مقالات حول المنبر الحسيني
للمرحوم الشيخ الدكتور أحمد الوائلي *

من كتابه
" تجاربي مع المنبر"
أهمّ الأهداف من وجود المنبر
إنّ كلّ فكر وكلّ مضمون لابدّ من التعبير عنه وإلاّ بقي حبيس وعائه على اختلاف في الوعاء ، والكتاب العزيز يقرّر ذلك بقوله تعالى : ( خلق الإنسان علّمه البيان )(1) ، والمضمون الإسلامي كباقي المضامين لابدّ له من معبّر عنه ، والجهات المتصورة المنوط بها التعبير عنه قسمان : خاصة وعامة ; فالخاصة مثل هيئات التدريس تفرغ ما في الكتاب في الأوعية الذهنية وهي مقصورة على طبقة خاصة ، أمّا العامّة فهي المنبر أو المذياع والمذياع غالباً لا يتمخض لذلك ولا يتخصص ، فلم يبقى إلاّ المنبر الفاضل الذي ينطق عن علم وثقافة ويعالج بحكمة وسداد ، فالمنبر إذاً القناة التي نريد منها حمل المضمون الإسلامي للأجيال التي إذا وضعناها في أجواء الإسلام حقّقنا الأمور التالية :
1 ـ عملنا على الكشف عن المثل العليا التي يتوقّ لها الضمير العام والنزوع الفردي بالإضافة للكشف عن المثل الأعلى : إيمان الفرد بحضارة أمّته وأنّها غنيّة يعتزّ بها .
2 ـ أنّ الموائد الفكريّة تتصارع وتتزاحم لتأخذ جياع الفكر والعقائد إلى ما عندها ، فلو تركت الساحة خالية من مائدة مسلمة فمعنى ذلك ترك الساحة خالية لعطاء الإنسان وأين عطاء الإنسان من عطاء السماء من كلّ الجوانب . والله تبارك وتعالى قد وضع المسلمين وجهاً لوجه أمام الرسالة ليقوموا بإبلاغها ولينهضوا بعبئها قال تعالى : ( وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) ـ البقرة 143 ـ فإذا تخلّفوا عن ذلك كانوا أمام المسؤولية وخلعوا لباساً كرّمهم الله تعالى بارتدائه .
3 ـ إذا استبدّت المضامين غير الإسلاميّة بالفرد فمعنى ذلك أنّنا لا نجد إلاّ الإنسان المادي الصرف الذي يحوّل الحياة إلى جسد يصارع لإشباع رغباته وتستأثر به قوى الحيوان بحيث تنعدم آثار الروح وبصمات الأخلاق وينعكس ذلك على كافة أبعاد الحياة فلا نجد الإنسان وإنّما نجد الوحش في كلّ مكان ولا نجد الدفىء الإنساني وإنّما المصالح لغلظتها وجفافها .
والمطلوب من المنبر ...
(اولا) أن يكون من المنابع التي تهيّىء الجوانب الإنسانيّة والخلقيّة أو قلّ أن يساهم في صنع العيش الكريم .
(الهدف الثاني) العمل على الإفراج عن الفكر المحاصر وهو فكر آل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)ويعزّ عليّ أن أصرّح بهذه الحقيقة المرّة . إنّ المنابر الإسلامية غير الشيعية لا مكان في مساحتها الواسعة لآل محمّد ـ عدى استطراد يسير قد يكون صدفة ـ وأسباب ذلك ليست بخافية على الباحث المطلّع على تاريخنا وتراثنا ، وقد حوصر هذا الفكر بأمر مراكز الحكم وظلّ على ذلك بقوّة الإستمرار وبفعل عوامل إضافية ـ وليس هذا الموضع مكان الإفاضة في شرح ذلك فله أمكنته الكثيرة التي تكفّلت بشرحه ، إنّما أردت أن أقول أنّ المنبر من أهمّ أهدافه أن يطلق سراح هذا الفكر ويدحض الشبهات التي أثيرت زوراً حوله ويجلوه من مصادره الموثوقة وفي وعائه المحدد بعيداً عن التزيد خالياً من الضمائم . وفي ذلك فتح الباب وتظافرت القوى على إغلاقه وتيسير الحصول على طعام يعتبر في عداد المخدرات وينبري حتى الهاشميون من أبناء العم لسجنه فيمنع العباسيون حملة العلم من أن يذكروا رأيا لعليّ بن أبي طالب (عليه السلام) في مسألة من المسائل أو فضيلة من الفضائل كما فعل أبو معشر السندي المؤرخ ومفتي بلاط المهدي العباسي ، فلم يذكر قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (لا يبلغ عنّي إلاّ أنا أو رجل من أهلي) ومنع الرشيد أن يفتي برأي لعلي (عليه السلام) أنظر تاريخ الطبري ج3 ص123 ، والأغاني : أخبار خالد القسري .
