بالانصراف.
    ناداه وليد وقال:
    "تأخرت يا سامر.. ألا تعلم أن لدي رحلة هذه الظهيرة؟؟ بالكاد يتسع الوقت للوصول للمطار".
    فالتفت سامر إليه ثم ألقى نظرة على ساعة يده ثم قال:
    "لا يزال الوقت كافيا".
    ثم استدار إلى الباب ثم توقف واستدار نحو وليد وقال:
    "على فكرة وليد.. لقد حجزت مقعدا على نفس الطائرة".
    واستدار وولى منصرفا نحو الدرج!
    لم يعط وليد الذهول فرصة لتملكه, بل أسرع عقب أخيه وهو يناديه إلى أن أدركه عند أسفل السلم.. ولحقت بهما في اندهاش شديد..
    قال وليد:
    "ماا تقصد؟؟"
    فأجاب سامر وهو يرفع قدمه إلى الدرجة الأولى:
    "أقصد أنني سأسافر أيضا إلى الشمال الآن".
    وتابع خطواته فهتف وليد:
    "سامر قف هنا وكلمني..."
    فتوقف سامر بعد بضع درجات وأرسل نظراته إلى وليد... وتسللت إحداها إلي فقرصتني...
    قال وليد:
    "ماذا تعني بتصرفك هذا؟؟"
    أجاب سامر وصوته يعلو ويحتد:
    "لا أعني شيئا. لدي أشياء ضرورية لأحضرها وأمور مهمة لأنجزها في المدينة التجارية.. تعرف أن سفري كان مفاجئا وعاجلا جدا".
    فقال وليد بصبر نافذ:
    "ولكنني سأسافر الآن.. فهل تريد أن نسافر كلانا ونترك المنزل ومن فيه هكذا؟؟"
    وأصابتني الفكرة بالرعب... فقال سامر:
    "عد ليلا فهناك رحلة مناسبة هذا المساء".
    ثم تابع صعود الدرجات حتى اختفى عن أنظارنا.. وقف وليد برهة كمن يحاول استيعاب ما سمع, ثم صعد الدرجات ليلحق بسامر..
    استوقفته وقلت مرعوبة من الفكرة:
    "أنا لا أستطيع البقاء وحدي".
    فالتفت إلي وقال:
    "وهل ترينني بهذا الجنون لأفعل هذا؟؟"
    وواصل صعوده حتى اختفى هو الآخر عن ناظري...

    ****************************

    تعليق


    • تتـــــــمه
      *******

      لحقت به إلى غرفته.. نفس الغرفة التي كان يقيم فيها في الماضي والتي نظفتها الخادمة يوم أمس.. ووضع فيها حقائبه وبات على سريره القديم فيها البارحة.
      كان يستخرج شيئا من إحدى حقائبه.. سألته:
      "ألست تمزح يا سامر؟؟"
      فالتفت إلي وقال:
      "وهل تراني بمزاج جيد ومناسب للمزاح؟ ها هي التذكرة على المنضدة أمامك".
      ولمحت التذكرة بالفعل على المنضدة...
      قلت:
      "سامر لماذا تفعل ذلك؟؟"
      أجاب:
      "قلت لك أن لدي حاجيات ضرورية سأحضرها ومهام سأنجزها".
      قلت:
      "وهذه لم تظهر إلا الآن؟؟ أجل سفرك للأسبوع المقبل أو على الأقل لحين عودتي"
      قال:
      "مستحيل سفري ضروري وملح الآن".
      وأخذ بضع أشياء معينة في حقيبة يد صغيرة ثم يأتي باتجاه الباب.. قاصدا المغادرة حاصرت عينيه بنظراتي.. كانتا كوردتين ذبلتا فجأة بعد انقطاع المطر.. شعرت بألم فظيع في صدري وفي معدتي.. استوقفته وقلت بصوت حنون:
      "تمهل يا سامر.. حسنا.. دعنا نناقش الأمر بعد عودتي من السفر.. أعد حقيبتك إلى مكانها".
      توقف سامر عن الحركة وصمت قليلا ثم قال:
      "نناقش ماذا؟"اجترعت المرارة وقلت:
      "ما كنا نناقشه البارحة نبين مواقفنا ووجهات نظرنا... وحقائق الأمور".
      قال سامر والحزم جلي على وجهه:
      "بالنسبة لي هناك حقيقة واحدة لا جدوى من محاولة اللف والدوران بعيدا عن محورها إما أن تعطيني وعدا بإعادتها إلي, أو سأخرج من حياتكما نهائيا".
      قلت:
      "هل أنت مجنون؟"
      فتجاهل سامر تعقيبي وسار مغادرا الغرفة. لحقت به وناديته مرارا ولكنه واصل طريقه, عند أعلى الدرج التفت إلي وأشار بسبابته نحوي وقال:
      "أنت السبب يا وليد.. تذكر هذا".
      وهبط الدرجات واختفى من المنزل
      قرب أسفل العتبات, كانت تقف الفتاة التي تعاركنا بسببها.. سامر خرج مسرعا ولم يلتفت إليها.. استندت إلى السياج وسبحت في بحر من الضياع..
      لماذا وقع شقيقي الوحيد.. في حب الفتاة التي هي حبيبتي أنا.. فتاتي أنا..التي لن أتنازل عنها لأجل أي مخلوق.. حتى وإن.. كنت أنت يا سامر..
      وبسبب سفره اضطررت لأن ألغي رحلتي وأبقى مع رغد.. فيما النار مشتعلة في المزرعة.. تنتظر عودتي كي أخمدها..
      مع بداية أسبوع جديد.. عادت رغد إلى جامعتها كانت لاتزال بالجبيرة والعكاز.. ولكن ذهابها إلى جامعتها كان الحل الأمثل للوضع الحالي المضطرب..
      ولأنها لاتزال بحاجة للمساعدة, فقد وجدنا الحل في أن ترافقها صديقتها المقربة ذهابا وعودة في الفترة الراهنة, على أن أتولى بنفسي إيصالهما.
      وفي إحدى المرات, وفيما كنت في اجتماع مهم في مكتبي في مبنى إدارة المصنع, وردتني مكالمة من رغد. كانت الساعة الثانية عشر والنصف ظهرا, ورغد لم تكن تتصل إلا للضرورة ولما أجبتها أخبرتني بأنها أنهت محاضراتها لهذا اليوم وتريد العودة إلى المنزل.
      لم يكن التوقيت مناسبا فطلبت منها أن تنتظر اتصالي لاحقا.
      وبعد نحو أربعين دقيقة, اتصلت بها كي أخبرها بأنني مشغول ولن أوافيها قبل ساعة, ففوجئت بها تخبرنب بأنها وصديقتها الآن في طريق العودة إلى المنزل, في سيارة شقيقها.
      هذا الشقيق لم يكن إلا... الأستاذ عارف.
      تمالكت نفسي, وأنهيت المكالمة بهدوء ظاهري, وتابعت عملي دون تركيز حقيقي...
      وعندما عدت إلى المنزل, حاملا طعام الغداء كالعادة, كانت الساعة تقترب من الرابعة عصرا...
      توجهت إلى غرفة رغد, لا أطيق صبرا... ولما اقتربت من الباب سمعت صوت ضحكات.. كانت ضحكات رغد ممزوجة مع ضحكات فتاة أخرى...
      ذهبت إلى المطبخ وسألت الخادمة, فأخبرتني أن لدى رغد ضيفة تناولت معها غداء أحضرتاه معهما ظهرا... وهما تجلسان في الغرفة منذ فترة.
      انزويت على نفسي في غرفة المعيشة.. بعد ساعة ونصف الساعة, سمعت صوت حركة في الممر... ومعها صوت الفتاتين تودعان بعضهما البعض, ثم صوت الباب الرئيسي يغلق.
      هببت واقفا وسرت نحو الباب وأنا أتنحنح لألفت الانتباه... وفي الممر رأيت رغد تسير باتجاه غرفتها فناديت:
      "رغد".
      التفت إلي, وسرعان ما لمحت البهجة على وجهها... كان واضح أنها مسرورة..
      سألتني:
      "أنت هنا؟ متى عدت؟"
      سرت نحوها وأنا أجيب:
      "قبل ساعة ونصف تقريبا".
      وأضفت:
      "آسف. لقد كنت في اجتماع مهم".
      قالت:
      "لا بأس".
      ثم استدارت تريد متابعة السير إلى غرفتها.
      انتظري! إلى أين تذهبين...؟؟ قلت:
      "إذن... عدتما مع... الأستاذ عارف؟"
      فالتفتت إلي ولاتزال تعبيرات السرور بادية على وجهها وقالت:
      "أجل...فقد أنهينا محاضرات اليوم باكرا ولم نشأ تضييع الوقت في الانتظار... عدنا ودعوت مرح للغداء والمذاكرة معي".
      كتمت ما في نفسي وتركتها تعود إلى غرفتها بسلام.
      وعدت إلى غرفة المعيشة.. وكررت الاتصال بشقيقي عدة مرات بلا جدوى.. إنني لم أتمكن من محادثته منذ سافر.
      اتصلت بالمزرعة وكالعادة رفضت أروى التحدث معي.. وأعاد العم إلياس تأكيده بأن الوضع حرج وأن علي الحضور فورا...
      وككل يوم... دخلت مكتبي وبقيت فيه, وبقيت رغد في غرفتها... في الواقع لم نكن نلتقي إلا على مائدة العشاء التي نتناول طعامنا حولها شبه أخرسين...
      شعرت بملل شديد وأنا في المكتب... ولم يفلح حاسوبي في شغل تفكيري... لدي أمور أعمق وأهم لأفكر بها...
      غادرت مكتبي طالبا بعض الاسترخاء... وفي الواقع... بحثا عن رغد.كانت في غرفتها...
      "هل كنت تدرسين؟"
      أجابت وهي تفتح الباب وتشير إلى مجموعة من كراسات الرسم الموضوعة على سريرها:
      "كنت أتصفح رسماتي".
      قلت محاولا إذابة بعض الجليد من حولنا:
      "ألديك الجديد؟ أيمكنني التفرج؟؟"
      ظهر على رغد وجه رغد تعبير لم أفهمه... ثم توهج قليلا...وقالت:
      "نعم,بالطبع... تفضل".
      آذنة لي بدخول الغرفة, فقلت مفضلا:
      "دعينا نذهب إلى المطبخ... سأعد بعض الشاي".
      وسبقتها إلى المطبخ وبدأت بالتحضير للشاي.وافتني بعد قليل تحمل إحدى كراستها. وضعتها على الطاولة وجلست وهي تقول:
      "لا أظنك شاهدت هذه".
      وقد كنت فيما مضى أتفرج على لوحاتها الجديدة من حين لآخر... وكانت صغيرتي تسر بذلك... أقبلت نحوها وجلست على المقعد المجاور لها, وتناولت الكراسة وشرعت في تصفحها...
      سمعنا صوت فقعات الماء المغلي... فوقفت رغد قائلة:
      "سأعده أنا".
      وأمسكت بعكازها. قلت وأنا انظر إلى العكاز وأتذكر موعد الطبيب:
      "غدا نذهب إلى الطبيب وينزع جبيرتك وتستغنين عن هذا أخيرا".
      فابتسمت ابتسامة مشرقة وواصلت طريقها.
      كنا جالسين على مقعدين متجاورين, كما لم نفعل منذ زمن... نحتسي الشاي الدافىء... أنا أقلب صفحات الكراسة, وهي تلقي بتعليق على الصفحات من حين لآخر... لا شيء غير ذلك... لا شيء أقرب من ذلك... أخفي ما يدور في رأسي خلف صفحات الكراسة... أخاول أن أتحدث عن شيء خارج حدود الصفحة, ولا أجرؤ...
      يا ترى... ما الذي تفكرين به الآن أنت يا رغد؟؟
      على الورقة التالية, وجدت ورقة ملاحظات صغيرة, ملصقة على الصفحة المقابلة للرسمة... وكان كتوب عليها وبخط صغير ومرتب كلمات مختصرة فهمت منها أنها تعليق على الرسمة المقابلة..
      كانت الرسمة بالفعل خلابة... تفوق ما سبقها روعة... أخذت أتأملها مطولا... ورغم أنني لا أفهم في فن الرسم شيئا.. إلا أنني انبهرت بها تماما...
      قلت:
      "بالفعل رائعة! ما شاء الله".
      ابتسمت رغد وتودر خداها قليلا ثم قالت:
      "هذه الأجمل بين المجموعة... حسب شهادة الخبراء".
      التفت إليها وسألت:
      "الخبراء؟"
      فقالت وهي تشير إلى ورقة الملاحظات الملصقة على الصفحة المقابلة:
      "هل قرأت هذا؟"
      قلت:
      "نعم. أهي إحدى مدرساتك في الجامعة؟"
      ابتسمت رغد وقالت:
      "لا! إنه الرسام عارف... فقد اطلع على رسومي في هذه الكراسة وأبدى ملاحظاته".
      كدت أوقع قدح الشاي من يدي وأسكبه على هذه الصفحة بالذات... فوجئت... وتسمرت عيناي على ورقة الملاحظات... وعبثا حاولت إبعادهما عنها...
      ماذا تعنين يا رغد؟؟ تعنين أن عارف... عارف هو الذي كتب هذا؟؟ عارف أمسك بكراستك هذه... وتأمل رسماتك؟؟ كيف تجرأت على اقتراف هذا يا رغد؟؟
      التفت إليها أخيرا... وبدأ الشرر يتطاير من عيني... لكن عينيها كانتا تحملقان في ورقة الملاحظات... والبهجة مشعة على وجهها...
      وضعت كوب الشاي جانبا... وشددت على قبضتي غيظا... ثم سألت:
      "و... وكيف شاهد الأستاذ كراستك؟؟"
      فأجابت:
      "أعطيتها لمرح قبل يومين وأعادتها إلي اليوم".
      ازدرت ريقي وابتلعت حنقي معه وتظاهرت بالتماسك وقلت:
      "لكن... لماذا؟؟ أهي فكرتك؟"
      أجابت رغد:
      "فكرة مرح! إنها كانت تصر علي بأن تعرض لوحاتي على شقيقها الفنان منذ مدة... تقول أنها واثقة من أنها ستعجبه وسيرحب بعرضها في أحد معارضه ذات يوم... وأخذت كراستي كعينة".
      عضضت على شفتي وقلت:
      "و... ما رأيك أنت؟؟"
      فقالت بسرور واضح:
      "إذا رسمت لوحة مميزة فلا أحب إلي من أن تعرض ضمن مجموعة لفنان مبدع! سيكون هذا نجاحا كبيرا لي!"
      وكانت عيناها تبرقان سرورا...
      قلت غير قادر على تحمل المزيد:
      "يبدو... يبدو... أنك... مبهورة بالفنان عارف المنذر... ألست كذلك؟؟"
      وانتظرت إجابتها وأعصابي تحترق من الغيظ... رغد رفعت بصرها من الكراسة ونظرت إلي... ثم طأطأت رأسها وتوهجت وجنتاها واضطربت تعبيراتها...
      ماذا تعنين بربك يا رغد؟؟ كيف تجرئين؟؟
      تبا! أي مصيبة ألقت بك علينا أيها العارف؟؟ ومن أين خرجت؟؟
      أنا لا أسمح لك بهذا يارغد...
      أغلقت الكراسة لأنني لم أستطع تحمل شيء بعد... وبدا الاضطراب على أصابع يدي... لم أقو على كبت مشاعري أكثر... كيف... وأنا أقرأ الإعجاب في عين فتاتي برجل ما... أيا كان؟؟
      مددت يدي حتى أمسكت بيدها... وشددت عليها... رغد حملقت بي... وكسا الجد وجهها... رمقتها بنظرات مزجت الغيظ والعتاب والرفض والتوسل... لا أدري إن كانت رغد فهمت أيا منها... تجرأت أخيرا وقلت:
      "رغد... لا بد... وأنك... تعرفين أنه... طلب يدك مني".
      وتفحصت تعبيراتها بالتفصيل... هربت بناظرها عني... وعلاها الارتباك... وحاولت سحب يدها مني... فشددت عليها أكثر... وقلت:
      "إذن...؟؟"
      وتأملتها بتركيز شديد... لم تقل شيئا... ولم تحرك ساكنا... غير أن توهج وجهها تفاقم... ما أشعرني بالأم أكثر فأكثر... فشددت على يدها بقوة أكبر... علها تحس بما أعانيه... هذه الحبيبة الخائنة...
      قلت:
      "ما هو موقفك يا رغد... أخبريني؟؟"
      لكنها لم تتفوه بشيء ولم تنظر إلي... أجيبيني يا رغد أرجوك... قولي أنك لا تفكرين في شيء كهذا... وأنك ترين في العالم رجلا غيري أنا... أريحيني أرجوك!.
      ولما لم تجب... أرسلتني الأفكار إلى الجنون...
      قلت بنيرة عنيفة وقد تفجر الغضب في صوتي:
      "تكلمي يا رغد... أطلعيني على ما تفكرين به الآن".
      نبرتي القوية أخافت رغد.. فألقت نظرة وجلة ثم حاولت تحرير يدها من قبضتي وقالت بتوسل:
      "أرجوك... اتركني".
      وأرادت الوقوف والهرب بعيدا... غير أنني لم أطلق سراح يدها ووقفنا معا... هي تحاول الابتعاد وأنا أعيق تحركها...
      "أرجوك وليد.."
      قلت مباشرة:
      "أرجوك أنت... أطلعيني على ما يدور في رأسك".
      قفزت دمعة فجأة من عين الصغيرة واجتاحها الحزن...
      حرت في تفسير موقفها... قلت:
      "أنا من لم يعد يفهمك... ماذا تريدين؟ بمن تفكرين؟"
      صاحت رغد ووجهها ينكمش:
      "لا أحد...لا شيء... أنا لا أريد أن أتزوج أصلا... أبدا... أنت لن تفهمي.."
      وسحبت يدها... وسارعت بالتقاط عكازها ومغادرة المطبخ...
      رميت بثقل جسمي على الكرسي... وأسندت رأسي إلى الطاولة... وزفرت زفرة طويلة...
      وهذا الموقف العصيب... لم يزد العلاقة بيننا إلا برودا وتباعدا ... وبعد أن كنا نلتقي على الأقل على مائدة الطعام, صرنا لا نلتقي إلا في السيارة... وأنا أقلها ذهابا وعودة إلى ومن الجامعة.
      أما الأحاديث التي بيننا فقد تضاءلت لحد التلاشي... ولم نعد نكلم بعضنا البعض غير كلمة أو اثنتين في اليوم الواحد.
      كان مأزقا شديدا جدا... أثقل كاهلي وأحنى ظهري... إلا أن الورطة التي تلته... تخطت كل شدة وتجاوزت كل حدة... إنها الكارثة التي قصمت ظهري نهائيا...
      كانت ليلة أربعاء... وكنت مستلق في غرفة المعيشة, على وشك النوم, حين وردتني مكالمة هاتفية هيجت كل خلايا اليقضة في دماغي, وغيرت مجرى حياتي مائة وثمانين درجة... على الفور...
      كان المتصل أبا حسام... وهو لم يتصل بي منذ فترة.
      في البداية تجاهلت الاتصال.. فقد كنت أريد الاسترخاء بعيدا عن أي مؤثر خارجي... غير أن إلحاح المتصل... أثار فضولي.
      "مرحبا.."
      أجبت فتحدث أبو حسام مباشرة:
      "مرحبا يا وليد. كيف حالك؟ أين أنت".
      أقلقتني نبرته وسؤاله... فقلت:
      "خيرا؟؟"
      وفوجئت به يقول:
      "هل أنت في المنزل الآن؟؟ أنا عند الباب".
      ماذا؟؟!!
      "عند الباب؟؟"
      سألت مندهشا فأجاب:
      "نعم. فإذا كنت موجودا فافتح لي فهناك ما جئت أخبرك عنه".
      هببت جالسا بهلع... وسألت:
      "ما الأمر؟؟"
      فقال:
      "دعني أدخل أولا".
      وبسرعة ذهبت إلى الفناء وفتحت الباب فوجدت أبا حسام يقف أمام مرآي...
      انتابنب الهلع... فوجوده وفي كثل هذا الوقت وبهذه الحال ينذر بالخطر...
      قدت الرجل إلى الداخل...وكان يسير بحذر... وذهبنا إلى المجلس الرئيسي وأنا بالكاد أسيطر على ذهولي...
      بمجرد أن جلس على المقعد وقبل أي كلام آخر سألته:
      "ماذا هناك؟؟"
      أبو حسام تلفت يمنة ويسرة... وكأنه يريد أن يستوثق من أن أحدا لا يسمعنا... وكان الجد مجتاحا قسمات وجهه بشكل مخيف...
      لطفك يا رب...
      تحدث أخيرا وقال:
      "هناك أمر خطير يجب أن تعرفه وتتصرف حياله فورا يا وليد".
      أفزعتني الجماة, فحملقت به بأوسع عيني... وقلت:
      "أي أمر؟؟"
      قال وهو يخفت صوته:
      "المصادر التي حصلت منها على المعلومات موثوقة مائة في المائة. وأنا أخاطر بإفشائها لك... وقد أتيت سرا لأبلاغك... يجب أن تعيها جيدا وتتصرف حيالها بمنتهى الحذر... وبمنتهى السرعة".
      قلت مضطربا:
      "جففت حلقي يا عم... أخبرني ماذا هناك؟؟"
      وهنا قرب أبو حسام رأسه مني وقال بصوت حذر:
      "يتعلق الأمر... بشقيقك".
      توقف قلبي عن النبض فجأة... وصدري عن التنفس... واجتاحني فزع مهول... رفعت يدي إلى صدري وقلت بفزع:
      "ما به شقيقي؟؟"
      أبو حسام ركز أنظاره على وجهي وكأنه يقيس مدى الفزع فيه... ثم سأل:
      "أهو هنا؟؟"
      فقلت باضطراب:
      "لا... لكن مابه شقيقي؟ أرجوك أفصح؟؟ هل أصابه شيء؟؟"
      هز أبو حسام رأسه بنفي ممزوج بالأسف... ثم قال:
      "ليس بعد... لكنه على حافة الخطر..."
      ثم استنشق نفسا قويا من فمه وزفره أسفا ثم قال:
      "هل تابعت خبر محاولة اغتيال الوزير... الذي نفذته المنظمة المتمردة قبل أيام؟؟"
      أجبت بنظرة من عيني... تابع بعدها أبو حسام قائلا:
      "أخوك... متورط مع هذه المنظمة... وشارك في العملية بكل تأكيد".
      جفلت... تسمرت في وضعي... تصلبت أطرافي وتيبست عضلاتي... حتى كلمة (ماذا؟؟) لم أقو على النطق بها... أنا ربما... لا أسمع جيدا... ربما أنا نائم؟؟... ماذا... ماذا قلت؟؟
      حملقت في أبي حسام... غير مصدق... مذهولا لأبعد حد... فرأيت الجد ينبثق بقوة من عينيه... ثم إذا بي أحس بيده تمسك بكتفي... وصوته يطن في أذني:
      "الخبر أكيد تماما... طرت إليك من فوري لأبلغك... أحد الأعضاء وقع في أيدي السلطات وانتزعت منه اعترافات خطيرة... وهي في طريقها للقبض على العناصر جميعا..."
      وصمت لحظة... يراقب ردة فعلي وانفعالاتي المذهولة غير المصدقة, ثم أضاف:
      "سامر أحد العناصر... متى ما وقع في قبضتهم, فسيعدمونه لا محالة".
      أخيرا استطاع فمي النطق متلعثما هاتفا:
      "مستحيل!! م... ما... ما الذي... تقوله؟؟"
      شد أبو حسام الضغط على كتفي وقال:
      "أنا واثق من معلوماتي تماما..."
      شهقت ونطقت:
      "ما الذي تقوله؟؟ سامر أخي... عضو في... آه... ماذا؟؟ ما هذا الهراء؟؟"
      شد أبو حسام على كتفي بحزم أكبر وقال:
      "أعرف أنها صدمة... لكن... هذا ليس وقت المفاجأة يا وليد. شقيقك في خطر.. يجب أن تعمل فورا وفي الحال على إخراجه من البلد... الآن يا وليد.. قبل فوات الآوان".
      زفرت ونظرت من حولي... علي أجد ما يؤكد لي أنني لست في حلم... كنت رافضا تماما القبول بفكرة أن أخي... أخي أنا... آه كلا... مستحيل...
      قلت رافضا ومشككا:
      "ربما... ربما".
      لكن أبا حسام قال بحزم وجدية بالغين:
      "أنا لم أحضر من الشمال إلى الجنوب وبهذه السرعة وهذا الشكل وهذا الوقت لمجرد ( ربما ). وليد... أرجوك أن تستوعب الحقائق بسرعة. حياة شقيقك في خطر حقيقي... إنه متورط مع المنظمة منذ شهور... بعض العناصر هم زملاؤه في العمل في المدينة الصناعية... والعضو المعتقل وتحت وطأة التعذيب أفشى عن خطتهم التالية ومن سينفذها... سينفذونها هنا في المدينة الساحلية قريبا. السلطات ستنصب كمينا وتبتاغهم وترسلهم جميعا إلى الجحيم... لن ينجو إذا ما وقع في قبضتهم... لا مخرج أبدا".
      أمسكت برأسي الذي أحسست به يتأرجح على عنقي... وأغمضت عيني لأحول دون رؤية الأشياء بدأت تتراقص من حولي...
      أبو حسام وهو يراني هكذا قال حازما:
      "يجب أن تتماسك ياوليد... لا وقت للانهيار... يجب أن تنقذه قبل أن يقبض عليه وحينها... لا أمل في إنقاذه".
      حركت رأسي تأييدا وأنا لا أزال في مرحلة الصدمة, أجبر نفسي على تخطيها وسباق الزمن...
      قلت:
      "ماذا أفعل؟؟ كيف أتصرف؟؟"
      فقال:
      "يجب أن نخرج الشاب من البلد بأسرع أسرع ما يمكن... استخدم كل نفوذك وافعل المستحيل لترحيله إلى الخارج. لا أحد يقع في أيدي السلطات ويعود سالما. وخصوصا في قضية بهذه الخطورة... لا تدخر وسيلة مهما كانت".
      مسحت العرق الذي تصبب على وجهي كشلال مياه مالحة... وأخذت أفتح أزرار قميصي العلوية وكأن ذلك يساعد في إزاحة الكتم عن صدري... ثم قلت:
      "أنا... لا أعرف أين هو الآن".
      فنظر إلي أبو حسام بانزعاج فأوضحت:
      "سافر إلى الشمال الجمعة الماضي, ولم يجب على اتصالاتي".
      ثم قلت مستنتجا بذعر:
      "أخشى أنه..."
      فقاطعني:
      "لا يزال طليقا... وسيشارك في العملية التالية. لا بد وأنه في الجوار الآن.."
      في تلك الليلة... انحرفت الكرة الأرضية عن محور دورانها... وتخبطت واصطدمت في جميع الأجرام السماوية... ولم تبق لا نجما ولا قمرا... إلا وصفعته في رأسي...
      غادر أبو حسام المنزل... مخلفا إياي وسط كومة ضخمة هائلة... من حطام الكواكب...
      بقيت على ذات المقعد... أتلقى الصفعة تلو الأخرى... فاقدا الحواس الخمس... يحسبني الناظر إلي... جثة متصلبة تنتظر من يواريها...
      بعد حقبة من الزمن... الله الأعلم بمداها... عادت الروح إلى جسدي واستطعت التحرك...
      وقفت وأنا مفلوق الهامة... يأمرني الشقي الأيمن بالسير يمينا ويأمرني الأيسر بالسير يسارا... حتى إذا ما سرت... ترنحت وكدت أختتم صدماتي بارتطام بالجدار...
      صعدت السلم وقادتني قدماي إلى غرفة سامر, في الطابق العلوي.
      ربما خيل إلي... أنني سأستيقظ من الكابوس وأرى أخي ينام بسلام على سريره...
      لكنه لم يكن على سريره! أشعلت المصابيح غير أن النور لم يكتشف شيئا مستترا....
      ولا شعوريا أخذت أفتش بين أغراضه...
      مسكين وليد! هل خيل لك دماغك المفلوق... أنك ستجد شقيقك الغائب... مختبئا في أحد الأدراج؟؟
      ما وجدته في أحد الأدراج... كان صندوقا... إنه ذات الصندوق الذي رأيته في شقة أخي في المدينة التجارية... والذي تغلبت على فضولي ولم أفتحه...!
      ولكن لماذا تتحرك يدي لفتحه الآن؟؟ أي من شقي دماغي يأمرها بذلك؟؟
      فتحته... أخيرا فتحته ووقع بصري مباشرة على ما فيه!
      اشرأب عنقي... جحظت عيناي... تصادمت قطرات دمي وهي تتدفق بتهور وعشوائية من قلبي...
      أتعرفون ماذا رأيت؟؟
      لا لن تحزروا...!
      لقد كان... مسدسا!!!

