بسم الله الرحمن الرحيـم ..
فضيلة العلامة أحمد بن يحيى النجمي :
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ، ونستهديه ونستغفره ، ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل اله فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه - وبعد :
فإن الله خلق الخلق لعبادته فقال : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ . مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ . إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) . [ الذاريات : 56 - 58 ] .
ومن أجل بيان العبادة التي فرضها الله على عباده أرسل الله الرسل وأنزل الكتب لكي يعلم الناس ما يجب عليهم لربهم - جل وعلا - ، وليعلموا أن سعادتهم وشقاوتهم مرتبطة بالعبادة إيجابًا ونفيًا فعلاً وتركًا قال تعالى : ( يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ . وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) . [ الأعراف : 35 - 36 ] .
وخاتم الرسل وأفضلهم نبينا محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي أرسله الله إلى الناس كافة وخاطبه بقوله : ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) . [ الأعراف : 158 ] .
فأحيا الله به القلوب ، ونور به البصائر، وفتح به أعينا عميًا ، وآذانا صمًا ، وقلوبا غلفًا ، وأغنى الله به بعد العيلة وكثّر به بعد القلة ، وهداهم الله به إلى التوحيد والتوجه بالعبادة إلى بادئ هذا الكون بعد أن كانوا يسجدون للأحجار والأشجار ، ويدعون ما لا يسمع ولا يبصر ، ولم يقبضه الله حتى ترك أمته على محجة بيضاء بينة الصّوى واضحة المعالم ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك .
ولما كان لابد للناس مع طول الزمن من أن يصيبهم الجهل وتحيط بهم الغفلة وتكتنفهم الصوارف التي تصرفهم عن تعلم الدين أو عن العمل به ومتابعته ، وكان يستحيل أن يتفرغ الجميع لطلب العلم والتفقه فيه ؛ لذلك فقد فرض الله على هذه الأمة أن ينفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ؛ كما قال تعالى : ( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) . [ التوبة : 122 ] .
لذلك كان لزامًا على طلاب العلم وحملة الشريعة أن يتابعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دعوته ، ويخلفوه بخير في أمته ، ويجددوا ما اندثر من شريعته ، ويحيوا ما أميت من سنته ، ويصححوا عقائد هذا الدين مما علق بها ، ويردوا على المبطلين الذين يريدون تشويه دين الله بالأكاذيب المفتراة عليه وعلى مبلغيه في الماضي والحاضر ؛ يفعلون ذلك مخلصين لله ومتأسين بمبلغه الأول النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - امتثالاً لقوله تعالى : ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) . [ يوسف : 108 ] .
وإن حاجة الأمة إلى الدعوة إلى الله الخالصة المخلصة التي تصحح عقائدهم وتنقيها من الأكدار والشوائب ، وتحثهم على أداء ما يجب لله أو لخلقه واجتناب ما يحرم ، وتحذرهم من مغبة الفساد والإفساد ؛ كحاجتهم إلى نزول الغيث عند القحط والطعام الشهي عند الجوع والماء البارد عند العطش ، بل أشد لأن من فقد الطعام والشراب غايته الموت وربما يفضي به الموت إلى الجنة ، أما فقد الدين فهو يترتب عليه الخسران الأبدي الذي يفضي بالعبد إلى النار وبئس القرار ، وفرق بين الخسارتين .
الدعوة إلى الله فرض كفائي على طلبة العلم كل على قدر استطاعته ؛ فإن تركوه جميعًا أثموا ، وإن قام به البعض وجب على الباقين إعانته ، وإذا كان في الحي أو في القرية الواحد أو الإثنين من طلبة العلم وجب عليهم عينًا أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر في حيهم وبلدتهم امتثالاً لقوله تعالى : ( فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) . [ التوبة : 122 ] .
وليهنأ طلاب العلم الذين يدعون إلى الله مخلصين نهجهم أنهم خلفاء الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - في الدلالة على الله وعلى صراطه المستقيم ، والسعي في إصلاح المجتمعات ومنع الفساد ومحاربته بالنهي عنه والتحذير منه ومن مغبته الوخيمة ، فلهم الحظ الأوفر من إرثه - صلوات الله وسلامه عليه - . قال تعالى : ( فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ ) . [ هود : 116 ] .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( بلغوا عني ولو آية ، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ، ومن كذب علي متعمدًا ؛ فليتبوأ مقعده من النار ) .