فمن مهمّات المنبر الحسيني إذاً الأساسية تقديم هذا النبع الأصيل للعاطشين والعمل على ترويض وعي الآخرين لقبول هذا المحتوى عن طريق العرض الملائم والأسلوب الواعي المهذّب وحسن الإختيار والإبتعاد عمّا لا يلتقي والضوابط الإسلامية الصحيحة لا المفتعلة والتأكد أولاً من صحة ما يروى عنهم وثانياً الإبتعاد عن خلع الذات ومسبقاتها على النص ، وثالثاً التنبّه إلى التناسب بين ما يلقى ومن يُلقي عليهم بعيداً عن الأجواء التي نهى عنها أهل البيت ـ في تفصيل طويل ـ وقد قال الإمام زين العابدين (عليه السلام)فيما يروى عنه : (أحبّونا حبّ الإسلام) الخ(2) .
(الهدف الثالث) الإبقاء على جذوة الشهادة مشتعلة في كيان الأمّة فإنّ من خواص الشهادة أن تبقى وهجاً لا ينطفىء وتلك حقيقة يقرّرها القرآن الكريم بقوله تعالى : ( ولا تقولنّ لمن يقتل في سبيل الله أمواتاً بل أحياء ولكن لاتشعرون ).
ومن أجل هذا دأبت الأمم على إحياء ذكر شهدائها لأنّها ترى في ذلك وسيلة لبقاء الأمّة الحيّة ، فالأمّة التي تداس بأرجل الطغاة وتخلّد إلى الدعة والهوان فهي أمّة ميتة رغم أنّها تتحرّك وتمشي فليست الحياة بالحركة والمشي ولو إلى مستنقع الذلّ ورحم الله بعض أدبائنا الذي يقول :
نحن موتى وشرّ ما ابتدع الطغيان***موتى على الدروب تسير
إذاً فاستعراض سيرة الشهداء وتاريخهم لا يحقّق إطفاء غلّة اللوعة بقدر ما يضخّ من الخلايا الحيّة لئلاّ تضمر وتموت أوصال الأمة . إنّ نسيان الشهادة هو الموت بعينه لأنّ لا سلاح أفعل من الشهادة في الذود عن كيان الأمّة وإلاّ غزيت في عقر دارها وكما يقول سيد المجاهدين بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : (ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلاّ ذلّوا) ولابدّ من الإشارة هنا إلى الحذر من تحوّل الذكرى إلى مخدر يحوّل الأمة إلى مجرد صدى يردّد ذكر أبطاله ويكتفي من البطولة بذكر البطولة فقط ويذوب عنده معنى الإقتداء ، وانطلاقاً من هذا فالمنبر من أهمّ أهدافه أن يظلّ مولداً للشحن تحتاجه الأجيال باستمرار كظاهرة صحية تدلّ على تحرّك الوعي باتّجاه الحياة الكريمة عن طريق الشهادة لا الموت الذليل .
لا حياة ترتجى في أمّة***كثرت موتى وقلّت شهداءا
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الرحمن 4 .
(2) الإمام زين العابدين للمقرم .