      تعليق


      • الجزء التاسع والأربعون


        يا شقيقي الوحيد



        تقترب الساعة من السابعة والنصف ووليد لم يظهر بعد! سأتأخر عن الجامعة... ألا يزال نائما حتى هذه الساعة؟؟
        كان لا بد لي من الذهاب إلى غرفة المعشية – حيث ينام – وطرُقِ الباب...
        نحن لا نكلم بعضنا منذ أيام... في الواقع العلاقة بيننا شبه منقطعة منذ زمن... وبعد موضوع الفنان عارف هذا الأخير... لم نعد نتبادل غير التحية...
        لكن أنا أرضى من وليد بأي شيء... حتى لو قرر أن يتجاهلني تماما... سأقبل... أريد فقط أن يبقيني تحت جناحه... وأن يسمح لي بأن أراه ولو مرة واحدة كل يوم...
        واليوم سيأخذني إلى الطبيب حتى تنزع جبيرة رجلي أخيرا... وأستعيد كامل حركتي... أخيرا...
        طرقت الباب مرارا ولم يجبني. كان الوقت يداهمني لذلك لم أتردد كثيرا قبل فتح الباب... والمفاجأة كانت أنه لم يكن في الداخل!
        بحثت عنه في المطبخ والغرف المجاورة ولم أجده. شعرت بالقلق... ورجحت أن يكون في الطابق العلوي. لم تكن الخادمة قد استيقظت بعد... اتصلت بغرفته العلوية عبر الهاتف الداخلي وما من مجيب... ازداد قلقي... فاتصلت بهاتفه المحمول... وأخيرا تلقيت ردا:
        "نعم رغد"
        قالها بسرعة وكأنه على عجلة من أمره أو مشغول... سألته مستغربة:
        "أين أنت؟؟"
        فأجاب:
        "في الجوار... سأصل بعد قليل"
        ولكن! إلى أين ذهبت في هذا الصباح الباكر؟؟ وكيف غادرت وتركتني!؟؟
        قلت:
        "حسنا"
        وأنهيت المكالمة وجلست أنتظره في المطبخ. جاء بعد قليل وكان يحمل معه كيسا يحوي أقراص الخبز وفطائر وأطعمة أخرى, فاستنتجت أنه كان في المخبز.
        قاد وليد السيارة بسرعة كبيرة نحو الجامعة, على غير العادة... وتلقى ثلاثة اتصالات هاتفيه أثناء الطريق... وكان ظاهرا من كلامه... أن هناك ما يقلقه...
        لم أجرؤ على سؤاله... فالتواصل بيننا مؤخرا كان مجمدا... ذهبت إلى جامعتي وقضيت نهاري بين زميلاتي بشكل اعتيادي... دون أن يخطر ببالي... أنه سيكون النهار الأخير...
        بعد انتهاء المحاضرات, جلسنا أنا ومرح عند المواقف ننتظر وصول سيارة وليد كالعادة... فهو من كان يوصلنا يوميا ذهابا وإيابا إلى ومن الجامعة. مرت بضع دقائق ولم تظهر السيارة... ووجدت مرح في الانتظار فرصة لتطرح علي السؤال التالي:
        "هل من جديد... عن موضوعنا؟؟"
        تعني موضوع عرض الزواج!
        آه يا مرح! وهل هذا وقته؟؟
        لم أشأ أن أكون فظة... وأخبرها مباشرة بأن تنسى الموضوع نهائيا... خصوصا وأن هناك طلب رسمي من عائلتها مقدم رسميا إلى وليد... ولي أمري.. والذي يجب أن يتولى بنفسه الرد الرسمي على الطلب, لم أشأ أن أحرجها وأحرج نفسي لذا قلت متظاهرة بالمرح:
        "انتظروا رد أبي!"
        لكنني لم أتخلص منها إذ سألت من جديد:
        "ماذا عن رأيك أنت؟؟ هل توافقين على الفكرة مبدئيا؟؟"
        واحترت بم أجيب؟!
        ربما فسرت مرح حيرتي بأنها قبول وخجل... فها هي تبتسم بسرور!
        أظهرت الجد على ملامح وجهي وقلت:
        "مرح... هناك شيء لم أطلعك عليه من قبل"
        فاتسعت ابتسامتها وقالت بفضول مندفع ممزوج بالمزح:
        "ما هو؟؟ أخبريني!سرك في بئر!"
        آه! يبدو أنه من الصعب أن تأخذ مرح الأمور بجد حقيقي!
        قلت وأنا مستمرة في نبرة الجد:
        "لقد... كنت مخطوبة في السابق"
        اتسعت حدقتا مرح بشدة... وحملقت بي غير مصدقة, فقلت مؤكدة:
        "نعم... ولعدة سنوات!"
        قالت بعد ذلك وفمها مفغور:
        "أحقا!! لا أصدق! كيف!؟؟ متى؟؟ أين؟؟ من؟؟"
        انتظرت حتى تستفيق من أثر المفاجأة ثم قلت:
        "بلى صدقي"
        فقالت مباشرة:
        "متى رغد!؟"
        أجبت:
        "منذ سنين... كنت صغيرة...و... لقد انفصلت عنه... قبل شهور"
        لم تخف مرح دهشتها الشديدة...
        أستغرب من نفسي!!
        كيف أذكر هذا الموضوع وكأنه موقف عابر وانتهى... بينما كان في الواقع حدثا استمر لأربع سنين؟؟!!
        أربع سنين عشتها مخطوبة لسامر... وأنا لا أعرف ما هي حقيقة مشاعري نحوه... أصلا... لم أكن أعرف أن هناك أنواع من الشعور... لم أذق منها سوى طعما واحدا... إلى أن ظهر وليد في حياتي من جديد... وأذاقني أصنافا أخرى...
        سألت مرح:
        "من كان؟؟"
        فنظرت إليها نظرة قوية... ثم أبعدت بصري عنها وطأطأت رأسي... وبعد تردد قصير أجبت:
        "ابن عمي"
        حينها هتفت مرح بدهشة وهي ترفع يدها إلى فمها:
        "المليونير!!! وليد شاكر!!؟؟"
        التفت إليها بسرعة وقد لسعني تعليقها بقوة فأجبت بتوتر:
        "لا... لا..."
        ثم زممت شفتي وأضفت:
        "شقيقه الأصغر"
        فقالت مرح وقد بدا وكأنها آخذة في الاستيعاب:
        "هكذا... إذن!"
        ثم صمتت قليلا... وعادت تسأل:
        "و... لماذا انفصلتما؟؟"
        وعند هذا الحد كان يجب أن نتوقف... قلت وأنا أفتح حقيبتي وأستخرج هاتفي وأتظاهر بعدم الاكتراث:
        "لا نصيب"
        واتصلت مباشرة بوليد... أسأله عن سبب تأخره...
        وأدهشني وحيرني حين أجاب:
        "أنا آسف يا رغد. لا أستطيع الحضور الآن. مشغول جدا. عودي مع صديقتك"

        **********

        كنت ساعتها أبذل كل الجهود الممكنة والمستحيلة من أجل تسهيل أمر ترحيل أخي إلى الخارج في أي لحظة تصل يدي إليه... اتخذت عشرات التدابير... ووضعت عدة خطط وبدائل خطط... استعدادا للعملية...
        لم يعد لدي شك في أن أخي بالفعل متورط مع تلك المنظمة... ولم أعد بحاجة إلى دليل إضافي بعد ما وجدت في الصندوق...
        لا وقت لدي كي أستوعب وأحلل... أنا هنا فقط لأعمل وأعمل... بشتى الطرق... لأعثر عليه وأخرجه من البلد قبل أن تسبقني السلطات إليه...
        ولشخص مثلي... عاش في السجن ثمانية أعوام... ورافق مجرمي أمن البلد... وعاصر مصارعهم أمام عينيه, لا أحد بحاجة لأن يشرح لي... ما الذي يمكن أن يلاقيه أخي... لو تم اعتقاله...
        عدت إلى المنزل عند الخامسة... في أشد أشد حالات الإعياء والتعب...
        عند وصولي استقبلتني رغد بوجه قلق... وسألتني مباشرة:
        "تأخرت وليد..."
        وسرعان ما لاحظت أثر الإعياء صارخا على وجهي... فقالت هلعة:
        "ماذا هناك..."
        فركت عيني اللتين لم تذوقا للنوم طعما منذ البارحة ثم قلت:
        "متعب من العمل... سأخلد للنوم"
        وخطوت خطوة باتجاه غرفة المعيشة, فاستوقفتني رغد قائلة:
        "موعدي مع الطبيب"
        فتذكرت... أن اليوم... هو موعد نزع جبيرة رغد... وهو أمر ألغاه من ذاكرتي ما حل مكانه بكل قوة...
        التفت إليها وقلت:
        "لا وقت لدينا"
        فنظرت إلي بحيرة واستغراب وحزن... عندها اقتربت منها خطوة وقلت:
        "رغد... اجمعي أهم أشياءك في حقيبة... جهزيها في أسرع وقت اليوم"
        بدا الذعر على وجه صغيرتي ورفعت يدها نحو عنقها وقالت متوجسة خيفة:
        "ستعيدني إلى خالتي؟؟... كلا أرجوك"
        فحملقت فيها قارئا مخاوفها وتوسلاتها ثم قلت:
        "ليس هذا... قد نضطر إلى سفر طارئ وحرج في أية لحظة... استعدي"
        وتابعت سيري إلى غرفة المعيشة تاركا إياها في حيرتها... واستلقيت على الكنبة وغرقت في النوم بسرعة...
        "وليد... سامر هنا"
        فتحت عيني... واستفقت لأكتشف أنني لا زلت نائما على الكنبة... وأرى رغد تقف أمامي...
        لكن... مهلا... ماذا كانت تقول؟؟ ماذا كنت أحلم؟؟ ماذا سمعت؟؟ ماذا هيئ لي؟؟
        استويت جالسا وأنا لا أزال بين النوم والصحوة... ونظرت إلى ساعة يدي... فرأيتها تشير إلى الثامنة مساء...
        أوه... الصلاة...
        قلت:
        "لماذا لم توقظيني عند المغرب؟"
        كان شيئا من القلق علو وجهها... وسمعتها تقول:
        "لم أكن أعلم أنك لا تزال نائما... أحسست بحركة في المنزل فبحثت عنك... ووجدتك نائما هنا... سألت الخادمة فأخبرتني بأنها رأت السيد الأصغر يصعد السلم... أتيت لأوقظك وأخبرك بهذا"
        لخمس ثوان بقيت محملقا فيها أستوعب ما قالته... ثم... وبسرعة البرق... قفزت من مكاني وركضت طائرا نحو الطابق العلوي...
        أقبلت باندفاع نحو غرفة شقيقي وكان الباب مغلقا... ففتحته بسرعة واقتحمت الغرفة...
        وكم كاد قلبي أن ينفجر من البهجة... حين رأيت شقيقي سامر... يقف أمام عيني...
        "الحمد لله"
        انسكبت الجملة من لساني وطرت نحو شقيقي وطوقته بذراعي وضممته إلى صدري...
        "حمدا لك يا رب... حمدا لك يا رب"
        ألف حمد لك يا رب... فقد رددت إلي شقيقي سالما... حيا... معافى... الآن أستطيع أن أخبئه... أن أحميه بحفظك... وأبعده عن الخطر...
        أزحت ذراعي عن أخي ونظرت إلى عينيه... فرأيت الشك... والاتهام ينبعثان منهما... وانتبهت حينها إلى الصندوق الذي كان سامر يخبئ فيه السلاح... موضوعا ومفتوحا على السرير...
        كلانا نظر إلى الصندوق... ثم إلى بعضنا البعض... ونظرتنا تبلغ إحداها الأخرى... بما استنتجت...
        أخيرا نطق سامر قائلا:
        "أين هو؟؟"
        يقصد المسدس.. والذي أخذته أنا من صندوقه ذلك اليوم, وأخفيته...
        لم أجب... فكرر سامر وبنبرة أغلظ وأشد:
        "أين هو؟؟"
        حدقت به برهة ثم قلت:
        "تخلصت منه"

        تعليق


        • بدأ وجه شقيقي يضطرب... تغيرت ألوانه وتبدلت سحنته... وزفر بنفاذ صبر وعاد يكرر:
          "وليد... أخبرني أين وضعته؟؟ ولماذا سمحت لنفسك باقتحام غرفتي والعبث بأشيائي؟؟"
          قلت محاولا امتصاص غضبه وأنا أمسك بذراعه:
          "دعنا نجلس ونتحدث"
          غير أن أخي سحب ذراعه من يدي وهتف بعصبية:
          "أعده إلي يا وليد الآن... لا وقت عندي"
          فنظرت إليه بعطف وقلت:
          "لا وقت... لماذا؟؟ ما أنت فاعل؟؟"
          فرد باقتضاب:
          "ليس من شأنك... ولا تقحم نفسك في ما لا يخصك"
          فرددت مباشرة معترضا:
          "لا يخصني؟؟ أنت شقيقي يا سامر... شقيقي الوحيد وكل ما يتعلق بك يخصني ويعنيني"
          قال سامر بعصبية وصبر نافذ:
          "وليد لو سمحت... لا داعي لتضييع الوقت في الكلام... أعد السلاح إلي في الحال ودعني أذهب"
          وكلمة (أذهب) هذه هزت جسدي من شعر رأسه إلى أظافر قدميه... ثم هززت رأسي بــ (كلا) فما كان من أخي إلا أن تجاوزني وسار مندفعا نحو الباب وهو يقول:
          "سأفتش عنه بنفسي"
          وانطلق نحو غرفة نومي... دخلها وباشر بتقليب الأشياء وبعثرة كل ما تقع يده عليه, بحثا عن المسدس...
          وقفت عند الباب أراقبه... وأنا لا أصدق أنها الحقيقة... أخي أنا... عضو في منظمة للمتمردين... يشارك في تنفيذ عمليات إجرامية؟؟ أخي أنا... يملك سلاحا... ويغتال البشر...؟؟
          "أين أخفيته يا وليد تبا لك!"
          قال ذلك بعد أن اشتط به الغضب ويأس من العثور على ضالته... فقلت: "لا تتعب نفسك... إنه ليس هنا"
          التفت إلي والشرر يتطاير من عينيه وزمجر:
          "إذن... لن تدلني على مكانه؟؟"
          فأجبت بحزم مع مرارة:
          "أبدا"
          وما كان من شقيقي إلا أن ألقي ما كان في يده وسار منطلقا إلى خارج الغرفة وباتجاه السلم...
          تبعته وأنا أقول:
          "إلى أين ستذهب؟؟ إنه ليس في المنزل"
          فسمعته يرد:
          "إذن... سأترك لك أنت المنزل"
          انفجرت القنابل في رأسي... ركضت خلفه وأنا أهتف:
          "انتظر... انتظر"
          قفزت الدرجات قفزا حتى أدركته عند أواخرها وأطبقت بيدي على ذراعه... قلت:
          "لن أدعك تخرج"
          سامر حاول تحرير ذراعه من قبضتي فشددت أكثر... فصرخ في وجهي:
          "اتركني"
          غير أنني شددته أكثر وأعقته عن التقدم...
          حينها سدد ركلة بركبته إلى معدتي مباشرة... وفرط الألم أصابني بشلل مفاجئ... فتمكن من الإفلات من قبضتي وهرول مبتعدا...
          لحقت به بسرعة وأدركته عند الممر فأمسكت به وجذبته وأنا أهتف:
          "لن أدعك تذهب يا سامر... لن ادعك"
          ودارت بيننا معركة عنيفة... أشد شراسة وضراوة من تلك التي أشعلناها ليلة زيارة (عارف المنذر) لنا...
          كنت أضربه وأنا أتألم... أمزق ملابسه وأنا أتمزق... أدميه وأنا أنزف... يستحيل أن أتركك تخرج يا سامر... وإن اضطررت لكسر ساقيك فسأفعل... لكنني لن أدعك تقع في أيدي السلطات... لن أدعهم يلمسوا منك ولا شعرة واحدة...