وقال - أيضًا - : ( نضر الله امرءً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها ، فرُبّ مبلغ أوعى من سامع ، ورُب حامل فقه ليس بفقيه ) .
ثم إن الدعوة إلى الله ضمان للمجتمع الذي توجد فيه من العذاب العاجل والعقوبات العاجلة إذا أعطيت حقها ؛ فعلى الداعي الإخلاص والجدية في دعوته وعدم التواني فيها أو الخروج عن المضامين الدعوية بالقول والعمل بما تقتضيه ؛ فإن توانى الداعي أو ضَعُف وخار أو تبرم بالأذى أو استعجل النتائج لم تكن النتيجة على المطلوب ؛ بل ربما كانت عكسية فيستفحل الفساد ويسيطر المفسدون ، ويكون في ذلك إيذان بشر مستطير أو عذاب كبير ، وعلى هذا فلابد للداعية أن يكون مسلحًا بأمور نجملها في ما يلي :
- أولاً : العلم ؛ فمن شرط الداعية أن يكون عالمًا بما يدعوا إليه ، وقد أفادت هذا الشرط الآية الكريمة ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي ) . [ يوسف : 108 ] .
والبصيرة هي العلم بما يدعو إليه ؛ فإن دعا إلى التوحيد كان عالمًا بأنواعه ملمًا بما يناقضه من الشركيات صغيرها وكبيرها ، وإن دعا إلى الصلاة كان عالمًا بها وبشروطها وصفاتها وفرضها ونفلها وهلم جرا .
وإن عرض له شيء لا يعرفه توقف فيه حتى يعرفه بطلبه من مضانه في الكتب أو بعرضه على من هو أوسع منه علمًا بأن يقول لما لا يعلم : الله أعلم ، أو لا أدري.
سئل سالم بن عبد الله بن عمر ؛ فقال سالم : ( لا أدري . فقال السائل : إنه لعظيم قولك لا أدري ، وأنت ابن عبد الله بن عمر ؛ فقال سالم : أعظم من ذلك عند من يعقل عن الله أن أقول ما لا أعلم ) .
وسأل رجل القاسم بن محمد عن مسألة ؛ فقال القاسم : ( لا أحسن ؛ فجعل الرجل يقول : رفعت إليك لا أعرف أحد غيرك ، فقال القاسم : لا تنظر إلى طول لحيتي وكثرة الناس حولي ، والله لا أحسنه . فقال شيخ من قريش جالس في جنبه : إلزمها يا بني فوالله ما رأيتك في مجلس أنبل منك اليوم ؛ فقال القاسم : والله لأن تقطع لساني أحب الي من أن أتكلم بما لا علم لي به ) .
- ثانيًا : الحرص على الطلب وأخذ العلم من مظانه ، والبحث عنه والمذاكرة به ، وسؤال العلماء واستشارتهم فيما يشكل حتى ينشرح صدرك إلى القول الذي تراه أقرب الى الحق .
- ثالثًا : الحكمة في الدعوة ، وهي حسن التصرف ولباقة العرض وخفض الجناح ولين القول ، وقد أشارت إلى هذا الشرط الآية الكريمة . قال تعالى : ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ) . [ النحل : 125 ] .
- رابعًا : الرفق واللين في المخاطبة ولو كان المدعو جبارًا عاتيًا قال تعالى : ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ) الآية . [ آل عمران : 159 ] .
وقال لموسى وهارون - عليهما الصلاة والسلام - ( اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى . فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ) . [ طه : 43 - 44 ] .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ما كان الرفق في شيء إلا زانه ، وما نزع من شيء إلا شانه ) .
- خامسًا : الصبر ، قال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : ( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) . [ الأحقاف : 35 ] .
وقال - أيضًا - : ( فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ) . [ طه : 130 ] .
وقال تعالى : (( وَالْعَصْرِ . إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ . إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) . [ العصر ] .