*منقول
للمرحوم الشيخ الدكتور أحمد الوائلي *

من كتابه
" تجاربي مع المنبر"
أهمّ الأهداف من وجود المنبر
إنّ كلّ فكر وكلّ مضمون لابدّ من التعبير عنه وإلاّ بقي حبيس وعائه على اختلاف في الوعاء ، والكتاب العزيز يقرّر ذلك بقوله تعالى : ( خلق الإنسان علّمه البيان )(1) ، والمضمون الإسلامي كباقي المضامين لابدّ له من معبّر عنه ، والجهات المتصورة المنوط بها التعبير عنه قسمان : خاصة وعامة ; فالخاصة مثل هيئات التدريس تفرغ ما في الكتاب في الأوعية الذهنية وهي مقصورة على طبقة خاصة ، أمّا العامّة فهي المنبر أو المذياع والمذياع غالباً لا يتمخض لذلك ولا يتخصص ، فلم يبقى إلاّ المنبر الفاضل الذي ينطق عن علم وثقافة ويعالج بحكمة وسداد ، فالمنبر إذاً القناة التي نريد منها حمل المضمون الإسلامي للأجيال التي إذا وضعناها في أجواء الإسلام حقّقنا الأمور التالية :
1 ـ عملنا على الكشف عن المثل العليا التي يتوقّ لها الضمير العام والنزوع الفردي بالإضافة للكشف عن المثل الأعلى : إيمان الفرد بحضارة أمّته وأنّها غنيّة يعتزّ بها .
2 ـ أنّ الموائد الفكريّة تتصارع وتتزاحم لتأخذ جياع الفكر والعقائد إلى ما عندها ، فلو تركت الساحة خالية من مائدة مسلمة فمعنى ذلك ترك الساحة خالية لعطاء الإنسان وأين عطاء الإنسان من عطاء السماء من كلّ الجوانب . والله تبارك وتعالى قد وضع المسلمين وجهاً لوجه أمام الرسالة ليقوموا بإبلاغها ولينهضوا بعبئها قال تعالى : ( وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) ـ البقرة 143 ـ فإذا تخلّفوا عن ذلك كانوا أمام المسؤولية وخلعوا لباساً كرّمهم الله تعالى بارتدائه .
3 ـ إذا استبدّت المضامين غير الإسلاميّة بالفرد فمعنى ذلك أنّنا لا نجد إلاّ الإنسان المادي الصرف الذي يحوّل الحياة إلى جسد يصارع لإشباع رغباته وتستأثر به قوى الحيوان بحيث تنعدم آثار الروح وبصمات الأخلاق وينعكس ذلك على كافة أبعاد الحياة فلا نجد الإنسان وإنّما نجد الوحش في كلّ مكان ولا نجد الدفىء الإنساني وإنّما المصالح لغلظتها وجفافها .
والمطلوب من المنبر ...
(اولا) أن يكون من المنابع التي تهيّىء الجوانب الإنسانيّة والخلقيّة أو قلّ أن يساهم في صنع العيش الكريم .
(الهدف الثاني) العمل على الإفراج عن الفكر المحاصر وهو فكر آل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)ويعزّ عليّ أن أصرّح بهذه الحقيقة المرّة . إنّ المنابر الإسلامية غير الشيعية لا مكان في مساحتها الواسعة لآل محمّد ـ عدى استطراد يسير قد يكون صدفة ـ وأسباب ذلك ليست بخافية على الباحث المطلّع على تاريخنا وتراثنا ، وقد حوصر هذا الفكر بأمر مراكز الحكم وظلّ على ذلك بقوّة الإستمرار وبفعل عوامل إضافية ـ وليس هذا الموضع مكان الإفاضة في شرح ذلك فله أمكنته الكثيرة التي تكفّلت بشرحه ، إنّما أردت أن أقول أنّ المنبر من أهمّ أهدافه أن يطلق سراح هذا الفكر ويدحض الشبهات التي أثيرت زوراً حوله ويجلوه من مصادره الموثوقة وفي وعائه المحدد بعيداً عن التزيد خالياً من الضمائم . وفي ذلك فتح الباب وتظافرت القوى على إغلاقه وتيسير الحصول على طعام يعتبر في عداد المخدرات وينبري حتى الهاشميون من أبناء العم لسجنه فيمنع العباسيون حملة العلم من أن يذكروا رأيا لعليّ بن أبي طالب (عليه السلام) في مسألة من المسائل أو فضيلة من الفضائل كما فعل أبو معشر السندي المؤرخ ومفتي بلاط المهدي العباسي ، فلم يذكر قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (لا يبلغ عنّي إلاّ أنا أو رجل من أهلي) ومنع الرشيد أن يفتي برأي لعلي (عليه السلام) أنظر تاريخ الطبري ج3 ص123 ، والأغاني : أخبار خالد القسري .