          *********

          وقفت أشاهد عراك ابني عمي الجنوني مذعورة... ألصق جسدي بالجدار خشية أن تنالني صفعة طائشة من أي من قبضتيهما!
          كلما ضرب أحدهما الآخر أطلقت صيحة ذعر وأخفيت عيني خلف راحة يدي.. وانتفض جسمي. كان سامر يحاول التوجه إلى المدخل.. إلى الباب.. لكن وليد كان يجره في الاتجاه المعاكس وهو يصرخ:
          "لن أسمح لك بالذهاب... لن أدعهم يمسكون بك... لن أسلمك للموت بهذا الشكل أبدا"
          وسامر يحاول التحرر من يده وهو يصرخ:
          "اتركني... لا شأن لك بي..."
          فيرد وليد:
          "سيقبضون عليك ألا تفهم؟؟ سيلقون بك في السجن إلى أن يعدموك بأبشع وسيلة.. أنا لن أسمح لهم بالوصول إليك"
          ويحتدم العراك بين الشقيقين وأرى اللون الأحمر يشق جداول وبركا على جسديهما...
          يضرب سامر ساق وليد بقوة فيجثو أرضا... ويحاول سامر الفرار فتقبض يدا وليد على رجله ويشده بعنف فيفقد توازنه ويقع أرضا... يطبق وليد على رجلي سامر ويجره في الممر عنوة... يحاول سامر النهوض ويفشل.. يصرخ:
          "اتركني... ابتعد"
          ويوجه ركلة بقدمه نحو وليد فتصيب أنفه مباشرة... لكن وليد لم يطلق سراح سامر من قبضته بل جره وهو يحك جسده بالأرض... ويحاول سامر غرس أظافره في الرخام الأملس دون جدوى... فيصرخ بصوت أقوى وأعنف:
          "اتركني أيها الوحش"
          ووليد مستمر في جر أخيه إلى أن أدخله مجلس الضيوف... لم أعد من مكاني أستطيع رؤيتهما لكن صراخهما كان يدوي في كل المنزل... وسمعت أيضا صوت المزيد من الركلات والضربات والآهات المتوجعة القوية... والتي جعلتني أرجح أن كسرا ما قد أصاب عظام منهما...
          لم أشعر إلا ودموع الرعب تنسكب فائضة من عيني...
          لقد... سبق وأن عاصرت عراكا بينهما,ولكن ما يحدث الآن... يفوق حد الجنون...
          "رغد"
          فجأة انتفض جسمي على صرخة أحد يهتف مناد باسمي...
          "رغد... تعالي بسرعة"
          حتى أنني لقوة الزمجرة لم أعرف صاحبها...
          "رغد أسرعي"
          أمسكت بعكازي وهرولت نحو المجلس تاركة قلبي معلقا على الجدار الذي كنت أستند إليه... فور وصولي إلى فتحة الباب وقع بصري على وليد يلوي ذراع سامر وهو يلصقه بالجدار بينما يحاول سامر التملص ويسدد رفسات عشوائية نحو رجلي وليد...
          "أغلقي الباب بالمفتاح"
          قال ذلك وليد, فنظرت إليه غير مستوعبة... ماذا يقول..؟؟
          فصرخ:
          "هيا بسرعة.."
          ارتجفت من صرخته ونظرت إلى الباب ورأيت المفتاح مغروسا في ثقبه...
          صرخ وليد:
          "أقفليه بسرعة هيا"
          وفي نفس الوقت صرخ سامر:
          "إياك يا رغد"
          فصرخ وليد صرخة مجلجلة:
          "تحركي"
          انصعت بعدها لأمره بلا إدراك, وأغلقت الباب وأقفلته...
          وقفت خلف الباب المقفل واضعة يدي على صدري... وأنا أحملق في المفتاح... ولم يعطني العراك الذي هز الباب أمام مرآي, أي فرصة للتفكير واستيعاب ما يجري...
          ابتعدت عن الباب وأنا أتوقع أن يقلع في أية لحظة... كان جسد أيا منهما يرتطم به المرة بعد الأخرى... ثم أخذت قبضتا أحدهما تدكه دكا...
          "افتحي يا رغد"
          لقد كان سامر...
          "إياك أن تفتحي... ابقي مكانك"
          صوت وليد...
          وتداخلت الأصوات الصارخة الثائرة المجنونة... افتحي لا تفتحي... حتى شعرت بالدوار وخررت على الأرض...
          انطلق البكاء المكبوت من صدري أخيرا وأخذت أصرخ:
          "ماذا يحدث... ما الذي تفعلانه؟؟ ماذا حل بكما؟؟"
          وأنا لا أفهم شيئا...
          ثم سمعت ضربات قوية على الباب أوشكت على اختراقه من شدتها... وصراخ سامر يهتف:
          "افتحي الباب يا رغد"
          يليه صوت وليد:
          "لا تستمعي إليه يا رغد... إذا خرج فسوف يقتلونه... إياك يا رغد..."
          التفت إلى الباب وهتفت:
          "من يقتلون من؟؟"
          فجاءني رد وليد:
          "الشرطة تطلبه... سيجدونه حتما... أنا سأنقذه قبل أن يصلوا إليه..."
          أنا... لا أفهم شيئا... لا أفهم شيئا...
          "رغد"
          ناداني وليد:
          "رغد أتسمعين؟؟"
          أجبت:
          "نعم"
          قال:
          "أحضري هاتفي المحمول بسرعة"
          لم أعقب... فقال:
          "هل تسمعينني يا رغد؟؟"
          قلت:
          "ما الذي يجري؟؟ أنا لا أفهم؟؟"
          فقال:
          "أحضري هاتفي... ولا تفتحي الباب إلا حين أطلب أنا ذلك... بسرعة يا رغد"
          ونهضت, وامتثلت لأمر وليد وجلبت هاتفه من غرفة المعيشة. وقفت عند الباب وقلت:
          "الهاتف"
          فسمعته يخاطب سامر:
          "دعني أنقذك يا سامر... أنا أعرف سبيلا لذلك... لا تعترضني أرجوك"
          لكن الظاهر أن سامر انكب مجددا على وليد وتعاركا ثانيا...
          "ما الذي تريده مني؟؟ لماذا لا تتركني وشأني؟؟"
          قال سامر, فأجاب وليد:
          "لن أتركك وشأنك يا سامر... إنهم سيقبضون عليك ويقتلونك ألا تفهم؟؟"
          فقال سامر:
          "وما الذي يهمك أنت؟؟ هذه حياتي أنا"
          فيرد وليد بصوت شجي متألم:
          "كيف تقول ذلك؟؟ إنك أخي الوحيد... كل من تبقى لي من عائلتي... أنا لا أقبل أن يصيبك أي ضرر"
          فرد سامر:
          "منافق"
          فجاء صوت وليد يرد بألم أشد:
          "أنا يا سامر؟؟"
          فيقول سامر:
          "أنت أصلا لم تكترث لي ولمشاعري... أي أخوة وأي نفاق"
          وحل صمت مفاجئ... بعد طول جلبة وضجيج... ثم سمعت وليد يقول:
          "أكترث لك ولكل ما يعنيك يا سامر... ألا ترى ما أنا فيه؟؟ ألا ترى؟؟ ألا تعرف ما حل بي منذ عرفت؟؟"
          ثم أضاف:
          "دعني أجري اتصالاتي وأتصرف بسرعة قبل فوات الأوان"
          فقال سامر:

          تعليق


          • "وفر جهودك... لقد فات الأوان... أنا لا يهمني أي شيء... لا الحياة ولا الموت"
            فرد وليد:
            "لم يفت الأوان... سأعمل على إخراجك من البلد ومن كل بد"
            ثم تغيرت نبرته إلى الرجاء وقال:
            "ابق مكانك... أرجوك أنا مرهق... لا طاقة لي بالمزيد"
            ثم اقترب صوته... صار عند الباب مباشرة... خاطبني أنا قائلا:
            "رغد افتحي الباب"
            وبقيت لثوان مترددة... وسألت:
            "هل أفتح؟؟"
            فأجاب:
            "نعم افتحي"
            بحذر أدرت المفتاح في ثقبه... ثم رأيت قبضة الباب تدور... والباب ينفتح ويظهر منه وليد... بمظهر فظيع ومرعب...
            تحرك وليد بسرعة إلى الخارج وصد محاولة سامر للحاق به وأغلق الباب وأقفله فورا...
            أخذ سامر يضرب على الباب بيديه ورجليه وهو يصرخ طالبا منا فتحه ووليد واقف على الناحية الأخرى يقول:
            "لن أفتحه يا سامر... أرجوك لا تعقد علي الأمر... انتظر حتى أؤمن فرارك... أرجوك ثق بي"
            صرخ سامر:
            "جبان... ستدفع ثمن هذا..."
            ولم يجب وليد...
            رأيته يطأطئ رأسه... ثم يمسح براحته على وجهه ثم يرفه رأسه متأوها ويمسد على ذراعه... ثم يستدير إلي...
            هل أصف لكم كيف كان؟؟
            يفوق الوصف...
            الملابس... ممزقة... ملطخة بالدماء... العنق... مخطط بالخدوش الدامية... الشعر مبعثر في كل الاتجاهات... كعش هجره عصفوره قبل أن يكمله... الوجه متورم شديد الاحمرار... متغير الملامح... يحملق الناظر فيه بضع دقائق... ليعرف صاحبه... وشارعان متوازيان من الرواسب المالحة... يمتدان من المقلتين شاقين الوجنتين... ينتهي أحدهما إلى غابة من الشعر الأسود... والآخر يصب كنهر ناضب في بركة من الدماء الغزيرة...تنبع من أنفه...
            وليد... قلبي!!!
            مد وليد يده باتجاهي... ومن فرط ذهولي بفظاعة منظره... لم أفهم ما يعني...
            هل... هل يريد أن... أشد على يده وأربت عليه؟؟
            أم... يريد أن... أنظف جراحه وأضمدها؟؟
            أم... يريد أن يستند إلي... نعم... فهو في حالة فظيعة... وربما لا يستطيع السير بمفرده...
            لما أحس وليد ضياعي, قال:
            "الهاتف"
            هنا ضرب سامر الباب وصرخ:
            "افتحوا الباب... دعوني أخرج من هنا"
            تناول وليد الهاتف من يدي, ثم نزع المفتاح من ثقبه, ونظر إلي وقال:
            "إياك يا رغد... أن تفتحي له... إياك"
            وربما لاحظ تيهي... وعدم استيعابي لشيء... فقال مؤكدا ومحذرا:
            "حياته بين أيدينا... إياك وفتح الباب مهما حصل... أتفهمين؟؟"
            أفهم؟؟ أفهم ماذا يا وليد؟؟
            هززت رأسي كيفما اتفق... وحاولت أن أنطق بسؤال, غير أن وليد كان قد باشر بالاتصال الهاتفي... وابتعد عني... واختفى...
            بعد ذلك بأربعين دقيقة وفيما كنت أجلس في غرفتي في حيرتي وهلعي أتاني وظاهر عليه أنه استحم ونظف جروحه وبدل ملابسه وأخبرني بأنه سيخرج في مشاوير مهمة وسيعيد الخادمة إلى مكتب التخديم... وسألني إن كنت قد جهزت حقيبة السفر وانزعج عندما أجبته بالنفي...
            "لا وقت أمامنا يا رغد... اجمعي أهم أشياءك واستعدي للسفر الطارئ خلال يومين أو ثلاثة"
            تفاقم القلق على وجهي وسألت:
            "ألن توضح لي ما يحصل؟؟"
            فأجاب إجابة مقتضبة وهو يستدير ويغادر:
            "تورط في عمليات شغب خطيرة... السلطات ستقبض عليه... أريد أن أفر به من البلد وبعدها نوضح الأمور"
            توقف وليد واستدار إلي ونظر إلي نظرة جد وتحذير:
            "لا تفتحي الباب يا رغد... إياك"
            أطال النظرة إلي, ثم غادر... تاركا إياي في ذهول ما بعده ذهول...
            بعد ذلك بفترة قصيرة... خرجت من غرفتي وتسللت بحذر نحو غرفة المجلس... اقتربت من الباب, وألصقت أذني به مسترقة السمع لأي حركة أو صوت يصدران من الداخل... كان الهدوء التام يغمر الغرفة بحيث لا تصدق أنها كانت تعج بالصراخ كالبركان قبل فترة...
            همست بصوت خفيف:
            "سامر"
            ولم أجد جوابا, فطرقت الباب طرقا خفيفا وأنا أنادي:
            "سامر... هل تسمعني؟؟"
            جاء صوت سامر يجيب:
            "رغد"
            ثم أحسست بحركة... سمعت سامر بعدها يقول وقد اقترب صوته من الباب:
            "أين وليد يا رغد؟؟"
            أجبت:
            "خرج من المنزل"
            فسأل:
            "إلى أين ذهب؟؟"
            قلت:
            "قال أن لديه مشاوير ضرورية ليقطعها"
            صمت سامر... فقلت:
            "كيف إصاباتك؟؟"
            فأنا لا أستبعد أن يكون عظم منه قد كسر... بعد العراك الوحشي مع وليد. لم يجب سامر فالتزمت الصمت قليلا ثم سألت:
            "ماذا يحدث يا سامر؟؟ أخبرني"
            ولكنه لم يجب. فواصلت:
            "أرجوك قل لي... ما الذي فعلته ويعرض حياتك للخطر؟؟ ولماذا؟؟ أنا لا أصدق..."
            قال سامر فجأة:
            "رغد افتحي الباب"
            ابتعدت عن الباب, وكأنني أخشى أن أنصاع للأمر بمجرد قربي منه... ولم أعقب... فقال سامر بنبرة رجاء شديد:
            "أرجوك يا رغد... افتحي الباب... هناك من ينتظرني... الأمر مهم جدا"
            فتشجعت وسألت:
            "أي أمر؟؟"
            فسكت سامر برهة ثم أجاب:
            "لا أستطيع أخبارك... افتحي الباب ودعيني أخرج قبل عودة وليد... إنه لا يعرف شيئا ولا يفهم الحقيقة"
            أعدت ذات السؤال:
            "أي حقيقة؟؟"
            فقال بنفاذ صبر:
            "لا أستطيع أن أشرح لك الآن... يجب أن أخرج وإلا فإن كارثة ستحل بأصدقائي... أرجوك يا رغد... افتحيه ودعيني ألحق بالأوان قبل فواته"
            تراجعت للوراء خطوة وأنا أهز رأسي رفضا... وكأنني أحذر نفسي وأنذرها من مغبة الانصياع...
            سمعت سامر يطرق على الباب وهو يقول:
            "أين أنت يا رغد... أرجوك... افتحيه"
            فقلت:
            "لا أستطيع"
            قال:
            "لماذا؟؟"
            فأجبت:
            "وليد..."
            وقبل أن أتم الجملة قاطعني قائلا بحنق:
            "وليد لا يعرف الحقيقة... إنه سيندم كثيرا حينما يكتشفها... لا وقت لأوضح لك يا رغد... أرجوك افتحيه وخلصيني"
            قلت:
            "انتظر حتى يأتي وليد وبين له الحقيقة... ثم... ثم إن المفتاح معه هو"
            فقال:
            "ستجدين مجموعة المفاتيح الاحتياطية في درج مكتبه كما يتركها عادة... هاتي المجموعة وفتشي عن المفتاح المناسب. بسرعة يا رغد... أرجوك"
            قلت وأنا أبعد يدي خلف ظهري:
            "لا أستطيع يا سامر... وليد حذرني"
            فإذا به يقول فجأة:
            "طبعا ستطيعينه هو"
            فوجئت من كلامه, وسحبت يدي نحو صدري ثم قلت مبررة:
            "لأنه... قال... إن هذا خطر على حياتك"
            فرد سامر بعصبية:
            "غير صحيح... إنه مخطئ... بقائي هنا خطر على حياتي وحياة أصدقائي"
            ثم أضاف:
            "أنت تشاركين في تعريض حياتنا للخطر... هل هذا يرضيك؟؟"
            قلت:
            "لا"
            فقال:
            "إذن افتحي الباب... وأنا أضمن لك بأننا سنكون بخير وممتنين لك على إنقاذنا"
            "أحقا؟؟"
            "أجل يا رغد... هيا الآن افتحيه... وأنا سأتصل بوليد وأشرح له كل شيء... عجلي أرجوك"
            احترت في أمري... فسامر يبدو صادقا جدا فيما يقول... وكان يقنعني بأنني أعرض حياته للخطر بإبقائه حبيسا... لكن نظرات وليد المهددة... وهو يخاطبني قبل خروجه مباشرة تجعلني أتردد... وأبتعد عن الباب...
            "رغد... الآن"
            قال سامر... غير أنني أجبت حاسمة الأمر:
            "لا أستطيع يا سامر... سامحني"
            وسمعت على أثرها ضربة قوية تصدع الباب لها...
            عدت إلى غرفتي وبدأت أحاول جمع أهم حاجياتي في حقيبة صغيرة... وبعد نصف ساعة سمعت ضربا على باب غرفة المجلس, وصوت سامر يناديني...
            توجهت إليه مسرعة وقلت:
            "نعم سامر أنا هنا"
            فقال:
            "رغد هل لي ببعض الماء من فضلك؟؟"
            ولما لاحظ صمتي قال بنبرة رجاء:
            "أكاد أموت عطشا... اجلبي لي قارورة كبيرة رجاء"
            قلت بتردد:
            "لكن..."
            فقال بنبرة أشد رجاء... تذوب لها الصخور الصلبة:
            "لكن ماذا يا رغد؟؟ سألتك بالله... حلقي تجرّح من شدة الجفاف... تكاد دمائي تتخثر في عروقها... أرجوك ولو كأسا واحدا"
            انفطر قلبي لكلامه... لم أتحمل... ألقيت بثقل جسدي على الباب وقلت بنبرة توشك على البكاء:
            "لا تخدعني يا سامر... أرجوك"
            فقال:
            "أخدعك؟؟ أقول لك إنني أكاد أموت عطشا... تبخرت سوائل جسمي في العراك مع ابن عمك... ألا ترحمين بحالي؟؟"
            وللألم المرير الذي أحسسته, عزمت على أن أقدم له الماء... ولكنني ما كدت أبتعد بضع خطوات حتى سمعت صوت جرس المنزل يقرع...
            كان قرعا متواصلا مربكا... شعرت بالخوف, وعدت أدراجي إلى الباب أخاطب سامر:

            تعليق


            • "جرس الباب يقرع"
              قال:
              "أسمعه"
              قلت:
              "من يكون؟؟ ولماذا يقرع بهذا الشكل؟؟"
              فقال سامر:
              "تجاهليه... إياك وأن تجيبيه"
              وزادت الجملة فزعي... فقلت:
              "من هذا؟؟ لا أشعر بالطمأنينة... أنا خائفة"
              فقال:
              "اسمعي يا رغد... اتصلي بوليد وأخبريه عن هذا وقولي له أن يتوخى الحذر"
              فقلت وقلقي يتفاقم:
              "هل تعرف من يكون؟؟"
              فأجاب:
              "لا ولكن الحذر واجب"
              توقف القرع وأنا أتصل بوليد...
              أخبرته فحذرني من الإجابة على أي طارق وأمرني بأن أبقى ساكنة لحين عودته.
              سألني عن سامر فأخبرته بأنه يشعر بالعطش ويطلب الماء فنهاني عن تصديقه وأكد علي بألا أقترب من الباب نهائيا, وأخبرني بأنه سيعود بعد قليل...
              وهذا القليل استمر قرابة الساعة... ولم تكن كأي ساعة...
              جلست قرب عتبات متصلة بالممر المؤدي إلى غرفة المجلس... في منتصف المسافة ما بين باب المدخل الرئيسي للمنزل وباب المجلس... وألصقت أذنا على كلا البابين...
              الأذن اليمنى كانت تسمع سامر وهو يسأل بمرارة:
              "أين الماء يا رغد؟؟"
              والأذن اليسرى تترقب عودة وليد... وأخيرا التقطت هذه الأذن صوت باب المدخل يفتح...
              هببت واقفة ويممت أنظاري شطر المدخل... متلهفة لرؤية وليد يدخل... فيسكن قلبي...
              إن مجرد الإحساس بوجوده فيما حولي... يشعرني بالطمأنينة والأمان... "لم تقفين هنا؟؟"
              سألني بقلق وهو ربما يلحظ التعبيرات المتلهفة على وجهي, قلت:
              "تأخرت"
              فقال:
              "توخيت المزيد من الحذر..."
              فقلت بشيء من الاندفاع:
              "سامر عطشان... عجل إليه بالماء أرجوك"
              ورأيت عضلات فكه تنقبض ثم عقب:
              "لعن الله الظالمين"
              وسار مباشرة إلى المطبخ, وحمل قارورة ماء وكأسا فارغا واتجه بهما إلى غرفة المجلس...
              "سامر... جلبت لك الماء"
              قال وليد بعد أن طرق الباب واستخرج المفتاح من جيبه... ثم أضاف:
              "أرجوك... لنتصرف كراشدين"
              وبعد تردد قصير, فتح الباب ودخل...

              **********

              رأيت شقيقي جالسا على أحد المقاعد... مبعثر الشعر والملابس, وعليه إمارات الإعياء... وتصبغ ألوان الطيف وجهه المجروح... اقتربت منه وأنا أحمل القارورة الماء وكأسا... ملأته بالماء ثم قربته إليه وقلت:
              "تفضل"
              رمقني أخي بنظرة حادة... وبدا كأنه متردد... ثم حرك يده باتجاه الكأس.
              تناول الكأس مني, وألقى علي نظرة, ثم... إذا به يسكب محتواه فجأة نحو وجهي...
              وقف بسرعة وألقى بالكأس وهرول نحو الباب. وضعت القارورة جانبا وركضت خلفه مسرعا وأمسكت به وجررته إلى الداخل, ثم دفعت به بقوة نحو المقعد وجريت نحو الباب وخرجت وأقفلته على الفور.
              سمعت صوت أخي يصرخ:
              "افتح يا وليد... أنا لست حيوانا لتحبسني هكذا"
              فرددت بانفعال:
              "ستبقى حبيسا هنا يا سامر إلى حين موعد السفر. لن أسمح لأي مخلوق بأن يصل إليك. أتسمعني؟؟ سأخرجك من البلد بعد الغد"
              فصرخ سامر:
              "ومن قال لك أنني أريد أن أخرج؟؟"
              فقلت بعصبية:
              "ستخرج يا سامر. ستفعل ما أطلبه منك حرفيا.. أفهمت؟؟ أنا دبرت كل شيء... لا فكرة لديك عما فعلته وما بذلته لأجل ترحيلك... مهما صرخت ومهما قاومت ومهما تعاركت.. ستفعل ما أريده أنا... شئت أم أبيت ستنفذ خطتي"
              هاج سامر من جديد, وأخذ يضرب الباب حتى خشيت أن ينجح في اقتلاعه... التفت إلى رغد فرأيتها تنظر إلي نظرات ذعر واتهام...
              لا أنقصك الآن يا رغد... أرجوك...
              ابتعدت عن الممر وقلبي يعتصر لحالة شقيقي... ذهبت إلى مكتبي لأخذ بعض الأشياء ثم صعدت إلى الطابق العلوي لأعد حقيبة سفري...
              كانت الأشياء مبعثرة في غرفة نومي... فقد قلبها أخي رأسا على عقب وهو يفتش عن السلاح...
              استخرجت حقيبة سفر صغيرة وبدأت أجمع فيها أهم الحاجيات... وفي ذات الوقت أحاول إعادة النظام إلى الغرفة ولو قليلا...
              فجأة... رأيت شيئا لم أكن أتمنى أن أراه آنذاك... شيئا أسطواني الشكل... مرميا مع مجموعة من الأشياء المبعثرة على الأرض...
              صندوق أماني رغد!
              وصدقوني... لم أنتبه ليدي وهي تضعه في الحقيبة خطأ... كنت شاردا... ولم أكتشف ذلك إلا لاحقا...
              بعد أن انتهيت من إعداد تلك الحقيبة, أقفلت باب غرفتي ثم ذهبت لتفقد غرفة سامر... وأخذت منها هاتفه وحقيبته اليدوية والتي كانت تحتوي وثائق مهمة, وأشياء أخرى... ثم أقفلتها وبقية الغرف, وحملت الحقيبتين إلى الطابق السفلي, ثم ذهبت إلى رغد واستلمت منها حقيبتها, ونقلت الحقائب الثلاث إلى السيارة المركونة في المرآب... عندما عدت للداخل وجدت رغد تقف في انتظاري, وطبعا ألف علامة استفهام تدور حولها... لكنها لم تسألني عن شيء... ربما من هول الموقف... ألقت علي نظرة... وعادت أدراجها إلى غرفتها.
              يدرك كلانا أن المأزق خطير وأنه ليس بالوقت المناسب للكلام...
              اقتربت من باب غرفة المجلس, تحسسته... وداهمني ألم فظيع في معدتي... فانسحبت إلى غرفة المعيشة وابتلعت قرصين من دوائي لم يأتيا بمفعول يذكر وبقيت أتلوى على المقعد لوقت طويل...
              الساعة الرابعة فجرا يرن منبه هاتفي المحمول, يوقظني لتأدية الصلاة...
              أنهيت صلاتي وتلاوتي لآيات الذكر الحكيم ودعائي للرب الرحيم... ثم ذهبت إلى المطبخ ولا شيء يشغل تفكيري غير أخي...
              وضعت بعض الطعام والماء على صينية, وتوجهت بها إلى غرفة المجلس...
              كان نائما بكل هدوء على الأرض, وقد توسد إحدى الوسائد التابعة للمقعد... وتلحف بأخرى... رق قلبي له... أردت أن أربت عليه بحنان... لكني ربت بقوة أشد قليلا لأوقظه للصلاة...
              استيقظ سامر وأخذ ينظر إلى ما حوله بهلع... يبدو أن تربيتي كان أقوى مما تصورت... قلت مطمئنا إياه:
              "بسم الله... لا تفزع... إنه وقت الصلاة"
              نظر إلي أخي ولم يكلمني... ثم نهض وجعل يمدد أطرافه بإعياء... وتوجه إلى دورة المياه التابعة للغرفة. أسرعت وجلبت سجادتي وفرشتها على الأرض... خرج أخي بعد قليل وقال:
              "أريد أن أستحم"
              ترددت قليلا... ثم خرجت وأقفلت الباب وعدت مجددا أحمل إليه ملابس نظيفة... وبقيت في الغرفة إلى أن أنهى حمامه وأدى صلاته... وعيني ترقبه من كل الزوايا...
              قلت:
              "تقبل الله"
              فأجاب دون أن ينظر إلي:
              "منا ومنكم"
              ثم رأيته يضطجع على المقعد... قلت:
              "جلبت لك بعض الطعام... أرجوك تناول شيئا"
              ولم يلتفت أخي إلي...
              قلت:
              "سننطلق قبل طلوع فجر الغد... أخبرني إن كنت تحتاج شيئا لنأخذه معنا"
              ولم يرد...
              اقتربت منه وتحدثت إليه بكل عطف... بقلب يحمل كل الحب والقلق... إذ قلت:
              "أخي... يا نور عيني... أنا لن أسألك لماذا فعلت هذا... ولا يهمني أن أعرف أي تفاصيل... إنني أريد فقط أن تنجو بحياتك وتبتعد عن الخطر بأسرع ما يمكن"
              وتابعت:
              "إنني عشت تجربة السجن... وقد كان معي في زنزانتي مجرمو سياسة وأمن بلد... ورأيت كيف عاملتهم السلطات وكيف عذبتهم أشد التعذيب وقتلتهم أمام ناظري"
              قال أخي أخيرا:
              "نحن لسنا مجرمين"
              تفحصت رده ثم قلت:
              "السلطات تعتبركم مجرمين. تصف كل من يعارضها علنا ويثير الشغب والفوضى بأي شكل من الأشكال تحت اسم مجرمي أمن"
              التفت إلي أخي وكأنه يبدي إلي شيئا من الاهتمام لكلامي أخيرا... فتابعت:
              "كانوا يعذبوننا أشد التعذيب... حتى أنا ورغم أنني لا أنتمي لتلك المجموعة, نلت نصيبي من الضرب المبرح المتوحش... لحبسي في الزنزانة الخطأ"
              وأضفت وأنا أكشف عن صدري وظهري:
              "انظر... كل هذا... وأكثر..."
              مشيرا إلى الندب التي خلفتها يد التعذيب على جسدي... ثم أشرت إلى أنفي وتابعت:
              "حتى أنفي كسروه كما ترى..."
              وتابعت:
              "وصديقي... والد أروى... عذبوه شر تعذيب حتى قضى نحبه وهو على ذراعي..."
              وتخيلت صورة نديم... في آخر لقطة له قبل أن يسلم الروح... وانتفض جسدي وامتقع وجهي وعصرت عيني لأمحو الصورة الفظيعة...
              قلت:
              "بعد كل هذا... كيف تظن بأنني سأسمح لهم بأن يقبضوا عليك؟؟ أبدا... أبدا"
              هنا جلس أخي ورد منفعلا:
              "أنا لا يهمني الموت ولا التعذيب..."
              ارتعدت من رده... وسألت:
              "ما الذي يهمك إذن؟؟"
              فقال:
              "لا شيء... لاشيء يهمني في هذه الدنيا التعيسة... لا شيء"
              وصمت قليلا ثم أضاف:
              "لا شيء... بعد كل من فقدت... انتهى كل معنى للحياة في نظري... فأهلا بالموت..."
              وجذب نفسا ثم تابع:
              "لكنني لن أموت قبل أن أنتقم منهم"
              تضاعف هلعي وسألت:
              "ممن؟؟"