فضيلة العلامة أحمد بن يحيى النجمي :
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ، ونستهديه ونستغفره ، ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل اله فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه - وبعد :
فإن الله خلق الخلق لعبادته فقال : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ . مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ . إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) . [ الذاريات : 56 - 58 ] .
ومن أجل بيان العبادة التي فرضها الله على عباده أرسل الله الرسل وأنزل الكتب لكي يعلم الناس ما يجب عليهم لربهم - جل وعلا - ، وليعلموا أن سعادتهم وشقاوتهم مرتبطة بالعبادة إيجابًا ونفيًا فعلاً وتركًا قال تعالى : ( يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ . وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) . [ الأعراف : 35 - 36 ] .
وخاتم الرسل وأفضلهم نبينا محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي أرسله الله إلى الناس كافة وخاطبه بقوله : ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) . [ الأعراف : 158 ] .
فأحيا الله به القلوب ، ونور به البصائر، وفتح به أعينا عميًا ، وآذانا صمًا ، وقلوبا غلفًا ، وأغنى الله به بعد العيلة وكثّر به بعد القلة ، وهداهم الله به إلى التوحيد والتوجه بالعبادة إلى بادئ هذا الكون بعد أن كانوا يسجدون للأحجار والأشجار ، ويدعون ما لا يسمع ولا يبصر ، ولم يقبضه الله حتى ترك أمته على محجة بيضاء بينة الصّوى واضحة المعالم ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك .
ولما كان لابد للناس مع طول الزمن من أن يصيبهم الجهل وتحيط بهم الغفلة وتكتنفهم الصوارف التي تصرفهم عن تعلم الدين أو عن العمل به ومتابعته ، وكان يستحيل أن يتفرغ الجميع لطلب العلم والتفقه فيه ؛ لذلك فقد فرض الله على هذه الأمة أن ينفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ؛ كما قال تعالى : ( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) . [ التوبة : 122 ] .
لذلك كان لزامًا على طلاب العلم وحملة الشريعة أن يتابعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دعوته ، ويخلفوه بخير في أمته ، ويجددوا ما اندثر من شريعته ، ويحيوا ما أميت من سنته ، ويصححوا عقائد هذا الدين مما علق بها ، ويردوا على المبطلين الذين يريدون تشويه دين الله بالأكاذيب المفتراة عليه وعلى مبلغيه في الماضي والحاضر ؛ يفعلون ذلك مخلصين لله ومتأسين بمبلغه الأول النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - امتثالاً لقوله تعالى : ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) . [ يوسف : 108 ] .
وإن حاجة الأمة إلى الدعوة إلى الله الخالصة المخلصة التي تصحح عقائدهم وتنقيها من الأكدار والشوائب ، وتحثهم على أداء ما يجب لله أو لخلقه واجتناب ما يحرم ، وتحذرهم من مغبة الفساد والإفساد ؛ كحاجتهم إلى نزول الغيث عند القحط والطعام الشهي عند الجوع والماء البارد عند العطش ، بل أشد لأن من فقد الطعام والشراب غايته الموت وربما يفضي به الموت إلى الجنة ، أما فقد الدين فهو يترتب عليه الخسران الأبدي الذي يفضي بالعبد إلى النار وبئس القرار ، وفرق بين الخسارتين .
الدعوة إلى الله فرض كفائي على طلبة العلم كل على قدر استطاعته ؛ فإن تركوه جميعًا أثموا ، وإن قام به البعض وجب على الباقين إعانته ، وإذا كان في الحي أو في القرية الواحد أو الإثنين من طلبة العلم وجب عليهم عينًا أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر في حيهم وبلدتهم امتثالاً لقوله تعالى : ( فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) . [ التوبة : 122 ] .
وليهنأ طلاب العلم الذين يدعون إلى الله مخلصين نهجهم أنهم خلفاء الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - في الدلالة على الله وعلى صراطه المستقيم ، والسعي في إصلاح المجتمعات ومنع الفساد ومحاربته بالنهي عنه والتحذير منه ومن مغبته الوخيمة ، فلهم الحظ الأوفر من إرثه - صلوات الله وسلامه عليه - . قال تعالى : ( فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ ) . [ هود : 116 ] .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( بلغوا عني ولو آية ، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ، ومن كذب علي متعمدًا ؛ فليتبوأ مقعده من النار ) .