فمن مهمّات المنبر الحسيني إذاً الأساسية تقديم هذا النبع الأصيل للعاطشين والعمل على ترويض وعي الآخرين لقبول هذا المحتوى عن طريق العرض الملائم والأسلوب الواعي المهذّب وحسن الإختيار والإبتعاد عمّا لا يلتقي والضوابط الإسلامية الصحيحة لا المفتعلة والتأكد أولاً من صحة ما يروى عنهم وثانياً الإبتعاد عن خلع الذات ومسبقاتها على النص ، وثالثاً التنبّه إلى التناسب بين ما يلقى ومن يُلقي عليهم بعيداً عن الأجواء التي نهى عنها أهل البيت ـ في تفصيل طويل ـ وقد قال الإمام زين العابدين (عليه السلام)فيما يروى عنه : (أحبّونا حبّ الإسلام) الخ(2) .
(الهدف الثالث) الإبقاء على جذوة الشهادة مشتعلة في كيان الأمّة فإنّ من خواص الشهادة أن تبقى وهجاً لا ينطفىء وتلك حقيقة يقرّرها القرآن الكريم بقوله تعالى : ( ولا تقولنّ لمن يقتل في سبيل الله أمواتاً بل أحياء ولكن لاتشعرون ).
ومن أجل هذا دأبت الأمم على إحياء ذكر شهدائها لأنّها ترى في ذلك وسيلة لبقاء الأمّة الحيّة ، فالأمّة التي تداس بأرجل الطغاة وتخلّد إلى الدعة والهوان فهي أمّة ميتة رغم أنّها تتحرّك وتمشي فليست الحياة بالحركة والمشي ولو إلى مستنقع الذلّ ورحم الله بعض أدبائنا الذي يقول :
نحن موتى وشرّ ما ابتدع الطغيان***موتى على الدروب تسير
إذاً فاستعراض سيرة الشهداء وتاريخهم لا يحقّق إطفاء غلّة اللوعة بقدر ما يضخّ من الخلايا الحيّة لئلاّ تضمر وتموت أوصال الأمة . إنّ نسيان الشهادة هو الموت بعينه لأنّ لا سلاح أفعل من الشهادة في الذود عن كيان الأمّة وإلاّ غزيت في عقر دارها وكما يقول سيد المجاهدين بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : (ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلاّ ذلّوا) ولابدّ من الإشارة هنا إلى الحذر من تحوّل الذكرى إلى مخدر يحوّل الأمة إلى مجرد صدى يردّد ذكر أبطاله ويكتفي من البطولة بذكر البطولة فقط ويذوب عنده معنى الإقتداء ، وانطلاقاً من هذا فالمنبر من أهمّ أهدافه أن يظلّ مولداً للشحن تحتاجه الأجيال باستمرار كظاهرة صحية تدلّ على تحرّك الوعي باتّجاه الحياة الكريمة عن طريق الشهادة لا الموت الذليل .
لا حياة ترتجى في أمّة***كثرت موتى وقلّت شهداءا
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الرحمن 4 .
(2) الإمام زين العابدين للمقرم .
*منقول
تعليق