              تعليق


              • فأجاب بعصبية:
                "من الأوغاد الخونة الغدارين... الذين قتلوا والديّ..."
                فحملقت به مندهشا, فإذا به يقول:
                "هل تظن أنهما قتلا برصاص العدو؟؟"
                تفاقم تحديقي به, وأضاف:
                "بل هي السلطات الخائنة... التي لم تبذل جهدا لتحمي مواطنيها... وسمحت للمعركة أن تنشب عند الحدود وبالتحديد عند الشارع الذي كانت تعبره حوافل المدنيين الأبرياء العُزّل..."
                ووقف أخي من شدة انفعاله وهتف وهو يضغط على قبضته:
                "جعلوا من الحجيج الآمنين مسرحا لجرائمهم النكراء... لن أسامحهم أبدا وسأجعلهم يدفعون الثمن"
                ثم رأيته يحني رأسه ويخفي عينيه خلف يده... ويصمت برهة... ثم يبكي...
                "سامر"
                ناديته بنبرة ضعيفة حانية... فأزاح يده عن عينيه وقال يخاطبني وسط الدموع:
                "أنت لم تر كيف كان جسداهما... لم تر شيئا... الجبين الذي كنت أعكف عليه تقبيلا وإجلال... مثقوب برصاصة اخترقت رأس أبي... والصدر الذي لطالما احتضننا... وفيه تربينا ومنه تغذينا... صدر أمي... منبع العواطف والمحبة والأمان... ممزق إلى أشلاء... حتى قلبها كان يتدلى خارجا منه... آآآآآآآآآه.... كيف لي أن أنسى هذا آآآآآآآآه"
                وجثا أخي على الأرض وهوى بجبينه عليها وراح يبكي بصوت عال منفلت متألم... ويضرب الأرض بقبضته منهارا...
                لم أقو على تحمل ما سمعت... أطلقت آهة ألم من صدري وسالت دموعي أنا الآخر...
                كان سامر يضرب الأرض وهو يهتف:
                "يا أبي... يا أمي"
                ومع هتافه يتشقق قلبي وينطحن...
                كنت ألاحظ منذ وفاتهما رحمهما الله, أن سامر كان أطولنا حزنا... وأكثرنا تذكرا لهما وتألما على الذكرى... لقد كانا أقرب إليه مني وكان أقرب إليهما مني... بحكم الفترة الزمنية الطويلة التي قضيتها في السجن بعيدا عنهما ومحروما منهما...
                مددت يدي إلى كتفي أخي وشددت عليهما... إلى أن توقف عن البكاء والتفت إلي... ثم بدأ الشرر يتطاير من عينيه وقال:
                "أو تظن أنني سأهرب... دون أن أنتقم؟؟"
                قلت:
                "تنتقم ممن؟؟"
                قال:
                "من أي شيء يتعلق بالسلطات... إنهم هم المسؤولون عن مقتل والديّ... وبهذه الطريقة البشعة"
                وهب واقفا فشددت عليه أكثر فقال:
                "دعني أطفئ النار المتأججة في صدري"
                فقلت:
                "وهل سيعيدهما للحياة... أن ترتكب أي عمل جنوني؟؟"
                فقال:
                "لكنّ غليلي سيشفى قليلا"
                فقلت:
                "وتدفع حياتك أو حريتك ثمنا؟؟ سامر إنهم لن يعتقوك"
                فقال:
                "لا أهاب الموت.. لا يهمني... وليس في حياتي ما يستحق العيش من أجله"
                شعرت بالمرارة من جملته... فقلت مستدرا عطفه:
                "كيف تقول هذا؟؟ سامر أنت لا تزال شابا صغيرا... لديك شبابك وصحتك... وعملك ومستقبلك... وعائلتك... كيف تضحي بكل هذا؟؟"
                فأجاب وهو يرمقني بنظرة حادة...
                "أي عائلة؟؟ الوالدان... قتلا... الشقيقة... رحلت بعيدا... الخطيبة... هجرتني... والشقيق..."
                وأمال زاوية فمه بسخرية وأضاف:
                "منافق.. متبلد.. لا يشعر.. لا يفهم... ولا يكترث..."
                وأضاف:
                "من بعد؟"
                جرحني ما قاله عني... أبعدت يدي عنه ونظرت إلى الأرض برهة... ثم أعدت بصري إليه وقلت:
                "بل أنا أحس يا سامر... أنت أخي... دماؤك هي دمائي... أكترث لك كثيرا... وإلا لما حبستك هنا وفعلت المستحيل من أجل سفرك"
                قال سامر:
                "ثم ماذا؟؟"
                فقلت:
                "ثم ماذا؟؟؟"
                وأجبت على السؤال:
                "ثم تبدأ حياتك من جديد في الخارج... المهم أن تخرج من الخطر الآن... وبعدها سأفعل من أجلك أي شيء"
                فنظر إلي نظرة تشكك... ثم إذا به يسأل:
                "هل ستعيد إلي والديّ؟؟"
                وانتظر ردة فعلي التي لم تكن أكثر من النظرات الحائرة... ثم تابع:
                "أم... هل ستعيد إلي خطيبتي؟؟"
                هنا تصلب جسمي... وتجمدت نظراتي وفقدت القدرة على تحريكها...
                ظل أخي يحملق بي وكأنه ينتظر الجواب... وطال الانتظار...
                ابتسم أخي ابتسامة ساخرة واهية بالكاد لامست طرف شفتيه... ثم أولاني ظهره وجلس على المقعد معلنا نهاية الحوار...
                انسحبت من الغرفة وأقفلت الباب... واستندت عليه وأغمضت عيني بمرارة...
                فهمت.. أن موضوع عارف المنذر... هو الشرارة التي فجرت برميل الوقود...
                هي رغد...
                هل هذا هو الثمن الذي تطلبه لقاء حياتك يا سامر...؟؟
                أتريد أن تخطف قلبي مني من جديد؟؟
                أتريد أن أتنازل لك عن... أول وأكبر وأهم وأعظم حلم في حياتي؟؟
                المخلوقة التي هي جزء لا يتجزأ مني... التي هي أنا... بروحي بقلبي بتفكيري بمشاعري بكياني بماضيّ بحاضري بكل معاني الأنا فيّ...
                إنها ذاتي... كيف أكون... بدون ذات؟؟!!
                آه... يا رب...
                عندما فتحت عيني... خيل إلي أنني رأيت شبح رغد يقف في نهاية الممر... هل الإضاءة ليست كافية... أم أن غشاوة علت عينيّ من هول ما أنا فيه؟؟ أم... أم أنها خرجت من شريط أحلامي وظهرت أمامي كالطيف العابر..؟؟
                أغمضت عيني مجددا... محاولا ابتلاع جرعة الشبح القوية هذه... التي ظهرت لي في أتعس لحظات حياتي... وعندما فتحت عيني من جديد... لم أر شيئا...
                الحادية عشرة صباحا... استيقظت على رنين هاتفي المحمول الموضوع على المنضدة إلى جانبي... في غرفة المعيشة...
                مددت يدي والتقطت الهاتف وأجبت مباشرة:
                "نعم؟"
                فسمعت صوت الطرف الآخر... والذي لم يكن سوى أبي حسام, والذي كنت على اتصال به أولا بأول أبلغه ويبلغني بكل جديد... وكنت قد أبلغته عن عودة أخي وحبسي له في المنزل...
                "مرحبا وليد... اسمعني جيدا..."
                وبدا من نبرة صوته أهمية وخطورة ما سيقوله, وسرعان ما أفصح:
                "الشرطة في طريقها لتفتيش منزلكم... تصرف بسرعة"
                نهضت فجأة... فتبعثرت قصاصات صورة رغد التي كانت نائمة على صدري منذ الفجر.. سألت وقد اجتاحني الفزع والقلق فجأة:
                "ماذا؟؟"
                فكرر أبو حسام:
                "الآن يا وليد... أنا أراهم أمامي في الطريق المؤدي إلى منزلكم. اخف الأمانة بسرعة داخل المنزل... في الحال... في الحال"
                قفزت بسرعة من مقعدي وركضت نحو غرفة المجلس... فتحت الباب وولجتها باندفاع وأنا أهتف:
                "سامر بسرعة... الشرطة قادمة"
                كان أخي نائما ولكنه سرعان ما انتبه على صوتي... أمسكت بذراعه وأنا أشده وأقول:
                "تعال... يجب أن تختبئ في مكان آخر"
                سامر سحب ذراعه من بين يدي وهو يقول:
                "حُلّ عني"
                فهتفت بعصبية:
                "أقول لك الشرطة قادمة... ألا تفهم؟؟"
                فأجاب ببرود:
                "لا يهمني ذلك. سأسلم نفسي وننتهي من هذه المهزلة"
                قلت صارخا:
                "يبدو أنك لا تريد أن تفهم"
                ثم أطبقت على ذراعه وجررته معي إلى خارج الغرفة أسير متخبطا لا أعرف أين أخبئه... ظهرت رغد في الصورة أمام باب المطبخ ورأت المنظر فهلعت وسألت:
                "ماذا هناك؟؟"
                فقلت وأنا أجر أخي رغما عنه نحو المطبخ:
                "الشرطة... يجب أن نخبئه... لن أسمح لهم بأخذه ولو اضطررت لقتلهم جميعا"
                سرت على غير هدى... مرسلا نظراتي لكل ما حولي... مفتشا عن مخبأ...
                خرجت من الباب الخلفي للمطبخ... وسحبت أخي رغم مقاومته إلى الحديقة الخلفية المهجورة...
                نظرت يمنة ويسرة... ولم أجد أمامي سوى قطع من الأثاث القديم الذي أخرجناه للفناء عندما أتينا للعيش في المنزل, أنا ورغد وأروى والخالة, رحمها الله...
                وهناك... على مقربة من أدوات الشواء القديمة... التي أحرقت أخي ذات مرة... كانت مجموعة من قطع السجاد الملفوفة والمكومة على بعضها... كنا قد سحبناها إلى هذا المكان في ذلك الوقت...
                لم تخطر إي فكرة في بالي... أصلا كان دماغي مشلولا عن التفكير... أريد فقط أن أخفي هذا الشقيق عن أعين الشرطة إلى أن أسفره للخارج...
                دفعته حتى وقع أرضا... وجلست عليه حتى لأعيقه عن الحركة ومددت يدي إلى إحدى قطع السجاد الملفوفة ودفعتها لتنفتح...
                سحبت أخي إلى طرف السجادة وجعلت ألفه بها كما تلف الحشوة بالورق... وهو يصرخ:
                "ما الذي تفعله يا مجنون؟؟"
                إلى أن أخفيته تماما في جوف اللفافة. سحبتها بعد ذلك بكل طاقات عضلات جسمي... وركنتها إلى جانب كومة اللفائف الأخرى... ثم أهلت عليها التراب لتبدو وكأنها مركونة هنا منذ سنين...
                "إياك أن تصدر أي صوت يا سامر... لا تضع جهودي هباء... وإذا حاولت شيئا فسأستخدم سلاحك وأقتلهم جميعا... هل تسمع؟؟ لن أسمح لهم بأن يصلوا إليك أبدا"
                وعمدت إلى الرمال أخفي أثار أقدامنا عنهم... ثم قربت وجهي من فتحة اللفافة وقلت:
                "تحمل قليلا... سأخرجك فور ذهابهم... أرجوك اصمد وأنا سأحقق كل ما تتمناه... دعنا نسافر وافعل بعدها ما تريد... أرجوك يا سامر... أنا أرجوك"
                وقمت مهرولا إلى الداخل...
                كانت رغد واقفة عند باب المطبخ الخارجي تراقبنا مفزوعة, وكان جرس المنزل يقرع قرعا متواصلا.
                سحبت الفتاة إلى الداخل وأقفلت باب المطبخ وقلت:
                "إياك وفعل أي شيء يكشفنا يا رغد... أرجوك... حياة أخي رهن تصرفنا"
                أسرعت إلى غرفة مكتبي... والتقطت سلاح أخي الذي كنت أخبئه هناك, وأخفيته في ملابسي...
                جذبت نفسا عميقا ثم توجهت إلى باب المنزل الرئيسي ثم إلى الفناء الخارجي ثم إلى البوابة الرئيسية وفتحتها...

                ************

                كنت في المطبخ أتناول فطوري بهدوء... إلى أن سمعت صوت باب يفتح ووقع خطوات تجري بارتباك على الأرض... قفز إلى ذهني الظن بأن

                تعليق


                • سامر قد خرج من الغرفة بطريقة ما ويحاول الفرار... وسمعت صوت وليد بعدها يهتف:
                  "سامر بسرعة... الشرطة قادمة"
                  انتفضت ذعرا ووقف متكئة كليا على عكازي كعجوز طاعنة في السن... ثم جررت رجلي جرا نحو الباب... ورأيت وليد يقبل باتجاهي وهو يجر سامر قسرا... فسألت بفزع:
                  "ماذا هناك؟؟"
                  فرد باضطراب شديد:
                  "الشرطة... يجب أن نخبئه... لن أسمح لهم بأخذه ولو اضطررت لقتلهم جميعا"
                  أخرج وليد سامر إلى الفناء الخلفي ودفنه في جوف قطعة سجاد ملفوفة... مغمورة بالرمال والغبار...
                  إنه سيختنق إن بقي هكذا لبضع دقائق... بدون أدنى شك...
                  كانت عيناي معلقتين على لفافة السجاد وفوهي مفغور من الخوف والفزع... ولم أشعر إلا ويد وليد تسحبني إلى داخل المطبخ... ثم إذا به يختفي... لبضع ثوان... ثم يعود ومعه رفقة...
                  رأيت وليد يقبل نحو فتحة باب المطبخ ويطرقه بيده ويتحدث إلي بينما عيناه تراقبان شخصا آخر:
                  "بعد إذنك يا ابنة عمي... لدينا زوار"
                  ثم يدخل إلى المطبخ ويتبعه شرطي يرتدي الزي العسكري... شعرت بالقشعريرة تهز بدني ورأيت نظرة خاطفة أرسلها وليد إلي مليئة بالتحذير...
                  عبر الشرطي في المطبخ وهو يدوس بحذائه على الأرضية... وسار نحو المخزن وتفقده... ثم اتجه نحو الباب الخارجي وأمسك بقبضته وأدارها...
                  كنت حينها أتصبب عرقا وأكتم أنفاسي... وأقف مختبئة خلف وليد...
                  سمعت الشرطي يسأل:
                  "أين المفتاح؟؟"
                  فأجاب وليد:
                  "مفقود منذ زمن"
                  فسأل الشرطي:
                  "ماذا يوجد خلف الباب؟"
                  فأجاب وليد:
                  "الفناء الخلفي للمنزل"
                  فسار الشرطي متراجعا نحو باب المطبخ الداخلي... وغادره...
                  استدار وليد إلي ولم ينبس ببنت شفة... وبقينا نركز سمعنا على حركة رجال الشرطة وهم يفتشون في أرجاء المنزل...
                  أقبل أحدهم بعد ذلك إلينا وسأل:
                  "الغرف في الطابق العلوي مقفلة... أين المفاتيح؟؟"
                  فرد وليد:
                  "أجل... إننا لا نستخدم معظمها لذلك نبقيها مقفلة"
                  فكرر الشرطي:
                  "أين المفاتيح؟؟"
                  فقال وليد:
                  "سأجلبها لكم"
                  ثم التفت إلي وقال:
                  "تعالي معي"
                  وسرنا جنبا إلى جنب إلى غرفة مكتب وليد... حيث استخرج المفاتيح وسلمها للشرطي فقال الأخير:
                  "رافقنا للأعلى"
                  فقال وليد:
                  "الفتاة مصابة كما ترى..."
                  مشيرا إلى عكازي. فسلم الشرطي المفاتيح لرفقائه وأمرهم بتفتيش جميع الغرف... وبقي هو واثنان من أتباعه معنا في المكتب...
                  قال الشرطي:
                  "إذن... هل تقيمان بمفردكما هنا؟؟"
                  فأجاب وليد:
                  "تقيم معنا خادمة بشكل متقطع. وزوجتي مسافرة للحداد على والدتها المتوفاة مؤخرا"
                  سأل الشرطي:
                  "لمن ملكية هذا المنزل؟؟"
                  فقال وليد:
                  "ملكية مشتركة بيني وبين أخوتي وابنة عمي"
                  فقال الشرطي:
                  "والسيد سامر آل شاكر... ألا يقيم هنا؟؟"
                  فأجاب وليد:
                  "كلا.. إنه يقطن الشمال منذ سنين"
                  واستمر الشرطي بطرح عدة أسئلة, أجاب عنها وليد بتماسك مصطنع... إلى أن أقبل رجال الشرطة وقالوا:
                  "لا أحد في الطابق العلوي"
                  فقال الشرطي القائد:
                  "فتشوا الفناء"
                  وهنا أحسست بيد وليد تنتفض... ولو لم يكن الشرطي ينظر نحو أتباعه لحظتها للاحظ ما لاحظت... واكتشف سرنا...
                  أخذت أبتهل إلى الله في أعماقي أن يعمي أبصارهم عن مكان سامر... دعوته بكل جوارحي وأنا متأكدة من أن وليد يلهج بالدعاء مثلي...
                  يا رب إننا لا نملك إلا قلوبنا لتتضرع إليك... لا تخيّب رجائنا المتعلق بوجهك الكريم...
                  غادر الشرطي القائد المكتب لاحقا بأتباعه... التفتُ إلى وليد والذعر يملأ وجهي فنظر إلي نظرة حمراء مرعبة... وقد تحول بياض عينيه إلى بحر من الدماء المغلية... ثم رأيت يده تتحرك نحو أحد جيوبه... ويخرج منه... مسدسا!!!
                  شهقت فزعا فوضع وليد يده الأخرى على فمي يكتم شهقتي... وقال:
                  "سأقتلهم إن لمسوه يا رغد"
                  حاولت أن أتنفس ولم أستطع... احتقنت الدماء في وجهي واحتبس الهواء في صدري... كدت أقع مغشية من الذهول والفزع... سمعنا وقع أقدام تقترب... فخبأ وليد المسدس خلف ظهره واقترب من باب المكتب... ووقف على أهبة الاستعداد لأن يصوب المسدس نحو رجال الشرطة...
                  أقبل الشرطي القائد وخلفه بعض من أتباعه, ووقف إزاء وليد ثم قال:
                  "إذا جاء إلى هنا أو عرفتم له طريقا فمن الخير له ولكم أن تبلغونا. إنه مجرد مشتبه به وليس متهم. سنطلق سراحه بعد استجواب دقيق وينتهي كل شيء"
                  ثم أشار إلى جنوده بالانصراف, وغادروا الجميع المنزل...