وقال - أيضًا - : ( نضر الله امرءً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها ، فرُبّ مبلغ أوعى من سامع ، ورُب حامل فقه ليس بفقيه ) .
ثم إن الدعوة إلى الله ضمان للمجتمع الذي توجد فيه من العذاب العاجل والعقوبات العاجلة إذا أعطيت حقها ؛ فعلى الداعي الإخلاص والجدية في دعوته وعدم التواني فيها أو الخروج عن المضامين الدعوية بالقول والعمل بما تقتضيه ؛ فإن توانى الداعي أو ضَعُف وخار أو تبرم بالأذى أو استعجل النتائج لم تكن النتيجة على المطلوب ؛ بل ربما كانت عكسية فيستفحل الفساد ويسيطر المفسدون ، ويكون في ذلك إيذان بشر مستطير أو عذاب كبير ، وعلى هذا فلابد للداعية أن يكون مسلحًا بأمور نجملها في ما يلي :
- أولاً : العلم ؛ فمن شرط الداعية أن يكون عالمًا بما يدعوا إليه ، وقد أفادت هذا الشرط الآية الكريمة ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي ) . [ يوسف : 108 ] .
والبصيرة هي العلم بما يدعو إليه ؛ فإن دعا إلى التوحيد كان عالمًا بأنواعه ملمًا بما يناقضه من الشركيات صغيرها وكبيرها ، وإن دعا إلى الصلاة كان عالمًا بها وبشروطها وصفاتها وفرضها ونفلها وهلم جرا .
وإن عرض له شيء لا يعرفه توقف فيه حتى يعرفه بطلبه من مضانه في الكتب أو بعرضه على من هو أوسع منه علمًا بأن يقول لما لا يعلم : الله أعلم ، أو لا أدري.
سئل سالم بن عبد الله بن عمر ؛ فقال سالم : ( لا أدري . فقال السائل : إنه لعظيم قولك لا أدري ، وأنت ابن عبد الله بن عمر ؛ فقال سالم : أعظم من ذلك عند من يعقل عن الله أن أقول ما لا أعلم ) .
وسأل رجل القاسم بن محمد عن مسألة ؛ فقال القاسم : ( لا أحسن ؛ فجعل الرجل يقول : رفعت إليك لا أعرف أحد غيرك ، فقال القاسم : لا تنظر إلى طول لحيتي وكثرة الناس حولي ، والله لا أحسنه . فقال شيخ من قريش جالس في جنبه : إلزمها يا بني فوالله ما رأيتك في مجلس أنبل منك اليوم ؛ فقال القاسم : والله لأن تقطع لساني أحب الي من أن أتكلم بما لا علم لي به ) .
- ثانيًا : الحرص على الطلب وأخذ العلم من مظانه ، والبحث عنه والمذاكرة به ، وسؤال العلماء واستشارتهم فيما يشكل حتى ينشرح صدرك إلى القول الذي تراه أقرب الى الحق .
- ثالثًا : الحكمة في الدعوة ، وهي حسن التصرف ولباقة العرض وخفض الجناح ولين القول ، وقد أشارت إلى هذا الشرط الآية الكريمة . قال تعالى : ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ) . [ النحل : 125 ] .
- رابعًا : الرفق واللين في المخاطبة ولو كان المدعو جبارًا عاتيًا قال تعالى : ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ) الآية . [ آل عمران : 159 ] .
وقال لموسى وهارون - عليهما الصلاة والسلام - ( اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى . فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ) . [ طه : 43 - 44 ] .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ما كان الرفق في شيء إلا زانه ، وما نزع من شيء إلا شانه ) .
- خامسًا : الصبر ، قال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : ( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) . [ الأحقاف : 35 ] .
وقال - أيضًا - : ( فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ) . [ طه : 130 ] .
وقال تعالى : (( وَالْعَصْرِ . إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ . إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) . [ العصر ] .
تعليق