                  ********

                  التفت إلى رغد غير مصدق بأن الشرطة قد غادرت بالفعل... دون أخي... كنت أريد أن أسمع منها تأكيدا للأمر حتى أصدقه... غير أني رأيتها فجأة تنحني على المقعد وتتنفس بقوة وتئن...
                  أعدت المسدس إلى جيبي وأسرعت إليها وانحنيت إلى جانبها بقلق شديد وقلت:
                  "رغد أأنت بخير؟؟"
                  فقال وهي تلتهم الهواء التهاما:
                  "سأختنق... أكاد أختنق"
                  وكان جسدها يرتعش من الذعر ووجها يسبح في بحيرة من العرق...
                  شددت على يديها وأنا أقول:
                  "أرجوك تشجعي... بسم الله عليك... تماسكي صغيرتي"
                  وإذا بيديها تطبقان على ذراعي ووجها يندفن في ثنايا كم قميصي وهي تصيح منهارة:
                  "أنا لا أتحمل هذا... سأموت من الخوف..."
                  حاولت أن أهدئها قليلا ثم نهضت واقفا وابتعدت فصرخت:
                  "إلى أين تذهب؟؟"
                  فأجبت:
                  "إلى سامر"
                  وهرولت مسرعا تتبعني نداءاتها:
                  "لا تتركني وحدي...!"
                  من بين كومة السجاد... حركت اللفافة التي تغلف شقيقي... فتحتها بسرعة واستخرجت أخي من جوفها... أمسكت بكتفيه... ثم جعلت أنفض التراب عن وجهه وشعره وأنا أخاطبه:
                  "نجونا يا عزيزي... لقد رحلوا"
                  نظر إلي سامر نظرة حزينة موجعة... فقلت:
                  "سامحني يا عزيزي... لم أكن أريد أن أفعل بك هذا... سامحني"
                  ثم طوقته بذراعي وجذبته إلى صدري وعانقته عناقا حميما...
                  بعد ذلك أخذته إلى داخل المطبخ وقدمت إليه الماء فشرب كمية كبيرة... لا تقل عن الكمية التي أفرغتها في جوفي بسرعة...
                  قلت بعدها:
                  "لم يعد البيت آمنا لك... سآخذك إلى مكان آخر حتى يحين موعد الرحيل"
                  جلس أخي على أحد المقاعد الموزعة على الطاولة, ووضع رأسه على الطاولة باستسلام وتأوه...
                  قلت وأنا أتحرك نحو الباب الداخلي للمطبخ:
                  "سأرى كيف يمكنني إخراجك الآن وإلى أين آخذك"
                  وقبل أن أخرج من المطبخ سمعته ينادي:
                  "وليد"
                  التفت إليه فرأيته ينظر إلي وقد علت قسمات وجهه شتى التعبيرات...
                  "لماذا... تفعل هذا لي؟؟"
                  سألني وعيناه تكاد تنزفان دمعا من فرط ما هو فيه... فقلت:
                  "كيف تسأل يا سامر؟؟ إنك أخي الوحيد... أنا ليس لي في الدنيا شقيق وقريب غيرك..."
                  فقال سامر:
                  "لكنني..."
                  ولم تسعفه الكلمات... فقلت:
                  "أنا... لن أرى شقيقي الوحيد... ما تبقى لي من أبوي... ومن الدنيا... يتعرض للخطر وأقف متفرجا... مهما كان حجم ما اقترفته... أنا لن أسمح لمخلوق بإيذائك يا سامر... أرجوك... دعني أنفذ خطتي... ثق بي..."
                  وذهبت مسرعا إلى غرفة المعيشة, حيث كنت قد تركت هاتفي المحمول...
                  اتصلت بأبي حسام, فأخبرني بأنه كان لا يزال يحوم على مقربة من المنزل, وأن الشرطة قد غادرت ولا شيء يثير الشبهات حول المنزل... فطلبت منه المجيء وفور وصوله أدخلته إلى المنزل فسألني:
                  "أين سامر؟؟"
                  فأخذته إلى المطبخ, حيث كان سامر يجلس, وكذلك كانت رغد...
                  الدهشة علت وجهيّ سامر ورغد لدى رؤية أبي حسام... والأخير توجه مباشرة نحو سامر وشدّ على كتفه وهو يقول:
                  "الحمد لله... انك لا تزال بخير"
                  سامر نظر إلي بحيرة وقلق, فقلت:
                  "إنه يعرف كل شيء... وهو هنا لمساعدتنا"
                  وأبو حسام للعلم يعمل في إحدى الدوائر العسكرية, عملا مكتبيا.
                  التفتُ إليه وقلت:
                  "سآخذ سامر إلى مكان آخر... أرجوك أبق مع رغد حتى أعود... ولا تفتح الباب لأي طارق... سأعود بأقصى سرعة"
                  "ماذا؟؟"
                  كان هذا صوت رغد تهتف بفزع وهي تهب واقفة وأمارات الخوف جاثمة على وجهها, ثم تقول:
                  "لن تتركني وحدي هنا"
                  فقلت:
                  "أبو حسام سيكون معك"
                  فهتفت:
                  "لن تتركني وحدي في هذا المكان... لا يمكنني البقاء هنا أكاد أموت ذعرا... أرجوك وليد خذني معك"
                  قلت محاولا طمأنتها وتهدئتها قدر الإمكان:
                  "يا رغد... المشوار الذي سنقطعه أكثر خطورة... أنت هنا بأمان أكثر... قد يداهمنا رجال الشرطة أو قد يحصل أي شيء في طريقنا, كيف تريدين مني أن أصطحبك؟"
                  تحدث أبو حسام موجها الخطاب لرغد:

                  تعليق


                  • "لا وقت لنضيعه في الكلام, يجب أن نخرج سامر من هنا فورا"
                    ثم التفت إلي وقال:
                    "هيا يا وليد... عجّل..."
                    تبادلت النظرات مع أخي وأبي حسام ثم عدت إلى رغد... وحال منظرها الفظيع دون نطقي بأي تعليق. فقال أبو حسام مستعجلا:
                    "الآن يا وليد"
                    مسحت قطيرات العرق المتجمعة على وجهي وعنقي ثم قلت موجها خطابي إلى رغد:
                    "ابقي لحين عودتي... لن أتأخر"
                    أغمضت رغد عينيها ذعرا... لكنني لم أستطع غير المضي قدما...
                    التفتُ إلى شقيقي الجالس على المقعد وقلت:
                    "هيا بنا... توكلنا على الله"
                    لم يتحرك سامر بادئ ذي بدء... ظهر هادئا مستسلما يائسا... وكأن الأمر لا يعنيه أو أنه فاقد الأمل في النجاة...
                    نظر أبو حسام إلى سامر وقال محثا إياه على النهوض:
                    "هيا يا بني"
                    وهو يشد على كتفيه. وقف سامر وعيناه تدوران فيما بيننا وأعيننا معلقة عليه... ثم نطق أخيرا:
                    "إلى أين؟؟"
                    يسأل عن المخبأ الذي خططت لنقله إليه, فأجبت:
                    "مصنع والدي"
                    حملق الجميع بي لبرهة... تعلوهم الدهشة.
                    مصنع والدي, دمر أثناء غزو العدو على المدينة قبل سنوات... وهو الآن مهجور وخرب ولا تتنازل حتى وحوش البرية للإقامة فيه. يقع المصنع عند أطراف المدينة في مكان ناء... يستغرق الوصول إليها زمنا... خصوصا وأن الشوارع بقيت على حالها مدمرة ومتقطعة...
                    أخيرا التفت أبو حسام إلى سامر وقال:
                    "توكلا على الله"
                    وسار أخي وهو يقترب مني... حيث كنت الأقرب إلى الباب. وعندما صار أمامي... مددت يدي إلى ذراعه وقلت:
                    "سامر... ثق بي... اعتمد علي... أعدك بأن تغادر البلد سالما بإذن الله... لقد رتبت لكل شيء... النقود تسهل كل صعب..."
                    نظر إلي أخي والهم يعشش على عينيه... نظرة هزتني من الأعماق... فشددت على ذرعه بقوة وقلت:
                    "أرجوك... تشجع... وعدني بأنك لن تضيع جهودي عبثا... عدني بأن تلتزم بما أقوله لك... ولا تحاول شيئا آخر... أرجوك عدني"
                    أحس أخي الرجاء الشديد في نبرة صوتي, وأخيرا نطق:
                    "أعدك... وليد"
                    فابتسمت مشجعا... وشددت على ذراعه أكثر... ثم استخرجت من أحد جيوبي السلاح الذي كنت أخفيه...
                    قدمته نحو أخي, وهو ينظر إلي مندهشا... فقلت:
                    "استخدمه إذا اضطررت..."
                    أخذ سامر مسدسه من يدي... وهو يحملق بي غير مصدق... ثم خبأه في أحد جيوبه, ثم عانقني عناقا أخويا حميما...
                    حملنا معنا هاتفي وهاتف سامر, والذي كنت قد احتفظت به عندي, وقبل المغادرة التفت إلى رغد... والعم أبي حسام, وقلت:
                    "أمانتك لحين عودتي..."
                    وأشحت بوجهي قبل أن يحدث منظر رغد في قلبي ثقبا جديدا...
                    أخيرا دخلنا أحد المباني... المبنى الذي كان يحوي مقصفا للعمال وغرفة استراحة... كان المبنى الأقل تضررا والذي لا يزال سقفه يقف على جدرانه.
                    المكان كان موحشا جدا... لا يثير في النفس إلا الذعر...
                    لم تكن هناك أي إنارة عدا بصيص بسيط يتسلل عبر نافذة صغيرة قرب السقف...
                    "سيكون هذا جيدا"
                    قلت ذلك وأنا أنفض الغبار والأتربة عن أريكة مجاورة وأدعو أخي للجلوس, فرد:
                    "ما هو الجيد؟؟"
                    وقد غمره الاستياء والنفور الشديدين من المكان... بقي أخي واقفا ينظر إلى ما حوله بازدراء... جلت ببصري في الغرفة ولم أستطع إقناع نفسي بغير شعور أخي... الازدراء...
                    قلت مشجعا:
                    "لبضع ساعات... تُحتمل"
                    وأشرت إليه أن يجلس, لكنه لم يفعل...
                    أخي منذ صغره, اعتاد العيش في النعيم. منزلنا الكبير في الجنوب... ومنزلنا الراقي في الشمال... وشقته الفاخرة... أذكر أنه عندما زارني في المزرعة ورأى الغرفة المتواضعة التي كنت أقيم فيها والمنزل البسيط, شعر بالنفور والازدراء...
                    قلت:
                    "هذا لا شيء... مقارنة بالزنزانة"
                    وأنا أتذكر الزنزانة الفظيعة التي أضعت بين جدرانها القذرة ثمان سنوات من عمري...
                    نظر سامر إلي باستسلام, ثم جلس على الأريكة كارها. لو لم يكن لدي ما أنجزه للضرورة القصوى, لكنت بقيت برفقته... كيف لي أن أترك أخي في مكان مهجور ومرعب وقذر كهذا؟؟
                    قلت وأنا أستعد للمغادرة:
                    "سأنهي ما لدي وأعود إليك..."
                    وأضفت:
                    "كن حذرا... ابق عينيك وأذنيك يقظتين و هاتفني إن حصل شيء على الفور"
                    أرسل أخي إلي نظرة قرأت فيها توسلا... بألا أغيب عنه... فرددت على رسالته بنظرة تقول: (انتظرني...)
                    وهكذا, غادرت مصنع أبي المهجور... تاركا في قلبه شقيقي الوحيد... وحيدا...
                    اتصلت بعد ذلك بالمنزل أطمئن على رغد وأبي حسام وأطمئنها علينا... وتوجهت بعدها لاستلام الوثائق الضرورية التي تلزمنا للسفر... وأنجزت مهاما أخرى...
                    لن تصدقوا ما اضطررت لفعله من أجل إنقاذ أخي... لم أكن لأتصور نفسي سألجأ إلى هذا... يوما من الأيام...
                    عدت بعد ذلك إلى المنزل... بمجرد دخولي للداخل, وقع بصري على رغد...
                    كانت تجلس في الممر... على الأرضية الرخامية... مستندة إلى الجدار... ومادّة رجليها إلى الأمام... وعكازها مرمي إلى جانبها الأيسر وهاتفها إلى جانبها الأيمن... ووجها مغمور في سحابة داكنة من الهلع والاضطراب... حينما رأتني مدت يدها نحوي ونادتني بلهفة:
                    "و... ليد"
                    كان صوتها ضعيفا واهنا... سلبه الخوف والفزع المقدرة على التماسك... تقدمت نحوها وجلست إلى جانبها... أسندت رأسي إلى الجدار... ومددت رجلي إلى الأمام... مثل وضعها... وأغمضت عيني...
                    كنت أريد أن ألتقط بعض الأنفاس... أحسست بيدها تتشبث بذراعي... التفت إليها... وغاصت عيناي في بحر خوفها...
                    قلت:
                    "قبل بزوغ الفجر...تبدأ رحلتنا يا رغد"
                    رغد تحدت ببقايا صوتها قائلة:
                    "إلى... أين؟؟"
                    فأجبت:
                    "برا إلى البلدة المجاورة... ثم جوا إلى الخارج... إلى دانة"
                    وشعرت بيدها ترتجف... فقلت:
                    "فقط... لنعبر الحدود بسلام... ادعي يا رغد..."
                    أغمضت رغد عينيها وكأنها تلح بدعواتها القلبية... إلى الله... فأعدت رأسي إلى الجدار وأغمضت عينيّ ولهج قلبي بالدعاء...
                    بعد قليل تحدثت رغد قائلة:
                    "لا أكاد أصدق شيئا يا وليد... لا أستطيع أن أستوعب ما يجري... أهو كابوس..؟؟ أرجوك قل لي بأنه كابوس"
                    فتحت عينيّ... والتفت إليها... ثم قلت:
                    "أتمنى لو أنه كان كابوسا يا رغد... ليته كان كابوسا... آه"
                    سألت وهي غير مصدقة:
                    "لماذا...؟؟ سامر!! أنا لا أصدق... إنه لا يمكن أن يفعل شيئا... إنه هادئ ومسالم جدا... ماذا فعل؟؟ ولماذا؟؟"
                    حملقتُ في رغد... وتأوهت بمرارة... وكان صدري على وشك أن ينفث أدخنة كثيفة من الآهات المتألمة... لا بداية لها ولا نهاية, غير أن أبا حسام أقبل نحونا قادما من مجلس الضيوف... ثم سألني:
                    "كيف سارت الأمور؟؟"
                    فالتفت إليه وأجبته:
                    "كما ينبغي حتى الآن... المهم الحدود.."
                    سمعت رغد تقول بقلق:
                    "ماذا إن أمسكت بنا الشرطة؟؟ ماذا سيفعلون بنا؟؟"
                    عضضت على أسناني توترا... ونظرت إليها وأنا لا أجد جوابا... إلا أن أقول:
                    "لا سمح الله... سنكون في مأزق كبير جدا..."
                    وجوابي زاد من ارتجاف يدها حتى انتقلت خلجاتها إلى ذراعي وهزتني...
                    تقدم أبو حسام, وجلس على عتبات السلم المجاورة لنا... ثم قال:
                    "هل يجب أن... تأخذها معكما؟؟"
                    فجأة انفلتت أصابع رغد وانفتحت قبضتها عن ذراعي... وما كدت ألتفت إليها حتى انطلقت قائلة بانفعال:
                    "طبعا سأذهب معكما"
                    وكأنها تخشى أنني سأقول غير ذلك.
                    أبو حسام قال:
                    "تعرف يا وليد أن في الأمر مخاطرة... أخرجه أولا... ثم عد وخذها أو أفعل ما تشاء"
                    كنت لا أزال أحدق في رغد... والتي ما كاد أبو حسام ينهي جملته حتى هتفت وعينها تكادان تقفزان من محجريها من شدة تحديقها بي:
                    "سأذهب معكما"
                    فقلت مطمئنا وأنا أرى الهلع يجتاح وجه الفتاة:
                    "لا تقلقي. فأنا لا أفكر في تركك والسفر إلى خارج البلد"
                    وسمعت أبا حسام يقول:
                    "ولكن يا وليد... أليس من الآمن لها أن تبقى عند خالتها؟؟ فقط اضمن خروج سامر بالسلامة واطمئن على نجاته ثم تعال وفكر فيما ستفعله"
                    قلت:
                    "لا أستطيع السفر وترك صغيرتي هنا. لن يرتاح لي بال... لا ينقصني هم آخر..."
                    والتفت إلى رغد.. فإذا ببعض الارتياح يمحو آثار الهلع الأخيرة... لكنه كان ارتياحا قصيرا سرعان ما أربكه كما أربكني رنين هاتفي...
                    حبست أنفاسي ونظرت إلى شاشة الهاتف بهلع... متوقعا أن يكون هذا سامر... أو أحد الأشخاص الذين أتعامل معهم لتهريبه... أو حتى الشرطة... وعندما رأيت اسم (المزرعة) يظهر على الشاشة أطلقت نفسي المحبوس بقوة...
                    "نعم مرحبا"
                    "مرحبا يا وليد يا بني... كيف حالك؟"
                    لقد كان عمي إلياس. أجبت بعجل دون أن ألقي بالا عليه:
                    "بخير"
                    فسألني عن أحوال ابنة عمي وأحوال العمل وحتى أحوال الطقس, فرددت مقتضبا:
                    "بخير, أهناك شيء؟؟"
                    وأحس عمي من ردي ونبرتي أن لدي مشكلة. فسألني:
                    "ما الأمر يا بني؟؟"
                    فأجبت بضيق:
                    "آسف. أنا مشغول الآن"
                    فقال:
                    "حسنا. هلا اتصلت بي بعدها؟؟"
                    فجذبت نفسا ورددت:
                    "أنا مشغول جدا يا عم"
                    امتزج القلق بنبرة عمي وهو يسأل:
                    "أأنت على ما يرام؟؟"
                    فأجبت:
                    "أجل ولكن لدي مشاكل حرجة"
                    فقال:
                    "إذن... لن تأتي اليوم أيضا؟؟"
                    لقد كان يوم الخميس.. وكان يفترض بي السفر للمزرعة لحل مشكلتي مع أروى الأسبوع الماضي, وأجّلت السفر بسبب سفر أخي المفاجئ, واضطراري للبقاء مع رغد... والآن أرجئه إلى أجل غير مسمى بسبب الورطة الحرجة التي نمر بها...
                    قلت:
                    "لا يمكن..."
                    وأضفت:
                    "عمي... سأغيب لفترة غير محددة"
                    صمت عمي برهة,لا بد وانه تضايق من ردي... في حين أنه ما فتئ يتصل بي ويطلب حضوري من أجل أروى...
                    سمعته بعد البرهة يقول:
                    "ولكن أروى..."
                    ولم أسمع ما قاله بعدها... إذ أن هاتفي قد استقبل اتصال آخر... وفور إلقائي بنظرة سريعة على الشاشة أجبت المكالمة الثانية بلهفة:
                    "نعم سامر هل أنت بخير؟؟"
                    وقلبي ينزلق من صدري كما تنزلق قطرات العرق من جبيني...
                    رد سامر قائلا:
                    "نعم وليد... ألن تأتي؟ المكان موحش هنا جدا"
                    ازدردت ريقي ثم قلت:
                    "هل سمعت شيئا؟؟ هل حدث شيء؟؟"
                    فقال:
                    "رأيت أفعى من حولي... الشمس توشك على المغيب ولن أستطيع رؤية حتى يدي بعد قليل... اجلب لي مصباحا"
                    علقت:
                    "تقول أفعى؟؟"
                    فقال:
                    "نعم. ومن يدري؟ ربما يوجد عقارب أو ما شابه... والجو حار وخانق"
                    قلت:
                    "إذن الزم الطابق العلوي. ولو فوق السطح... أنا قادم إليك الآن"
                    فرد:
                    "نعم أرجوك"
                    قلت:
                    "توخ الحذر... يحفظك الله"
                    وأنهيت المكالمة وهببت واقفا فهبت رغد مستندة إلى عكازها ووقف أبو حسام تباعا... قلت:
                    "سأعود إليه"
                    فهتفت رغد:
                    "لا تتركني مجددا أرجوك"
                    فقلت مخاطبا إياها:
                    "سآخذ إليه بعض الطعام والماء ومصباحا يدويا... وأبقى لمؤانسته بعض الوقت فالمكان هناك شديد الوحشة"
                    قالت رغد:
                    "وأنا؟؟"
                    نقلت بصري بين رغد وأبي حسام وكدت أنطق بجملتي التالية إلا أن أبا حسام سبقني قائلا:
                    "دعني أذهب أنا هذه المرة... وابق أنت مع ابنة عمك"
                    وركزت نظري عليه يعلوني التردد... فقال:
                    "هات ما يحتاجه... سأبقى برفقته حتى تأتيان فجرا"
                    فقلت:
                    "و... لكن... يا عم..."
                    ولم أكن أعرف ما أريد قوله... وتولّى أبو حسام دفة الكلام وقال:
                    "قضاء ليلة كاملة وحيدا في مكان مهجور ومنقطع عن العالم فيما الشرطة تبحث عنك هو ليس بالأمر المتحمل... لا يجب أن نتركه بلا رفيق. سأبقى معه في انتظار مجيئكما صباحا"
                    وهكذا اتفقنا على أن يذهب أبو حسام حاملا الحاجيات إلى سامر ويبقى برفقته تلك الليلة...
                    كنت أعرف حتى الآن... أنها لن تكون مجرد ليلة عادية... بل ستكون... ليلة رعب وقلق وأرق متواصل... وأنني وإن كنت سأقضيها في منزلي جسديا, فسأقضيها مع سامر روحيا وقلبيا... وأنني لن أعرف للنوم طعما ولا للبال راحة وسأبقى أترقب ساعة بعد ساعة... أذان الفجر... الذي ستعقبه رحلة الفرار...
                    هكذا كنت أتوقع لتلك الليلة أن تكون... من أسوأ ليالي عمري... لكنني, ورغم كل توقعاتي وتوجساتي... وجدتها قد اجتاحت كل الحدود... وأتت أشد وأقسى من أن تخطر لي على بال... على الإطلاق...
                    ليلة الرعب الأعظم في حياتي تلك... الأفظع والأبشع والأشنع على الإطلاق... قضيتها... مع... وفقط مع... صغيرتي البريئة... شريكة المواقف الفظيعة... والحوادث المريعة...فتاتي الحبيبة رغد...

                    تعليق


                    • الجزء الخمسون

                      الفرار

                      طلبت من رغد أن تأوي على الفراش باكرا... لأننا سنرحل باكرا بُعيد صلاة الفجر مباشرة. كانت رغد مصرة على البقاء ساهرة على جانبي في غرفة المعيشة... مترقبة معي أي جديد... لكنني ألححت عليها بالذهاب على غرفتها ونيل حصتها من النوم... فما ينتظرنا في الصباح شاق وطويل...
                      كنت أشعر بالأسى لحال الصغيرة... فهي وجدت نفسها فجأة مضطرة للسفر ومعرضّة للخطر والإرباك... وهي مجرد فتاة صغيرة لا ذنب لها فيما يحصل ولا طاقة لها بتحمله...
                      للحظة استسغت فكرة أبي حسام في أن يصطحبها معه إلى الشمال... حيت تجد الاستقرار والأمان في بيت خالتها ومع أقاربها... لكنني خشيت أن يحصل معي ومع سامر أي شيء... يمنع عودتي إليها ويقطع اتصالي بها... كنت بين ألسنة النيران تحيط بي من كل جانب... ولم يكن لدي متسع من الوقت لإعادة التفكير وتغيير مجرى الخطة...المهم الآن أن أضمن سلامة سامر, وبعده... سأعيد النظر في كل شيء...
                      كنت جالسا على أحد المقاعد في غرفة المعيشة... أعيد إلى محفظتي القصاصات التي بعثرتها صباح اليوم... قصاصات صورة رغد... وأرتب النقود وخلافها في حقيبة اليد الصغيرة وأنا شارد التفكير... فيما أنا كذلك, قُرع جرس المنزل...
                      هببت واقفا فجأة... متوجسا خيفة...
                      قُرع الجرس مجددا... قرعا فوضويا... قرع قلبي معه... أسرعت إلى الهاتف الداخلي وسألت عن الطارق.
                      "المباحث. لدينا أمر بتفتيش المنزل. افتح الباب"
                      تلاحقت أنفاسي هلعا... الشرطة من جديد؟؟
                      لم أكن أريد أن أفتح الباب... لكن... كان لابد لي من ذلك... فتحت القفل الآلي للبوابة الخارجية وسرت نحو الباب الداخلي وما كدت أفتحه إلا وفوجئت بحشد كبير من العساكر يندفعون بقوة نحو الداخل... مصوبين فوهات أسلحتهم نحوي وفي كل اتجاه...
                      كانوا يرتدون زيا مختلفا عما رأيت مسبقا... مما حدا بي إلى الاستنتاج أنهم ليسوا عساكر مدنيين...
                      أخذني الفزع ولم أجسر على أي تصرف... وإذا بقائدهم يحدق بي ثم يشير إلى العساكر آمرا:
                      "ليس الهدف, انتشروا"
                      أخذ الجنود يتدفقون إلى الداخل... فهتفت وأنا أراهم ينفذون الأمر دون اعتبار لي:
                      "انتظروا... أنتم... كيف تقتحمون علينا المنزل... ما هذا؟؟"
                      والحشد يستمر بالتوغل غير آبه بكلامي.
                      التفتُ إلى القائد فإذا به يقول:
                      "لا تعترضنا. لدينا أوامر رسمية بتفتيش المنزل واعتقال المشبوهين"
                      فالتفت إلى العساكر ورأيت بعضهم يندفعون عبر الردهة إلى الممر الأيمن...فلحقت بهم بسرعة وركضت أسبقهم نحو غرفة رغد ووقفت عند بابها...
                      توزع العساكر فرقا في كل الاتجاهات... إلى اليمين في اتجاه المطبخ وغرفة المائدة... إلى الشمال في اتجاه المجلس وغرف الضيوف... إلى الدرج... إلى الطابق العلوي... انتشروا انتشار الجراد على الحقول... يدوسون بأحذيتهم العسكرية على أرضية وسجاد المنزل النظيف مخلفين آثارا قذرة كقذارة تصرفاتهم...
                      اقتربت فرقة منهم مني يريدون اقتحام الغرفة خلفي...
                      صرخت بهم:
                      "ما هذه الهمجية؟؟ ألا تراعون أن للبيوت حرمات؟؟"
                      رد أحدهم بوقاحة:
                      "لا تكثر الكلام. دعنا ننجز مهمتنا"
                      فقلت بغضب:
                      "هل تقبل بأن يقتحم أحد عليك بيتك بهذا الشكل؟؟"
                      حينها أقبل قائدهم ووقف أمامي واستخرج من جيبه ثلاث صور لثلاثة أشخاص... لمحت أخي من بينهم... وكانت الصورة قديمة له قبل إجراء عملية التجميل لعينه اليمنى..., ثم قال:
                      "نحن نبحث عن هؤلاء... أتعرفهم؟؟"
                      أجبت:
                      "لا يوجد في هذا المنزل من تريدون... لقد فتشتم أرجاءه كاملة هذا الصباح فماذا تريدون بعد؟؟"
                      وعوضا عن الشعور بالخجل من همجية عساكره, قال قائدهم:
                      "فتشوا الغرفة"
                      يقصد غرفة رغد التي أقف أنا عند بابها حائلا دون تقدمهم.
                      صرخت وأنا أنشر ذراعيّ سادا المعبر:
                      "إياكم والاقتراب... هذه غرفة فتاة ولا أسمح لكم بدخولها"
                      فقال القائد مصرا:
                      "فتشوها"
                      اقترب أحد العساكر مني فدفعته بيدي وأنا أهتف:
                      "قلت لكم لن تدخلوها... أليس لديكم أي اعتبار للحرمات؟؟ ابتعدوا"
                      فجأة... إذا بجميع العساكر من حولي يشهرون أسلحتهم في وجهي... وإذا بقائدهم يأمرهم:
                      "ابتعدوا"
                      ولم أر إلا سواعد غليظة قاسية تنقض علي محاولة جري بعيدا عن الباب...
                      حاولت أن أقاومهم... ضربت... ركلت... صرخت:
                      "رغد"
                      ثلاثة منهم أطبقوا على أطرافي وجروني إلى الأمام... وآخر تسلل من خلفي وأطبق على مقبض الباب وفتحه...
                      صرخت بكل حنجرتي:
                      "رغد... رغد"
                      وحررت إحدى يدي وأطبقت على الجندي الذي فتح الباب وسحبته من قميصه إلى الوراء بقوة... نظرت إلى الداخل فرأيت رغد تهب جالسة على سريرها وتنظر نحو الباب وتنطلق صرخاتها المفزوعة فورا...
                      هتفت:
                      "رغد"
                      ثم جررت بقية أطرافي بكل ما أوتيت من قوة من بين قبضات الثلاثة الآخرين وركضت مسرعا إليها...
                      كانت رغد تطلق الصرخة تلو الصرخة من فرط الفزع... قدمت إليها بسرعة وأحطتها بلحافها وطوقتها بذراعي وجذبتها إلي وأنا أهتف:
                      "أنا هنا يا رغد... هنا معك... أنا معك"
                      وهي مستمرة في نوبة الصراخ المفزوعة لا تكاد من شدّة فزعها أن تسمعني...
                      الغرفة كانت خافتة الأضواء... تستمد نورها من مصباح النوم المجاور للسرير...
                      اقتحمها جنود الأمن... بل جنود الرعب والفزع... وأخذوا يجوبون في أرجائها ويفتشون الدواليب... والستائر...
                      صرخت فيهم بأعلى صوتي:
                      "أيها الأوغاد... أيها الحقيرون... أيها الهمجيون الأراذل"
                      لكن صراخي لم يكن يهزّ في مشاعرهم المتبلدة أي شيء...
                      اقترب أحدهم منا... قاصدا تفتيش أسفل السرير فانفلتت أعصابي أشدّها... ونظرت من حولي فرأيت الهاتف الثابت موضوعا على المنضدة المجاورة... أطبقت عليه ثم رفعته ورميت به بقوة باتجاه الجندي فأصبته...
                      التفتت أعين بقية العساكر إليّ... ولم أر إلا حشدا غوغائيا متوحشا يهرع باتجاهي كي يهاجموني...
                      تركت رغد من بين يدي وهببت نحوهم أحول دون تقدمهم وأنتقم لانتهاك حرمة منزلي...
                      ضربت... ركلت... ولكمت... بثورة... بشراسة... بكل ما أوتيت من قوة... أو ما تبقى في جسدي من قوة بعد كل ما ألم به مؤخرا...
                      عددهم كان عشرة أو أكثر... كانوا مسلحين... أجسادهم ضخمة وقوية... تدربت على القتال العنيف... الفتاك...
                      أذاقوني فنونا لم أذقها أيام سجني... انقضوا علي انقضاض قطيع من الذئاب الجائعة على فريسة واحدة... قبل أن تنتهي الضربة تلقفني ضربة أخرى... وقبل أن أشعر بالألم في موضع, يصاب موضع آخر... وقبل أن أحرك أي جزء من جسمي, تجثوا علي أجسادهم الثقيلة فتشلني تماما...
                      أظنهم كسروا جمجمتي... ربما سحقوا دماغي... لأنني لا أستطيع أن أتذكر ما حصل... لم أعد أستطيع التذكر... لم أعد أستطيع الرؤية... لم أعد أستطيع التنفس... ولم أعد أستطيع سماع... صراخ رغد...

                      **********

                      أما أنا... فقد كنت أسمع صوت الضرب... وصوت وليد يصرخ متألما... وكنت أصرخ... وأصرخ... وأصرخ...
                      حسبت أنني مع صرختي الأخيرة... خرجت روحي مفارقة جسدي...
                      أبعدت اللحاف عن وجهي... هل لي بنظرة أخيرة على وليد؟؟ أين وليد؟؟ أين وليد؟؟ كان هناك... تحت كومة ضخمة من الأجساد البشرية... الوحشية... غارقا في الدماء...
                      لقد رأيته... يمد يده نحوي... يحاول أن يزحف باتجاهي... لم يكن ينظر إلي... كانت الدماء تغرق عينيه...لكنه يعرف أنني هنا... أنا هنا وليد... تعال إليّ... وليد أسرِع إلي... ابتعدوا عنه... أيها الأوغاد ابتعدوا عن وليد...
                      أمسكت بعكازي... ووقفت... لا أعرف كيف... وسرت خطوتين... فوليد لم يكن بأبعد من ذلك...
                      رفعت عكازي... وهويت به على رأس أحد الأشرار... هل أصبته؟؟ أم أخطأته؟؟ لا أدري... لكن العكاز لم يعد في يدي... لم أعد أستطيع أن أقف... كنت سأقع على حافة السرير, لكن شيئا ما قد ضربني وأوقعني أرضا...
                      صرخت...
                      "آآآآآآآآه..."
                      وسمعت صوت وليد يرد على صرختي:
                      "رغد"
                      صوته جاء أشبه بصدى مرتد عن بئر عميق...
                      اقترب الوحش الذي ضربته مني... ورفع قدمه ورفسني بقوة... رفسة ربما كسرت العظم الذي ما كاد ينجبر في يدي اليمنى... وأنا أطلق الصرخات... فزعا وألما...
                      "وليد... وليد...وليد"
                      تحركت يد وليد من تحت كومة الوحوش... ثم ظهر جسده وهو يستل من بين قيودهم بصعوبة... يقاوم هذا ويدفع هذا ويضرب ذاك... وهو يصرخ:
                      "ابتعدوا عنها أيها القذرون"
                      ويزحف على ركبتيه... حتى وصل إلى الوحش الذي ضربني وأطبق على ساقه وجذبها وأوقعه أرضا... وأسرع إليّ...
                      تشبثت به بقوة... وأنا أرتجف كالزلزال من الذعر... أبحث عن نقطة أمان بين يديه... كانت يداه تحاول أن تحتوياني... يقربني ويبعدني وهو يهتف باسمي مكررا:
                      "رغد... رغد..."
                      فجأة... رأيت عصا تحلق في الأعلى... ثم تحط بقوة على رأس وليد...
                      صرخت... وصرخ وليد... وأفلتٌ من بين يديه... ورأيت رأسه يهوي أرضا... ثم إذا به يبتعد عني... كانوا يسحبونه بعيدا...
                      صرخت... ومددت يدي نحوه وأمسكت بيده وأنا أناديه بفزع ما ضاهاه فزع... ورأيت يده تتحرك وتمسك بيدي... ثم تنفلت منها... وليد لم يكن ينظر نحوي... لم يكن يراني... لأنهم كانوا يقلبونه صدرا على ظهر... ويمينا على شمال... كانوا يمسكون برأسه... ويوشكون على كسر عنقه... كانوا يريدون أن يقطعوا نحره بحافة ذقنه... كانوا يحاولون خلع مفاصله وفصل أطرافه عن جسمه... رأيتهم... يدوسون على ذراعه الممدودة نحوي... ويركلون رأسه كما تركل كرة القدم...
                      وعصيهم كانت تنهال على ظهره وصدره بالضرب... وكأنهم يفتتون صخرة صلبة... تسد عليهم الطريق...
                      أولئك... لم يكونوا مخلوقات من هذا الكوكب... لم يكونوا يدركون... من هذا الذي يهمون بقتله... لا يعرفون أن هذا... هذا هو... وليد... وليد قلبي... كل حياتي...
                      أردت أن أنهض وأهب للذود عنه... لأفعل أي شيء... لأصد عنه ضرباتهم... بحثت عن عكازي... الذي طالما تحمل ثقلي طيلة الشهور الماضية وصار كجزء مني... أتعرفون أين وجدته؟؟؟

                      تعليق


                      • يطير في الهواء... ثم ينقض على ظهر وليد... يفصم فقراته...
                        صرخ وليد...
                        صرخت... وصرخت... وصرخت... وليد سمع صراخي فرفع رأسه يبحث عن الاتجاه... لم تعد أذناه تميزان اتجاه الأصوات... لقد زحف في الاتجاه الخاطئ... فزحفت نحوه أجر رجلي المجبرة جرا...
                        أخيرا أمسكت بيده... فشد علي... ورفع ذراعه وحاول أن يطوقني... المجرمون كانوا مستمرين في ضربه بالعصي... كانوا يرفسونه بأحذيتهم... ويدوسون عليه... لوحت بيدي وأنا أحاول إبعادهم عنه وأنا أهتف:
                        "كفى... أرجوكم كفى... كفى..."
                        لكن أحدهم... ركل بطن وليد بشراسة... وليد تأوه بشدة... وخرجت نافورة من الدم من فمه... ثم رفع رأسه وناداني... وأخيرا هوى بصدره نحو الأرض...
                        أحد الوحوش... أشهر مسدسه وصوب فوهته مباشرة إلى رأس وليد...
                        فزعت... ذهلت... انتفضت... صرخت بقوة:
                        "لا... لا... لاااااااااااا"
                        أطبقت على رأس وليد وضممته بين ذراعي...
                        نظرت إلى صاحب المسدس وصرخت:
                        "أرجوك لا... أرجوك لا... أرجوك لا"
                        وهو يهدد:
                        "ابتعدي"
                        فوضعت رأسي على رأس وليد... ولففته بذراعي أحول دون أن يفجروه...
                        "أرجوك لا... أرجوك لا... لا تقتله... لا...لا...لا..."
                        سمعت صوت أحدهم يقول:
                        "يكفي هنا. لم نؤمر بالقتل.انصراف"
                        أبعد صاحب المسدس مسدسه عن وليد... وسدد الرفسة الأخيرة إلى ظهره... فأطلق وليد أنة ضعيفة شبه ميتة... وفي ثوان... اختفى أنينه... واختفى صوت الجنود وصوت عصيهم... ولم أعد أسمع في المكان غير أنفاسي...
                        كنت آنذاك متصلبة على وضعي... وأنا أمسك برأس وليد وأدرعه بذراعي... وأضع رأسي عليه... وأغمض عيني بقوة... لأضمن عدم مشاهدة ما سيفعله الأوغاد به...
                        مر بعض الوقت... والهدوء مستمر من حولي... فيما الأعاصير القوية مستمرة في صدري... وفيما ذراعاي متيبستان حول رأس وليد... حتى فقدت القدرة على تحريكهما...
                        وبعد أن طال الهدوء... تشجعت وفتحت عيني بحذر... وجلت ببصري فيما حولي... ولم أر للوحوش أثرا... رفعت رأسي ومسحت بأنظاري كل أرجاء الغرفة... ولم أجد معي فيها غير وليد...
                        لقد انصرفوا...
                        كان وليد قربي مباشرة... مكبا على وجهه... وقد نزع قميصه ومزقت ملابسه... وتزاحمت الجروح والكدمات على جسمه... وكأنها تتنافس فيما بينها للنيل منه... وقد أغرقت الدماء ثيابه وما حوله...
                        كان رأسه لا يزال بين يدي... كاملا... متماسكا... لم يفجر... لكنه كان مبللا بمزيج من العرق والدم... وأشعر بالبلل يتخلل أصابعي مقطرا من شعره...
                        أدرته يمينا فيسارا... لأتأكد من أن ثقبا لا يخترقه أو أن رصاصة لا تنغرس فيه... فإذا بي أرى عينيه تسبحان في شلال من الدماء المتدفقة من جرح غائر في ناصيته...
                        وكان شلال آخر أشد غزارة يتدفق باندفاع من أنفه... وكأنه يفر هاربا من وحش الكهف الأسطوري... هذا... عدا النافورة العنيفة... التي تفجرت من فمه قبل قليل...
                        لم أكن أرى وجه وليد... حقيقة... لم أكن أرى غير طوفان من الدم الجارف يتدفق من كل مكان... ويصب في كل مكان...
                        صرخت:
                        "وليد... وليد..."
                        رأيته يحرك رأسه ويحاول فتح عينيه... غير أن الدماء كانت تغمرهما... سحبت لحافي المفروش على سريري بسرعة... وجعلت أمسح الدماء عن عينيه... وأنا أصرخ وأبكي بذعر:
                        "افتح عينيك... وليد أرجوك... انظر إلي"
                        فتح وليد عينيه ونظر إلي ونطق بأول حروف اسمي... ثم رفع ذراعه اليمنى وألقاها حول ظهري...
                        كان... لا يزال حيا...
                        بعد ذلك حاول أن يستند على يده الأخرى لينهض... لكنه ما إن رفع رأسه عن الأرض بضع بوصات حتى أطلق صرخة ألم وخر أرضا من جديد...
                        أظن... أن ذراعه اليسرى قد انفصلت عن جسده... فهو لم يستطع الارتكاز عليها... لا بد وأنهم خلعوا كتفه أو كسروا عظام يده... كان يتألم بشدة... بشدة... وليد قلبي يصرخ متألما... آآآآآآه... وليد... وليد...
                        اقتربت من رأسه وأحطته بذراعي مجددا وصرخت:
                        "أنت حي...؟؟ وليد... كلمني أرجوك..."
                        وشعرت به يتحرك... يحاول النهوض... ويعجز من فرط إعيائه... ثم حرك رأسه ونظر باتجاه الباب وتكلم...
                        "رغد... الباب"
                        وفهمت منه أنه كان يريد أن ينهض ليقفل الباب... فتشبثت به أكثر وقلت بفزع:
                        "لا تتركني"
                        حرك وليد يده اليمنى وأمسك بيدي وقال:
                        "الباب... اقفليه... رغد... بسرعة"
                        وشعرت به يشد على يدي بضعف... فأبعدت رأسي عن رأسه وسمحت لعينيه بالنظر إلى عينيّ... وما إن رآني حتى قال:
                        "الباب... بسرعة... لا أقوى على النهوض"
                        لم أكن أملك من الشجاعة ما يكفي لأن أبتعد عنه شبرا واحدا... وليس بي من قوة تعينني على الحراك حتى لو رغبت... وعوضا عن ذلك... شددت عليه أكثر وقلت:
                        "لا أقدر... خائفة"
                        فحرك وليد يده ومسح على رأسي وقال:
                        "أرجوك... أسرعي"
                        نظرت إليه فرأيته ينظر نحو الباب...
                        تلفتُ من حولي... بحثا عن عكازي... كان ملقى في الطرف الآخر من الغرفة أبعد علي من الباب... حررت رأس وليد وأومأت إليه بنعم, ثم... زحفت على يدي وأنا أجر رجلي المجبرة... شبرا شبرا... إلى أن وصلت إلى الباب فأغلقته ومددت يدي للأعلى وما إن أمسكت بالمفتاح حتى أقفلته وخررت على الأرض ألتقط أنفاسي...
                        كانت أنفاسي تخرج من صدري مصحوبة بأنين قوي... كنت أرتجف من الذعر وجسمي ينتفض بشدة... ويتعرق بغزارة... وكأنني قمت بمجهود كبير...
                        سمعت صوت وليد يناديني:
                        "رغد"
                        التفت إليه فوجدته وقد انقلب على ظهره ورفع رأسه وأسنده على قاعدة السرير...
                        ومد يمناه نحوي... ثم قال:
                        "تعالي"
                        لملمت فتات الطاقة المتبقية في أرجاء جسدي المشلول من الفزع... وزحفت عائدة إلى وليد... كان مشوارا طويلا... امتد بين المشرق والمغرب... استهلك مني كل عضلاتي وكل قوتي... وما زلت أزحف وأزحف... إلى أن صرت قربه... رميت برأسي في حضنه وغرست أظافري فيه...
                        لقد كنت أريد أن أفتح قفصه الصدري وأحتمي خلف ضلوعه... أظنني اخترقت ضلوعه فعلا... لا بد أنني داخل قلبي الآن... لأنني أسمعه ينبض بقوة... بسرعة... بثورة...
                        وكأنني أشعر بدمائه تبللني... وكأنني أشعر بأنفاسه تعصف بي... وكأنني أشعر بذراعيه تغلفانني...
                        دعوني أسترد أنفاسي... وأستجمع قواي... دعوني أسترخي وأغيب عن الوعي... دعوني أستعيد الأمان والسكون... داخل صدر وليد...
                        بعد فترة... أحسست بشيء يحاول إبعادي عن وليد... فتشبثت به بقوة أكبر... وصحت:
                        "لا"
                        وسمعت وليد يناديني... فقلت:
                        "أرجوك... دعني"
                        وبكيت بحرارة... وأنا أغوص بين ضلوعه... أعمق وأعمق...
                        وشيئا فشيئا... بدأت خفقات قلب وليد تتباطأ... وبدأت أنفاسه تهدأ... وبدأت ذراعه ترتخي من حولي... فتحت عيني... ورفعت رأسي قليلا ونظرت إليه... كان يغمض عينيه ويتنفس بانتظام... وصوت الهواء يصفر عند عبوره في أنفه المحتقن بالدماء... كانت الدماء المتخثرة ترسم على وجهه العريض خريطة متداخلة معقدة الملامح...
                        جلست ونطقت باسمه:
                        "وليد"
                        ولم يرد... لقد نام من شدة الإعياء... أو ربما فقد وعيه... لكنني عندما ربّتُ على وجنته انعقد حاجباه لثوان ثم استرخيا...
                        كان رأسه لا يزال مسندا إلى قاعدة السرير في وضع مؤلم... مددت يدي وسحبت إحدى وسائدي ووضعتها على الأرض... وحركت رأس وليد بحذر وأسندته إليها... ثم سحبت البطانية وغطيته بها...
                        وبقيت جالسة بجواره... أراقب أنفاسه وأي حركة تصدر عنه... وأنا أدقق السمع حتى خُيّل لي أنني سمعت صوتا ما من خارج الغرفة... فنظرت إلى الباب بفزع... ثم انحنيت قرب وليد وأمسكت بيده وشددتها إلي... طالبة الأمان...

                        ************

                        تنبهت على صوت شيء مزعج... صوت يتكرر بانتظام... مرة بعد أخرى... كان صوت منبه...
                        أغمضت عيني بقوة... فأنا أسعر بحاجة مُلحّة لمتابعة السيارة... أشعر بأنني أستيقظ من أعماق أعماق نومي... ولا أريد أن أنهض...
                        لكن الرنين المتكرر المزعج أجبرني على فتح عيني والانتباه لما حولي...
                        اكتشفت... أنني كنت أنام على الأرض... في غرفة رغد... فتذكرت هجوم العساكر وانتقل دماغي فجأة من أعماق النوم إلى قمة اليقظة...
                        حاولت أن أهبّ جالسا فشعرت بشيء ما يربط يدي ويعيقني هن النهوض وداهمتني آلام حادة في جسدي كله... أعادتني إلى وضع الاضطجاع مرغما... التفت ببصري إلى اليسار... فوجدت رغد نائمة وهي في وضع الجلوس... ملاصقة لي... وقد استندت إلى سريرها وضمت يدي اليسرى بين يديها...
                        كان المنبه يتوقف عن الرنين قليلا ثم يعاود... ولكن رغد لم تنتبه عليه... ومع هذا... فإنني ما إن سحبت يدي حتى استيقظت ورفعت رأسها مفزوعة...
                        التقت نظراتنا... أنا الممدد على الأرض...بِخوْرِ قِوى... وهي الجالسة بقربي بفزع...
                        "وليد"
                        كانت هي أول من تكلم... بلهفة وقلق وهي تنحني نحوي وتحملق بعينيّ...
                        استخدمت يديّ الاثنتين لأنهض عن وضعي المضطجع... بكل ضعف... كعجوز طاعن في السن... مدقوق العظام مترهل البنية... واهن العضلات... كانت الآلام تقرص كل أجزاء جسمي قرصا... وكان أنفي شبه مسدود... بقطع الدم المتخثر في جوفه... وكان عنقي يؤلمني بشدة... وأنا عاجز عن تحريكه في أي اتجاه...
                        أخيرا أحسست بيد رغد تمسك بي... فأرغمت عنقي على الالتفات إليها ومددت يدي أشد على يدها وقلت:
                        "هل أنت بخير؟؟ هل تأذيت صغيرتي؟؟"
                        ورأيت الدموع تتجمع في عينيها بمرارة... فانهرت أكثر مما أنا منهار وأطلقت صوتي كالنحيب قائلا:
                        "آسف... سامحيني..."
                        فأي خزي وأي عار...أشد من أن يعتدى على حرماتك بشكل أو بآخر... وأنت ترى وتعجز عن الدفاع؟؟
                        طأطأت بصري عنها خجلا... لكنها اندفعت إلي كالسهم المصوب... إلى القلب...
                        رن المنبه من جديد... وكان إلى الجانب الآخر من السرير... فقامت رغد وزحفت على سريرها إليه وأوقفته.
                        قلت:
                        "كم الساعة؟؟"
                        فأجابت:

                        تعليق


                        • "الثالثة وأربعون دقيقة"
                          فاضطربت دقات قلبي قلقا... وأنا أتخيل سامر...
                          وقفت وأنا أستند إلى السرير... ولكنني سرعان ما أحسست بالكون يظلم من حولي فجلست عليه وهويت منكبا برأسي فوقه...
                          رغد هتفت بفزع وهي تنحني نحوي:
                          "وليد..."
                          فأجبت:
                          "دوار... انتظري قليلا"
                          وقد كانت الغرفة تدور من حولي... وقلبي يخفق بقوة... والهواء لا يكفي لملء صدري... أما يداي فقد كانتا ترتعشان... وما كنت قادرا على التحكم بهما...
                          استمر هذا الشعور بضع دقائق... ثم زال تدريجيا... ولكنه عاودني بصورة أخف عندما رفعت رأسي من جديد...
                          أظن... أنني نزفت دما كثيرا... ولهذا أشعر بالدوار والاختناق...
                          سمعت رغد تقول:
                          "أرجوك ابق مضطجعا"
                          فالتفت إليها بإعياء وقلت:
                          "يجب أن ننهض... سامر ينتظرنا"
                          رغد قالت منفعلة:
                          "أنت جريح... لديك إصابات كثيرة... لا يمكنك التحرك"
                          فقلت:
                          "سامر..."
                          والتفت ناحية الهاتف الثابت ورأيته مرميا على الأرض... ثم التفت إلى رغد وقلت:
                          "هاتفك"
                          وكان هاتفها المحمول موضوعا إلى جانب المنبه. ناولتني إياه فاتصلت بشقيقي ملهوفا للاطمئنان عليه...
                          "نعم رغد"
                          رد أخي... فقلت بصوت هامس:
                          "هذا أنا وليد... هل أنت والعم بخير؟؟"
                          "نعم. ننتظركما"
                          واطمأن قلبي على أخي فأنهيت المكالمة بسرعة ووضعت الهاتف على السرير... ووقفت ببطء وحذر... محاولا الاعتماد على رجليّ... اللتين كانتا تستصرخان من الألم... وعندما خطوت خطوة واحدة... تفاقم الألم في ظهري وشعرت بأن فقراته تكاد تتفكك وتتبعثر...
                          أطلقت أنة ألم من أعماق حنجرتي... وتصلبت في مكاني لا أقوى إلا على جذب الأنفاس...
                          رغد وقفت على رجليها... السليمة والمجبرة... وأمسكت بيدي وطلبت مني أن أجلس.
                          "يجب أن نذهب يا رغد... لا وقت لدينا"
                          قلت, فردت معترضة:
                          "كيف وأنت بهذه الحال؟ لماذا لا تخبره بما حصل؟"
                          فهتفت بسرعة:
                          "كلا... لا"
                          قالت:
                          "ولكن..."
                          فقلت مؤكدا:
                          "إن علم سامر بما حصل فسوف يأتي... أنا متأكد أنهم يراقبون المنزل الآن..."
                          شهقت رغد خوفا... ثم سألت:
                          "إذن... كيف سنخرج؟؟"
                          فقلت:
                          "سأتفقد الأمر"
                          تلفتت رغد من حولها بحثا عن عكازها... وعندما رأته... ذهبت سائرة على جبيرتها وتناولته... ثم قدمت إلي وسارت ملاصقة لي... نسير ببطء وحذر... إلى أن فتحنا الباب وخرجنا من الغرفة...
                          كان البيت يخيم عليه السكون... استنتجنا أنه لا أحد في داخله على الأقل... توجهت إلى باب المدخل وأوصدته... وعدت إلى رغد وقلت:
                          "لا احد هنا. سيُرفع الأذان الآن... سنخرج بعد الصلاة مباشرة... سأصعد للأعلى وأنظر من الشرفة"
                          قالت رغد بسرعة:
                          "ماذا؟؟ كيف ستصعد الدرجات وليد؟؟ أنت مصاب... ولا أريد أن أبقى وحدي هنا أرجوك"
                          قلت:
                          "تعالي... سأرافقك إلى غرفتك. ألزميها حتى آتيك"
                          كانت رغد تهز رأسها معترضة, متوسلة ألا أتركها وحدها... لكنني كنت أريد تفقد الشارع من الشرفة لأتأكد من أن الشرطة ليست في الجوار...
                          وعلى هذا أعتدها كارهة إلى غرفتها وأقفلت عليها الباب وحملت المفتاح معي, وتركتها لتستبدل ملابسها وتصلي... وصعدت الدرج خطوة خطوة... أكابد المشقة والألم... إلى الطابق العلوي...
                          لقد كنت أسير مستندا على كل شيء... السياج... الجدران... الأثاث... كنت مرهقا جدا... وآلام جسمي تكاد تقتلني...
                          ذهبت إلى الشرفة ألقيت بنظرة على الخارج... فرأيت الضباب يغمر الأجواء... ويحول دون رؤية شيء...
                          توجهت بعدها إلى غرفتي... والتي ترك رجال الشرطة بابها مفتوحا على مصراعيه, كما فعلوا ببقية أبواب غرف المنزل لدى تفتيشهم لها يوم الأمس...
                          كنت أريد أن أستحم وألبس ملابس نظيفة وأؤدي الصلاة... وكم هالني المنظر الفظيع المزري لوجهي حين رأيته في المرآة...
                          أنهيت استحمامي وضمّدت ما أمكن من جروحي على عجل, واضطررت لارتداء قبعة لإخفاء جرح ناصيتي... وبعد الصلاة ذهبت لألقي نظرة مرة أخرى من الشرفة... كان الضباب كثيفا... لكنني سمعت أو ربما توهمت سماع صوت صفارة سيارة شرطة يشتد ويقترب...
                          أصبت بالهلع... فهرولت مسرعا نحو الدرج وأنا أهتف:
                          "رغد"
                          هبطت السلالم بأسرع ما أمكنني... أتعثر بخطواتي... غير آبه بأوجاع رجلي... شبه متزحلق على قدمي... وتوجهت نحو غرفة المعيشة... ومنها أخذت الحقيبة اليدوية الحاوية للنقود والحاجيات الأخرى... وكذلك هاتفي وهرولت إلى غرفة رغد...
                          لم أطرق الباب... بل هتفت باسمها وأنا أدخل المفتاح في ثقبه وأقبض على المقبض ثم أديره وأدفع بالباب بسرعة وأندفع إلى الداخل...
                          كانت رغد تلبس رداء الصلاة... وتجلس على الكرسي في اتجاه القبلة... وفي يدها مسبحة... فهي بطبيعة الحال لم تكن تستطيع السجود على الأرض بسبب الجبيرة...
                          "رغد... هيا بسرعة... أظنهم عائدون"
                          قلت هذا وأنا أندفع نحوها بسرعة... وأمسك بيدها وأحثها على النهوض...
                          وقفت رغد على رجليها والهلع يجتاحها... وقالت بفزع:
                          "ماذا؟؟"
                          قلت:
                          "الشرطة قادمة... لنخرج بسرعة"

                          **********


                          أشرت إلى عكازي المرمي على الأرض وهتفت:
                          "عكازي"
                          فانحنى وليد وناولني إياه وهو يقول:
                          "بسرعة... بسرعة..."
                          ارتديت خفي المنزلي والذي كنت قد خلعته قبل الصلاة وتركته بجواري, ثم سرت خطوتين في الاتجاه المعاكس... نحو عباءتي... فسأل وليد:
                          "إلى أين؟؟"
                          قلت مشيرة إلى الشماعة:
                          "عباءتي"
                          فأسرع هو إليها وجذبها والوشاح من على الشماعة... وأقبل نحوي وناولني إياهما... أخذتهما على عجل ومن شدة ارتباكي أوقعت عكازي... وبدأت بارتدائهما فوق حجابي كيفما اتفق, وفي ذات اللحظة... سمعت صوت صفارة سيارة شرطة يزعق من خارج المنزل... هنا.. لم أشعر إلا برجليّ تطير فجأة عن الأرض... وإذا بوليد يهرول نحو المخرج الخلفي للمنزل... حيث المرآب... وهو يحملني... على كتفه... "عكازي!!"
                          هتفت ونحن نبتعد... لكن وليد لم يستجب... وسار منحني الظهر مترنحا يوشك على الوقوع بي, حتى وصلنا على الباب الخلفي فأقفله بسرعة وكاد ينزلق وهو يهبط العتبات...
                          أنزلني عن باب السيارة وفتحه ودفع بي إلى الداخل وأغلق الباب وجزء من ذيل عباءتي وطرف وشاحي يتدليان إلى الخارج...
                          ثم توجه بسرعة إلى الباب الآخر... وهو لا يزال محدودب الظهر مترنح الخطى... ففتحه ورمي بحقيبة كان يحملها إلى الداخل وقفز على المقعد وشغل السيارة وفتح بوابة المرآب واندفع خارجا بالسيارة بسرعة...
                          كل هذا في ثوان لم تكن كافية لأن أستوعب ما يجري...
                          وفوق ما أنا فيه فوجئت بأن الجو كان مغطى بضباب كثيف جدا... لم أكن معه أستطيع رؤية شيء في الشارع...
                          استمر وليد بالقيادة بسرعة لا تتناسب والضباب الكثيف... كان ينعطف يمينا ويسارا فجأة كلما ظهر شيء في طريقنا ولولا لطف من الله لانتهى المطاف بنا إلى حادث فظيع...
                          عندما ابتعدنا عن قلب المدينة إلى الشارع البري قال لي:
                          "اتصلي بسامر"
                          فقلت:
                          "هاتفي بقي في المنزل"
                          فأشار إلى الحقيبة التي جلبها معه وقال:
                          "هاتفي هنا"
                          فتحت الحقيبة فوجدت فيها مجموعة من الأوراق...وجوازات سفر... وتذاكر رحلات جوية... ورزم من الأوراق المالية...
                          ووجدت كذلك الهاتف...
                          كان على الشاشة ثلاث اتصالات فائتة, كلها كانت من سامر.
                          اتصلت به وما إن رد حتى سحب وليد الهاتف مني وخاطب سامر قائلا:
                          "نحن في الطريق إليك... ابق مختبئا على مقربة من البوابة وسلاحك في يدك... سأتصل حين نصل"
                          ثم قال:
                          "لا أعرف فالضباب شديد ولا أستطيع أن أسرع أكثر من ذلك..."
                          وأنهى مكالمته ثم التفت إلي وسأل:
                          "هل أنت بخير؟؟"
                          كنت أحاول أن أسحب عباءتي العالقة تحت الباب دون جدوى, خفف وليد السرعة وقال:
                          "افتحي الباب"
                          وسحبتها أخيرا... ولففت وشاحي حول رأسي...
                          لم تكن الشمس قد أشرقت بعد... والطريق يخيم عليه الهدوء... ووصلنا إلى جزء وعر منه ارتجت السيارة أيما ارتجاج وهي تعبره...
                          كنت أحاول النظر إلى الخلف خشية أن تكون سيارات الشرطة في تعقبنا, لكن الرؤية كانت مستحيلة ولم أسمع أي صفّارة...
                          وصلنا بعد ذلك إلى المخبأ الذي كان سامر وعمي أبو حسام يحتميان فيه. أوقف وليد السيارة وتناول الهاتف واتصل بسامر وقال:
                          "السيارة أمام البوابة... تعال فورا"
                          ومن بين الضباب رأيت سامر وأبا حسام يظهران أمامنا...
                          سامر فتح الباب الخلفي وركب السيارة بسرعة... وأبو حسام أقبل نحو النافذة إلى جانب وليد وهو يهتف:
                          "انطلقوا على بركة الله"
                          وليد قال وهو يدوس على كابح السيارة:
                          "أشكرك يا عم... لن أنسى صنيعك هذا"
                          فأشار أبو حسام وهو يهتف:
                          "اذهبوا هيا... يحفظكم الله"
                          وانطلق وليد بالسيارة وأبو حسام أخذ يلوح لنا وهو يقول:
                          "انتبهوا لأنفسكم يا أولادي... اتصلوا وطمئنوني عليكم... في أمان الله"
                          وكما ظهر وسط الضباب, اختفى وسط الضباب...

                          تعليق


                          • وليد التفت إلى سامر الجالس في الوراء وسأل:
                            "هل أنت بخير؟؟"
                            فرد سامر مندهشا:
                            "ماذا جرى لوجهك وليد؟؟"
                            فاستدار وليد إلى الأمام وركز النظر في الطريق...
                            عندها التفت أنا إلى سامر ونطقت:
                            "هاجمونا وضربوه حد الموت... العساكر الوحوش..."
                            ذهل سامر وحدق بي ثم بوليد بأوسع عينين...
                            فتابعت:
                            "ماذا كنا سنفعل لو أنهم قتلوه؟؟ ماذا كان سيحدث لي لو أنهم أطلقوا الرصاصة على رأسه كما كانوا يعزمون؟؟"
                            وسمعت صوت وليد يناديني زاجرا:
                            "رغد"
                            فالتفت إليه ورأيت في عينيه نظرة انزعاج... فقلت وأنا أمسك بطرف وشاحي في يدي وأقول:
                            "أيرضي أحد ما أنا فيه؟؟ ما الذي فعلته لأمر بكل هذا؟؟ إلى متى سأعيش هذا التشرد؟؟ أنا تعبت... تعبت"
                            وطأطأت رأسي ودفنته بين ثنايا الوشاح وجعلت أبكي بحرقة...
                            حل صمت طويل علينا... وانشغل كل منا بأفكاره الخاصة... إلى أن أحسست بسرعة السيارة تخف تدريجيا... ثم تتوقف.
                            نظرت إلى وليد فرأيته ملتفتا إلى سامر يخاطبه قائلا:
                            "تول القيادة... أنا مرهق"
                            ثم سمعت صوت الباب الخلفي ينفتح وينزل سامر... التفت وليد إلي وقال:
                            "اذهبي للخلف"
                            وخرجنا جميعا من السيارة لتبديل مقاعدنا. وقبل أن يركبا, منحاني فرصة لنزع حجاب الصلاة الأبيض وارتداء الوشاح والعباءة الأسودين... كنت ألقي بنظرة عليهما... وأرى وليد يقف محني الظهر... مستندا إلى السيارة... والتعب جلي عليه... أخذت أراقبه عبر زجاج النافذة دون أن ينتبه... وعندما ركب السيارة بادرت بسؤاله:
                            "هل أنت بخير وليد؟؟"
                            فأجاب وهو يسند رأسه إلى مسند السيارة:
                            "سأكون كذلك"
                            وسمعت سامر يقول:
                            "أنا آسف يا أخي"
                            فيرد وليد:
                            "لا عليك... انطلق بسرعة... يجب أن نصل في الموعد المحدد"
                            سار سامر بسرعة أبطأ من سرعة وليد... وعلل ذلك بعد اتضاح الرؤية أمامه... وبعد فترة بدأ الضباب ينقشع حتى زال تماما... قبل أن نصل على الحدود.
                            أظن أن وليد قد غفا لبعض الوقت من شدة إعيائه... وعندما اقتربنا من أول نقاط التفتيش عند الحدود سمعت سامر يخاطبه قائلا:
                            "وليد...وصلنا"
                            وكان صوت سامر مغلفا بالخوف والقلق... وليد تحرك من مقعده ثم أخذ يستخرج بعض الأوراق من جيوب سيارته فيما قلوبنا تخفق بشدة وأعيينا مفتوحة أوسعها متربصة بأي شخص يظهر في الصورة...
                            تناول وليد حقيبته اليدوية واستخرج الجوازات... وخاطب سامر بينما كان يوقف السيارة:
                            "أنا سأنزل لإتمام الإجراءات المطلوبة. وأنت ابق ملازما رغد. إياك والخروج لأي سبب. وإذا ما واجهت مشكلة لا قدر الله... فسأعطيك إشارة... وانطلق بالسيارة بأقصى سرعة ولا تأبه لشيء"
                            حملقنا في وليد بذعر ونحن نزدرد ريقنا متوجسين خيفة... قال سامر:
                            "ماذا؟؟"
                            فقال وليد:
                            "افعل ما قلته لك. إذا أحسست بالخطر فسأعطيك إشارة للهرب... وإن أعترضك أي شيء فاقتله... وأنا سأتكفل بالباقي"
                            ولم يترك لنا الموظف فرصة للاستيعاب, إذ به لوح بيده مشيرا إلينا... فنزل وليد من السيارة وقبل أن ينصرف قرب وجهه من النافذة وهو يقول:
                            "لا تنس ذلك"
                            وألقى علي نظرة... ثم انصرف إلى الموظف.
                            أخذت الوساوس تتلاقفني يمينا ويسارا... وأخذت أتضرع إلى الله من أعماق قلبي وبكل إلحاح... أن يسهل الأمر علينا ويخرجنا معا من دائرة الخطر سالمين...
                            رأيت سامر يمسك بشيء بين يديه وسرعان ما تبين لي أنه مسدس... فتفاقم الفزع في نفسي وكدت أخرّ مغشية من شدة الخوف...
                            مرة الدقائق التالية كالقرون... ونحن ننتظر عودة وليد وأعيننا محملقة عبر النوافذ في الاتجاه الذي سار فيه. وبعد هول الانتظار ظهر وليد أخيرا يتقدم نحونا يحفه اثنان من رجال الأمن, يرتدون زيا عسكريا. لدى رؤيتي لهم انفجر قلبي بقنبلة من النبضات الصارخة المدوية... كنت أشعر بها تصطدم بأسفل قدمي وربما تهز السيارة...
                            سامر بسرعة خبأ مسدسه تحت المقعد وتظاهر بأنه يستخرج أحد الأقراص المدمجة, وشغل المسجل... وأذكر أن القرص كان يبتهل ابتهالا خاشعا... كان وليد كثيرا ما يشغله أثناء مشاوير ذهابي وإيابي من الجامعة برفقة مرح.
                            وصل وليد ورجلا الأمن, وأشار أحدهما إلى سامر بأن يفتح حقيبة السيارة الخلفية... بينما طلب الآخر منه أن يفتح النافذة... وعندما فتحها ألقى بنظرة علينا ثم على جوازات السفر التي كانت في يده... وطلب من سامر أن يبرز بعض الوثائق الخاصة بالسيارة... ثم انصرف... وتبعه الرجل الآخر...
                            وليد اقترب من النافذة فتشبثت به أعيننا, قال:
                            "سأنهي الإجراءات وأعود... تسير الأمور بشكل جيد"
                            فجذبت نفسا عميقا... علّ ذلك يهدئ من سرعة خفقان قلبي ولو الشيء القليل...
                            وانصرف وليد, ثم عاد بعد قليل... وركب السيارة وقال:
                            "انطلق"
                            لم نصدق آذاننا لا أنا ولا سامر... لذا... بقينا متسمرين... ولم تتحرك السيارة... فنظر وليد إلى سامر وقال:
                            "هيا"
                            فسأل سامر:
                            "انتهى كل شيء؟؟"
                            فأجاب وليد:
                            "ليس بعد... لكننا تخطينا أول العقبات..."
                            وجملته الأخيرة أجهضت بذرة الطمأنينة التي ما كادت تنبت في قلبي... وتجاوزنا عقبتين أخريين, وخرجنا من حدود بلدنا... ودخلنا حدود البلدة المجاورة... وهناك طلب منا رجال الأمن الخروج من السيارة لتفتيشها...
                            تبادل وليد وسامر نظرة وإن خفيت عن رجال الأمن فهي لم تخف عني... سامر حاول أن يستخرج المسدس متظاهرا بأنه يعدل من وضعية مقعده... غير أن يده لم تطله... ربما فهم وليد حركة سامر... وكان رجال الأمن من حولنا... فأطل وليد عبر نافذته وقال:
                            "الفتاة لا تستطيع النهوض إذ أن رجلها مجبرة"
                            في محاولة للإفلات من التفتيش, غير أن أحد رجال الأمن قال:
                            "فليساعدها أحدكما على ذلك"
                            ولم يجد وليد بدا من أن يلتفت إلي ويقول:
                            "سأساعدك"
                            وكانت عيناه مضطربتين وقطرة من العرق سالت على جبينه نصف المخبأ تحت قبعته.
                            خرج وليد من السيارة وفتح الباب المجاور لي ومد يديه... وعندما خرجت من السيارة ووقفت على رجلي... راح يتلفت يمينا وشمالا بحثا عن مقعد... ووجدنا مقاعد حجرية على بضعة أمتار فقال:
                            "سأرفعك"
                            ثم التفت إلى سامر وقال:
                            "تعال معنا"
                            ولكن وليد وبعد أن سار بي خطوتين لا غير أحس بالتعب وهتف:
                            "أخي"
                            وسرعان ما رأيت ذراعيّ سامر تمتد وتحملني...
                            وصلنا إلى المقاعد فأجلسني سامر على أحدها وجلس وليد قربي مباشرة... وسمعناه يتنفس بقوة...
                            سامر سأل:
                            "أأنت على ما يرام؟؟"
                            فأومأ وليد بنعم وإن كان مظهره يثبت عكس ذلك... وأرسل أنظاره إلى رجال الأمن وهم يفتشون السيارة...
                            جلس سامر إلى الجانب الآخر مني وإذا بوليد يسأل:
                            "أهو معك؟؟"
                            فيجيب سامر:
                            "في السيارة"
                            فيرد وليد:
                            "تبا! أين تركته؟؟"
                            فيجيب سامر:
                            "تحت المقعد... لن يصعب عليهم العثور عليه"
                            فيقول وليد:
                            "أحمق... لماذا لم تخبئه جيدا أو حتى ترمي به من النافذة قبل وصولنا إلى هنا"
                            فيقول سامر:
                            "ألست من طلب مني إحضاره معي؟؟ لم يتسع المجال للتخلص منه"
                            فيعقب وليد:
                            "سيورطنا هذا المشؤوم... تبا.. من أين حصلت على مصيبة كهذه؟"
                            وما كاد ينهي جملته حتى رأينا رجال الأمن يكتشفون وجود سلاح مخبأ في قلب السيارة...
                            اشرأبت أعناقنا وجحظت أعيينا وجفت حلوقنا... ونحن نرى أحد رجال الأمن يقبل نحونا قابضا على السلاح بمنديل... كان ابنا عمي جالسين إلى جانبي ولما اقترب رجل الأمن وقفا واقتربا من بعضهما وسدا المرأى من أمامي... وسمعت صوت وليد يهمس:
                            "دعني أتصرف. لا تتفوه بشيء. لازم رغد"
                            ثم سمعت صوت رجل الأمن وقد صار على مقربة يسأل:
                            "لمن هذا الشيء؟؟"
                            مرت لحظة صامتة حسبت أنني فقدت السمع من طولها... ثم إذا بي أسمع:
                            "إنه... لي"
                            أتدرون صوت من كان؟؟
                            صوت وليد...
                            أو ربما... توهمت ذلك... إذ أنني مع هوسي بوليد... وفي حالتي هذه التي لا مثيل لها... أصبحت أتوهم كل شيء...
                            عاد صوت رجل الأمن يسأل:
                            "هل لديك تصريح رسمي بحمله وإدخاله إلى هنا؟؟"
                            "لم أجلب معي التصريح"
                            هذا صوت وليد... أنا واثقة من أنه صوت وليد.. لا يمكنني أن أخطئه... وليد قلبي!
                            "تعال معي لو سمحت"
                            قال ذلك رجل الأمن, ثم رأيت وليد يبتعد عني خطوة, ثم يلتفت إلى سامر ويقول:
                            "ابق مع رغد. إياك أن تبتعد عنها لأي سبب مهما كان"
                            فيرد سامر:
                            "وليد! ما الذي..."
                            ويقاطعه وليد قائلا:
                            "لازم الصمت. فقط ضع الفتاة نصب عينيك... أتفهمني؟"
                            ومال وليد بجسده قليلا لينظر إلي... ولم أستطع لحظتها حتى أن أتأوه... ورأيته يبتعد خطوة بعد خطوة... إلى أن توارى عن أنظاري...
                            حينها فقط أطلقت صيحة مكبوتة:
                            "وليد!!"
                            ومددت يدي إلى الأمام محاولة الإمساك بظله... لكنه تلاشى...
                            مرت نحو ساعة... ونحن عند المقاعد, أنا جالسة... وسامر يجلس تارة ويقف أخرى... في توتر فظيع...
                            بعد ذلك... أقبل إلينا أحد رجال الأمن وطلب منا مرافقته.
                            سأل سامر:
                            "أين شقيقي؟؟"
                            فأجاب الرجل:

                            تعليق


                            • "سيحوّل إلى لجنة التحقيق"
                              فزعت وشهقت رغما عني... نظر الاثنان إلي ثم إلى بعضهما البعض... وقال سامر:
                              "تحقيق؟؟"
                              فأجاب رجل الأمن:
                              "نعم. فهو يحمل سلاحا ويعبر به الحدود دون ترخيص"
                              قال سامر:
                              "ماذا ستفعلون به؟؟"
                              أجاب:
                              "سيخضع للتحقيق... لا أعرف تحديدا. المهم... هلاّ رافقتماني الآن؟؟"
                              سأل سامر:
                              "نرافقك إلى أين؟؟"
                              فأجاب:
                              "للتفتيش الشخصي أولا, وبعد التفتيش, سننقلكما إلى أقرب نقطة بعد الحدود ومن هناك تابعا طريقكما إلى المدينة في سيارة أجرة إذ أننا سنحتجز سيارتكم عندنا لحين انتهاء التحقيق وإجراء اللازم"
                              التفت سامر إلي... وكان وجهه مكفهرا محتقنا بالدماء... ولم يقل شيئا... أما أنا فقلت وأنا أحرك رأسي اعتراضا وتهديدا:
                              "أنا لن أبرح مكاني حتى يعود وليد"
                              فهم سامر قصدي, وخاطب رجل الأمن سائلا:
                              "أين شقيقي الآن؟ أريد أن أراه"
                              فأشار الرجل بيده إلى المبنى الذي اختفى وليد خلف جدرانه, فقال سامر:
                              "خذني إليه من فضلك أولا..."
                              فقال الرجل:
                              "لا بأس, تفضل"
                              عندها مددت يدي وأمسكت بمعطف سامر... أذكره بأنني هنا...
                              التفت سامر إلي ثم إلى الرجل وسأله:
                              "هل لديكم كرسي متحرك؟ الفتاة لا تستطيع المشي"
                              فرد الرجل:
                              "لا, للأسف"
                              وعندما نظر سامر إلي أعدت أقول:
                              "أنا لن أتحرك من مكاني قبل مجيء وليد"
                              فقال:
                              "دعيني أراه أولا وأعرف ما أفعل.."
                              واستخرج هاتفه من جيبه واتصل بوليد...فسمعنا صوت رنين هاتف على مقربة وعندما التفتنا إلى الصوت رأينا وليد يظهر وبرفقته شرطي, يسيران متقدمين إلينا...
                              وقفت من شدة هلعي على رجليّ... وكنت أرتدي خفا منزليا على قدمي اليمنى, بينما الأخرى مجبرة... وأحسست بحرارة الأرض تتخلل خفي وتلهب قدمي, حينما صار وليد أمامنا راح ينقل بصره بيننا ثم قال:
                              "اذهبا مع رجال الأمن. سيوصلونكما إلى أطراف المدينة. وبعد ذلك استغلا أي سيارة أجرة واتجها إلى المطار. التذاكر وكل ما تحتاجانه في حقيبتي اليدوية"
                              فقلنا معا:
                              "وأنت؟؟"
                              فقال بصوت خافت لا يتعدى بعدنا:
                              "سأسوى المسألة هنا وألحق بكما"
                              أنا قلت مندفعة:
                              "لن نذهب لأي مكان من دونك"
                              فأومأ لي وليد بنظرة من عينيه ثم قال:
                              "لا وقت لنضيعه في الكلام. الطائرة ستقلع بعد ساعتين. يجب أن تدركاها وترحلا بسلام"
                              ثم أخفت صوته وقال:
                              "أي تأخير سيبقيه في دائرة الخطر... عجلا"
                              هتفت:
                              "ولكن"
                              فقاطعني زاجرا:
                              "بدون لكن... أتفهمين؟؟"
                              وحدق بي لثوان... بنظرة زاجرة حادة...
                              ثم التفت إلى سامر وقال:
                              "انتبها لنفسيكما جيدا..."
                              ونطق سامر بنبرة حزينة توشك على البكاء:
                              "أخي..."
                              فرفع وليد يديه وحط بهما على كتفي سامر... كأنه يستند عليه, لا يسانده... ثم تنهد تنهيدة ألم مريرة... ربما لأن ذراعه شبه مخلوعة جريحة... أو ربما لشدة صعوبة المأزق الذي كنا فيه... قطب حاجبيه ثم أرخاهما وقال:
                              "اهتم برغد... إنها أمانتك أنت الآن..."
                              ثم نقل بصره فيما بيننا وقال أخيرا:
                              "في أمان الله"
                              لا أذكر... تفاصيل ما حدث بعد ذلك... لا أذكر... إلا وأنا في سيارة... أنظر عبر زجاج النافذة... ووليد في الخارج... يقف بين رجال الأمن... يلوّح إليّ... والسيارة تبتعد... وتبتعد... وتبتعد... ويتلاشى وليد... كما يتلاشى السراب...
                              فجأة... بين عشية وضحاها... بل بين لحظة واللحظة التي تليها... تحولت حياتي إلى شيء خال من وليد!
                              يختفي من حياتي فيما أنا أراقبه... وهو يبتعد... دون أن أملك القدرة على فعل شيء...
                              ابتعدت السيارة كثيرا... وعيني لا تزال تحدق عبر النافذة... تفتش عنه!...
                              وصورته الأخيرة... هو يلوح لي بيده... مودعا... هي الصورة الأكثر إيلاما... التي اختزنتها محفورة في ذاكرتي... كأقسى لقطة وداع فرّقتني عن وليد قلبي... من بين كل لحظات الفراق الأخرى في حياتي... على الإطلاق...
                              أصابتني حالة ذهول... فقدت القدرة على الكلام... القدرة على التفكير... القدرة على التصرف... وانقدت لما كان سامر يطلبه مني دون أن اعرف ما هو...
                              لم أستفق من حالة التيه... إلا عندما وجدت نفسي أهبط من الطائرة إلى مطار الوصول... وأفتش عن وليد بين المسافرين...
                              رأيت كل الناس... كل الأجناس... من كل العالم... كل البشر الذين خلقهم الله... كلهم من حولي... إلا وليد!
                              لم أر منه إلا لقطة أخيرة... وهو يلوح لي مودعا... وعيناي تشيعانه... عبر زجاج النافذة...
                              لم أشعر بنفسي إلا وأنا أصرخ في المطار كالمجنونة:
                              "أعيدوني إلى وليد"

                              ************

                              اللقاء بدانة كان حميما وملتهبا جدا... امتزجت فيه دموع الشوق بدموع الذكريات الأليمة... بدموع القلق... لكن أكثر الدموع طغيانا كانت تلك التي فجرتها رغد حزنا وخوفا على وليد. سقتني كؤوس القلق والندم جرعة على مدى الفترة المفجعة التي تلت وصولنا إلى هذه البلد. فقدنا الاتصال بوليد... حتى أننا لم نطمئنه إلى أننا وصلنا بسلام... وما فتئنا نحاول الاتصال به بكل الأرقام وفي كل الأماكن الممكنة دون جدوى. لم نعرف إن كان لا يزال في البلدة المجاورة لبلدتنا أم أنهم قد رحّلوه إلى بلدنا... أم إلى مكان آخر...
                              وإن كان في قبضة الشرطة أم أنهم قد أخلو سبيله... اتصلنا حتى بالمنزل والمزرعة والمصنع.. بلا جدوى.. وتولى عمي أبو حسام مهمة تقصي أخباره في البلد واستخدم كل الطرق, دون نتيجة حتى الآن.
                              أخشى ما كنا نخشاه... هو أن تكون السلطات قد زجت به في السجن أو فعلت به شيئا... وأنا لن أسامح نفسي أبد على ما قد يكون شقيقي قد تعرض إليه بسببي.
                              وليد قدّم من أجلي تضحية كبيرة... ضحى بنفسه من أجل إنقاذي وفضلني على نفسه... وتحمل وزري نيابة عني...
                              أنا أيضا... مستعد الآن لأن أضحي بكل شيء... من أجل ظهوره وعودته إلينا سالما.
                              أقمنا في منزل دانة وعائلتها. وهو منزل كبير مؤلف من عدة أجنحة, كان يسكنه أمير أو ما شابه قبل أن يشتريه نوّار... زوج دانة... لاعب الكرة الشهير... والمليونير...
                              ولأنني عدمت خيارا آخر, فقد اضطررت للمبيت هنا مؤقتا لحين مجيء أخي أو إيجاد حل بديل.
                              نوّار وعائلته رحبوا بنا وخصّصوا لنا غرفتي نوم في أحد الأجنحة وضيّفونا بسخاء. واعتمدت على النقود التي تركها وليد في حقيبته لشراء الضروريات.
                              آه أجل...
                              لا بد وأنكم تتساءلون عن رغد... وما حل بها بعد وليد...أول ليلة قضتها في هذا المكان كانت أفظع من الوصف. كانت في حالة ذعر متواصل واضطرت دانة للمبيت إلى جانبها في الغرفة. كانت تصف لنا كيف هاجم رجال المباحث وليد وأوشكوا على قتله... وكانت تعتقد بأنه الآن في قبضتهم وأنهم سيقتلونه... كانت ستموت بهذا الاعتقاد... واضطررت لاحقا لأن أتفق مع عمي أبي حسام على أن يخبرها بأن وليد بخير ولا يزال محبوسا تحت التحقيق وأنه سيلحق بنا فور خروجه. ارتابت في كلام أبي حسام أولا ولكنها صدقته في النهاية حتى ولو من باب التعلق ببصيص الأمل...
                              صرنا لا نجرؤ على ذكر اسمه على مسمعها... خشية أن تفلت الحقيقة من ألسننا سهوا... وتعود للهستريا المرضية تلك... وبقينا نتظاهر بالاطمئنان والتفاؤل فيما أفئدتنا يمزقها القلق... والبحث ولاتصالات جارية... ساعة بعد ساعة ويوما بعد يوم...
                              "انظر سامر... هل هكذا زاوية أنفه؟.. ألا تبدو أقل حدة؟؟"
                              تسألني وهي واقفة أمام لوحة جديدة ترسمها لوليد... وهو يلوح بيده... وتقارنها بصورته...
                              كانت الساعة التاسعة ليلا... هكذا قضت ساعات الأمس واليوم... تكرر رسم وجوه أمي وأبي ووليد... من الصور الفوتوغرافية التي كانت بحوزة دانة... الصور التي تم التقاطها لنا ليلة زواجها... وأخرى التقطت لوالدي الراحلين... عندما ذهب العريسان لزيارتهما قبل هجرتهما إلى هذه البلدة...
                              أجبت:
                              "ألم تتعبي من الوقوف؟ أريحي رجليك قليلا... لا تزالين في فترة النقاهة"
                              وقد نُزعت جبيرة رجلها اليسرى مؤخرا, فقالت وهي محملقة في اللوحة:
                              "رجلاي اعتادتا الكسل طيلة الشهور الماضية. آن الأوان لتنشيطها"
                              وأخذت تتأمل اللوحة ثم قالت:
                              "لا...! لم أتقن رسم الأنف..."
                              وإذا بها تزيل اللوحة التي قضت ساعات في رسمها وتضعها جانبا... وتضع لوحة بيضاء جديدة استعداد للرسم من جديد...
                              نزعتُ اللوحة من العمود ووضعتها جانبا... ونظرت إلى رغد بحزم... فنظرت إلي وهي تعبس بانزعاج...
                              قلت لها:
                              "يكفي يا رغد... إلى متى ستظلين ترسمين هكذا؟"
                              فتبدلت تعبيرات وجهها ثم قالت:
                              "إلى أن... تظهر الأصول... ولا أحتاج إلى الصور"
                              ثم رمت بالفرشاة والألوان من يدها وسارت مسرعة إلى سريرها وأكبت على وجهها فوق الوسائد وأخذت تبكي...
                              التفتُ إلى دانة... التي كانت تجلس على المقعد أمام المرآة... تتابعنا من خلالها... وهززت رأسي أسفا وحزنا على رغد.
                              هممت بالاقتراب منها والتحدث إليها, غير أن دانة أشارت إلي بألا أفعل... فلذت بالصمت وبقيت أسمع صوت نحيبها المرير... وقامت دانة فاقتربت منها وحاولت تشجيعها ببعض الكلمات... فخرجتُ من الغرفة ووقفت قرب الباب بين رغبتين متعارضتين في البقاء إلى جوارها والابتعاد عنها.
                              وبعد قليل رأيت دانة تخرج من غرفة رغد وتغلق الباب من بعدها... وتنظر إلي والحزن يطلي وجهها بلون رمادي معتم.
                              فسألتها:
                              "ماذا قالت؟؟"
                              فأجابتني بحزن بليغ:
                              "سألتني عن كنت أملك أيضا...صورة لوالديها الحقيقيين... عمي وزوجته... رحمهما الله!"

                              تعليق


                              • ولم يكن قد سبق لرغد وأن طلبت شيئا كهذا ولم تكن تبوح بحنينها لوالديها أو تعبر عن أي مشاعر تكنها لهما... منذ كانت طفلة صغيرة... على الأقل هذا ما اعتقده...
                                أضافت دانة بأسى:
                                "لو أننا نعلم أين وليد الآن... إلى متى سنظل نجهل مصيره؟؟"
                                أشرت إليها أن تخفض صوتها... لئلا يصل إلى مسامع رغد وصمتٌ لبرهة ثم قلت هامسا وأنا أعقد العزم:
                                "سأذهب للبحث عنه بنفسي"
                                عندها تلاشت العتمة الرمادية عن وجه دانة وحل التوهج الأحمر على وجنتيها وقالت:
                                "تذهب أنت؟؟ لا! مستحيل"
                                فقلت:
                                "لا بد من ذلك يا دانة"
                                فإذا بها تمسك بذراعي وتهز رأسها اعتراضا وتقول منفعلة:
                                "كلا... لن أدعك تذهب يا سامر... الآن لدي أخ واحد موجود, هل تريد أن أفقدكما أنتما الاثنين؟؟"
                                فقلت:
                                "ولكن يا دانة"
                                ولم تدع لي المجال لإتمام الجملة بل أسندت رأسها إلى كتفي وقالت:
                                "لا تفكر يا سامر... أنا ما كدت أصدق... أنك معي الآن... ما أحوجنا... أنا ورغد إليك... أنت من تبقى لنا من العائلة... أرجوك لا تفكر في الذهاب"
                                علاقتي بشقيقتي دانة كانت قوية جدا منذ الصغر... كنا صديقين حميمين... وكنت أعتبرها أقرب الناس إلي... وكانت الوحيدة التي أبث لها بهمومي وأشكو إليها مخاوفي.
                                والآن... بعد اجتماعنا من جديد عقب كل ذلك الفراق, استعادت علاقتنا حرارتها ومتانتها... وأخبرتها بتفاصيل ما حصل معي ومع المنظمة... والشرطة... وبكل ما مر بي منذ ليلة زواجها وحتى الآن... بل وحتى عن العملية التي أُكريت لجفني... وعملية الاغتيال الفاشلة التي شاركت فيها... والمؤامرات التي حكناها وكنا على وشك تنفيذها...
                                وحالة اليأس التي اعترتني لدى فقد أحبتي... ورغبتي في الانتقام لمقتل والديّ... تفاصيل كثيرة ومريرة... أعارتني لسماعها الأذن الصاغية.. والصدر الرحب.. والقلب الحنون.. كعادتها دوما... ما ضاعف شعوري بالندم والخجل من أفعالي...
                                مسحت على رأسها مؤازرا... فنظرت إلي ببعض الرضا ثم قالت:
                                "كما أنني لا أستطيع تحمل مسؤولية رغد... تعرف أنه لا طاقة لي بمزاجها في الوضع الطبيعي, فكيف بها وهي في هذه الحال؟؟"
                                شردت قليلا.. وتذكرت شقيقي في يوم فرارنا... وهو يوصني برغد ويحذرني من الابتعاد عنها مهما حصل... وغزت ابتسامة ساخرة واهية زاوية فمي اليمنى... لاحظتها دانة فسألت:
                                "ما الأمر؟؟"
                                فأجبت:
                                "تذكرت وليد... وهو يوصيني على رغد... كأنه كان يعرف... أنه لن يواصل الطريق معنا"
                                وشردت برهة ثم تابعت:
                                "كانت آخر كلماته لي: (إنها أمانتك أنت الآن) ..."
                                وأسندت رأسي إلى الجدار ونظرت للأعلى وخاطبت وليد الغائب في سري:
                                (هذه الأمانة... لا تريدني أنا يا وليد... بل تريدك أنت)
                                ثم صفعت برأسي في الجدار بمرارة...
                                عدت أدراجي إلى غرفة نومي... وما إن دخلتها, حتى سمعت صوت هاتفي يرن...أسرعت إليه متمنيا أن يحمل الاتصال خبرا جيدا... كان المتصل هو سيف الحازم... صديق وليد المقرب... يخبرني وللعجب والدهشة... أنه مع وليد الآن... في البلدة المجاورة لبلدتنا... في إحدى المستشفيات...

                                ************

                                منذ أن تلقيت اتصاله يوم الجمعة هرعت إلى وليد... أنا مع والدي مسافرين برا إلى المدينة المجاورة. وليد كان معتقلا لدى سلطات البلدة لتورطه بقضية حمل سلاح بدون ترخيص. لم نحصل منه على تفاصيل عبر الهاتف ولدى وصولنا فوجئنا بمن يبلغنا بأنه قد نقل تحت الحراسة إلى إحدى المستشفيات نتيجة تدهور وضعه الصحي المفاجئ...
                                مفاجآت وليد هذه لا تنتهي ولم تكن لتخطر لأحد على بال...
                                تولى والدي-وهو محام كبير كما تعرفون- أمر القضية وحصلنا على إذن رسمي بزيارته داخل المستشفى يوم الاثنين. قابلنا الأطباء وسألناهم عن وضعه قبل زيارته فأخبرونا بأنه كان لديه نزيف حاد في معدته وتمزق في جدارها والتهاب شديد في أنسجة البطن... وأنهم اضطروا لإدخاله إلى غرفة العمليات وإجراء عملية عاجلة له... وإعطائه كمية كبيرة من الدماء...
                                تعلمون أن وليد يشكو منذ زمن من قرحة في المعدة ويظهر أنها اشتدت وتمزقت ونزفت بغزارة...
                                هذا تفسير معقول...
                                لكن الغير معقول والغير مصدق... هو ما قالوه أيضا... أنهم وجدوا علامات على جسده تشير إلى أنه تعرض للضرب أو التعذيب الشديد قبل ساعات من فحصه...
                                أما الأشد غرابة فهي ورطة السلاح... وهذا السفر المفاجئ لوليد... والغموض الشديد الذي يغلف القضية...
                                دخلنا غرفة وليد يسبقنا فضلونا للاطمئنان عليه ومعرفة التفاصيل... لكن ما إن وقعت أعيينا عليه حتى أطبقت على فمي كي لا أطلق شهقة قوية تثير بلبلة من حولي... وحملقت فيه مذهولا... وكذلك فعل والدي.
                                اقتربنا من سريره بخطى مترددة... إذ أننا لم نتيقن من كون هذا المريض هو بالفعل وليد... وأن القضية كلها ليست تشابه أسماء أو سوء فهم...
                                رباه... أحقا هذا وليد؟؟
                                اللهم نسألك اللطف والرحمة...
                                كان مغمض العينين, ربما نائم... ربما فاقد الوعي... أو ربما أسوأ من ذلك. جسمه ملفوف بالضماد في عدة مواضع والعديد من الأجهزة موصلة به. جهاز يراقب نبض القلب, جهاز يكشف مستوى الأوكسجين, جهاز يقيس ضغط الدم... وقارورة دم معلقة قربه... تقطر دما متدفقا عبر الأنابيب إلى وريده... كان يبدو مزريا... وكانت هناك ممرضة قابعة بجواره تراقب شاشات الأجهزة وأخرى تقف في الجانب الآخر وتعمل على تنظيف ما ظهر لنا أنه جرح في البطن. الغرفة تعبق برائحة الأدوية والمطهرات... ويدوي فيها طنين الأجهزة كأنه صفارة إنذار بالخطر...
                                اهتز قلبنا لدى مشاهدة المنظر وتبادلنا نظرات الاستغراب والأسف.
                                عندما نزعت الممرضة الضمادات عن الجرح رأينا حركة تصدر من الجسم الممدد على السرير تحت اسم صديقي وليد... قفزت أعيننا نحو عينيه ولكنه لم يفتحهما... بل حرك يده على السرير وكأنه يعتصر ألما...
                                قالت الممرضة:
                                "اصبر قليلا"
                                ثم نظرت الممرضة الأخرى إلى ساعة يدها وقالت:
                                "إنه موعد المسكن على أية حال"
                                وحقنت دواء ما عبر أنبوب المصل المغروس في ذراع وليد. أثناء جريان الدواء إلى وريد وليد كانت تعبيرات الألم ترسم على وجهه تجاعيد عابسة حزينة... اقترنت بانقباض يده واعتصار عينيه... على إثر هذا لم أتمالك نفسي وأقبلت نحوه بهلع وهتفت:
                                "وليد... وليد..."
                                رأيت وليد يفتح عينيه... ثم يحاول تحريك رأسه ببطء يمينا ويسارا يفتش عن مصدر الصوت... فمددت يدي إلى يده وشددت عليها وقلت:
                                "وليد... صديقي... أنا هنا... سيف"
                                التفت وليد إلي, وبدا أنه غير مصدق, أو مشوش الرؤية... وأحسست بأصابعه تحاول أن تشد علي.. إلا أنها سرعان ما ارتخت وسرعان ما أسدلت عينيه الجفون وغطت الرؤية. وعندما ناديته بعدها لم يجبني.
                                وسمعت الممرضة تقول:
                                "أعطيته للتو الدواء المخدر"
                                فالتفتُ إليها وسألت في ذات الوقت الذي سأل والدي:
                                "هل هو بخير؟؟"
                                فأجابت:
                                "يتحسن. غير أنه لا يزال بحاجة إلى المخدر للسيطرة على الألم"
                                بعدها ذهب والدي لمتابعة القضية وبقيت بجوار وليد أراقبه بتمعن واعد الثواني متزامنة مع قطرات الدم المتدفقة من القارورة... متناغمة مع طنين الأجهزة ومؤشر دقات قلب وليد... وأنا شديد الحيرة والقلق والتشويش... إلى أن استفاق وليد أخيرا بعد نحو ساعتين... فاقتربت منه وشددت على يده برفق وقلت:
                                "سلامتك... يا عزيزي... ماذا حل بك؟؟"
                                نظر وليد نحوي وشد بضعف على يدي وأومأ متجاوبا معي... ثم نطق والقلق يغطي تعبيرات وجهه:
                                "سيف... الهاتف"
                                وفهمت منه أنه يريد استخدام الهاتف... استخرجت هاتفي وفيما أنا أمده نحوه سمعت الممرضة تقاطعنا قائلة:
                                "ممنوع... لا للهواتف المحمولة هنا"
                                تلفت من حولي ولم أجد جهاز هاتف ثابت فسألت:
                                "إذن كيف يمكننا الاتصال؟؟"
                                فقالت:
                                "خارج المبنى"
                                عدت إلى وليد والذي اشتد القلق على وجهه وسألت:
                                "بمن تريدني أن أتصل؟؟ بزوجتك؟"
                                فأومأ برأسه نفيا ثم قال:
                                "سامر... رغد..."
                                حل والدي المسألة بطريقة ما وأُطلق سراح وليد رسميا بعد ثلاثة أسابيع أخرى... وكان لا يزال ملازما سرير المستشفى وبحاجة للرعاية الطبية, وكنا أنا ووالدي نتنقل بين البلدتين لعيادته من وقت لآخر... وكنت أقوم بدور المرسال بينه وبين شقيقه.. غير أنه وفور صدور أمر الإفراج عنه أصر على مغادرة المستشفى مخالفا أمر الأطباء... ورافقته بنفسي إلى مكتب الطيران حيث حجز مقعدا على متن أول طائرة تغادر البلدة متجها إلى عائلته...
                                وليد أخبرنا أنا ووالدي عن مشكلة تورط شقيقه في الشغب... وعن تعرضه للضرب من قبل السلطات... واتضحت لنا الأمور الغامضة... غير أنه حذرنا من تسريب أي معلومات لأي كان أو لأي مكان... وبالأخص للمصنع وموظفيه...
                                ولذلك فإنني لدى تلقي اتصال من أسامة يسأل فيه عن وليد الغائب فجأة منذ أيام... زعمت أنه اضطر للسفر إلى شقيقته لظروف عائلية خاصة...
                                للعلم فإن حالة وليد الصحية لا تزال متدهورة ومعظم الأطعمة محظورة عليه...
                                وهناك شيء أخر سأخبركم به أيضا... وليد طلب من أبي أن يباشر إجراءات التنازل عن الوصاية على ابنة عمه اليتيمة القاصر لصالح شقيقه الوحيد... سامر!

                                **********

                                تلقيت مكالمة من المحامي يونس المنذر الذي يعمل مع وليد في المصنع, يسألني فيه عن وليد... ثم أبلغني بأنه مختف منذ أيام!
                                وأبلغني أيضا... بأن ابنة أخيه والتي تدرس مع رغد في الجامعة أكدت أن رغد عاودت الحضور إلى الجامعة لبضعة أيام ثم اختفت أيضا وفٌقد الاتصال بها... وأنهم حاولوا الاتصال مرارا بوليد عبر هاتفه المحمول وعبر هاتف المنزل وحتى هاتف رغد دون جدوى... وكذلك زاروا منزل وليد أكثر من مرة في أوقات مختلفة وما من أحد...
                                أشعرني ذلك بقلق شديد وحاولت الاتصال به بنفسي ولم أفلح. كان خالي قد كلمه آخر مرة يوم الخميس... وحسب قول خالي, كان وليد متوترا وقال أنه مشغول وقطع المكالمة فجأة. تفاقم القلق في نفسي كثيرا... وبلغ ذروته حين أخبرني المحامي في اتصال لاحق بأنه لاحظ اختفاء مبالغ كبيرة من رصيد وليد الخاص, ورصيد المصنع, وتغيّر مجرى قلقي ومخاوفي حين علمنا بعد ذلك أنه سافر.
                                كان أبو فادي صديق وليد هو من أبلغنا بهذا الخبر وأكدته عائلة أم حسام, خالة رغد... قالوا... أنهم علموا أنه سافر مع أخيه وابنة عمه إلى الخارج لأمر طارئ... لكنهم قالوا أنهم يجهلون أي تفاصيل...
                                كنت أنتظر من وليد الحضور إليّ من أجل إعادة النظر في مشكلتنا الخاصة والتي هي أكبر وأهم من أن يماطل في حلها... فكيف تتوقعون

                                تعليق

                                يعمل...
                                X