








المعبد القائم في اخر العالم

يقوم معبد فيلة علي جزيرة و لكن لم يعد قائما علي جزيرة فيلة الان كما كان سابقا ..فحين بني السد العالي في ستينيات القرن الماضي بفضل جهود رجال مثل حراجي الجط ارتفع منسوب المياه خلف خزان اسوان و كاد المركز القديم لعبادة ايزيس ان يغوص تحت الماء.
و لا يعني هذا ان المشاكل بدات في ذلك الوقت فالخزان القديم كان قد اوصل منسوب الماء الي مفصل قدم المعبد فحين بني خزان اسوان ما بين عامي 1898 و 1902 كون خلف السد بحيرة طولها 150 كيلو مترا و قد ادت الاحتجاجات من عدة جهات ذات نفوذ الي اجبار السلطات البريطانية انذاك (التي كانت تحتل مصر في هذا العهد) ان توقف العمل في المشروع قبل ان يبلغ منسوب المياه اعلي مستوي و ذلك للحفاظ علي معبد فيلة المقدس و قد علق ونستون تشرشل علي هذا التنازل بتشككه الساخر المعتاد اذ قال: "ان تقديم 150 مليون قدم مكعب من الماء قربانا لحتحور من حكماء الغرب لهو اكثر الاضاحي في التاريخ قسوة و شرا و غفلة فعلي الدولة المصرية ان تعاني و يتضور الشعب جوعا و ذلك لكي يسعد الاساتذة و يجد السياح شيئا يحفرون عليه اسمائهم"

و في النهاية تغلب راي تشرشل و تم تكملة السد و ارتفع منسوب المياه و اصبح معبد ايزيس الذي كان يقوم يوما ما امنا فوق شلال النيل الاول صار يفيض عليه الماء كل عام من ديسمبر الي مارس و لا يستطيع حينها احد زيارته الا في قارب بمجاديف عبر كشك تراجان حتي باحته المركزية ...لكن ذلك التاثير لم يكن سلبيا من كافة النواحي حيث حمي احجار المعبد من نحت و تعرية رمال الصحراء
الا ان السد العالي كان شيئا اخر تماما و حين ظهر جليا ان الجزيرة تتعرض لخطر الغرق تصاعد نداء دولي بانقاذها مع اثار اخري لا تقدر بثمن من الموت غرقا و بمساعدة اليونسكو بدات اخيرا مهمة انقاذ و لكن قبل ان يصل الماء لعمق اقدام ايزيس و تم فك المعبد بجهود شاقة و مخلصة ثم اعيد تجميعه علي جزيرة اجليكا علي بعد 500 متر من مأواه القديم و هي مهمة اشتملت علي نقل 40 الف حجر يزن الواحد منها 20 الف طن

و جزيرة فيلة ليست معبد واحدا بل عدة معابد فبالاضافة الي ضريح ايزيس هناك ايضا معابد لحتحور الذي يمثل بعض صفات حورس و ارنسنوبيس صاحبة ايزيس الطيبة و هناك معبد صغير لامحتب مهندس زوسر المعماري الذي صار لاحقا اول رجل من عامة المصريين يرفع الي مقام الالهة



ظاهرة فلكية جديدة لفتت انظار رجال الاثار في مصر فقد اتضح ان الشمس تشرق و تغرب علي وجه ابي الهول يومي 21 مارس و 21 سبتمبر من كل عام و ذلك علي غرار تعامد الشمس علي وجه رمسيس الثاني في معبد ابي سمبل يومي عيد ميلاده و تتويجه علي العرش في 22 فبراير و 23 اكتوبر
و يقول علماء الاثار ان اسباب هذه الظاهرة غير معروفة حتي الان ...و لكنها تثبت خطا نظرية علماء الاثار عندما اكدوا ان تمثال ابي الهول نحته الفنان المصري القديم عندما وجد صخرة ضخمة بالمصادفة فحولها الي تمثال لتجميل المنطقة بين هرمي خوفو و خفرع!!

و تجيء الظاهرة الفلكية الجديدة لتؤكد وجود سبب فلكي و ديني لنحت التمثال في هذا الموقع تحديدا و ان ابا الهول كان الها للشمس يشرق و يغرب بين افقي خوفو و خفرع ...و هذه الظاهرة الجديدة مثيرة و تستحق المزيد من الدراسة ... و تؤكد التفوق العلمي الهائل للمصري القديم. و اخذت اصوات تتعالي مطالبة بتنظيم احتفال سياحي كبير امام ابي الهول لمشاهدة شروق الشمس علي وجهه يومي 21 مارس و 21 سبتمبر من كل عام
ابو الهول عجيبة من العجائب التي خلفها الدهر علي ارض مصر ...اثار دهشة الناس في العالم القديم ..و الحديث .. ففي القديم كان مهبطا لوحي الخيال الخصب و معينا فياضا للقصص و الاساطير فهو ما يزال في تصور كثير من الناس لغز الدهر و سره الغامض ...راه الاغريق فافتتنوا به و الصقوا به اسما لا يتصل به من قريب او بعيد

فهذا الاسم سفنكس ما هو الا اسم لماردة معروفة في الاساطير الاغريقية تتمثل في هيئة كائن نصفه الاعلي نصف امراة و نصفه الاسفل نصف سبع لذلك اطلق الاغريق علي ابي الهول هذا الاسم للتشابه بينه و بين الماردة الاغريقية في التكوين
اما ابو الهول فقد كان اسمه ((شبس عنخ)) اي ((مانح الحياة)) و الواقع ان ذلك الاسم الاغريقي قد البس تمثال ابي الهول ثوبا حالكا من الغموض ...و ما زال التمثال حتي يومنا هذا محاطا بسياج من السر الرهيب
و قد استطاع الفنان المصري القديم ان يخرج ذلك الاثر البديع الذي يمثل هيبة الفرعون و جلاله و دعوني اقول ان القدم و العظمة و جمال الفن قد اجتمعت كلها في ذلك الاثر الخالد ...اذ اجتمع كل اولئك في شيء واحد كان من شانه ان يؤثر في نفوس الناس و ان يهز عواطفهم و ان يجد في قلوبهم اكرم منزلة و ارفع مكانة ...فما كاد الزمن يصل بالناس الي ايام الاسرة الثامنة عشر حتي بدا التاريخ يسجل اقبال الناس علي ذلك الاثر الخالد يقدسونه و يتخيلون فيه رمز الاله الشمس المعروف ((حور صاحب الافق ))

و علي احد اصابع مخلبي ابي الهول كتب شخص باللغة اليونانية
(فقد هلكوا ايضا..
و هذه الجدران في طيبة بنتها الحوريات
و لكن جداري لا يخشي الحروب
انه لا يعرف التعرض لهجمات الحرب او يعرف الانتحاب
انها تجد مسرتها دائما في الاعياد و الموائد
و في الغناء الجماعي للشباب الذين ياتون من كل مكانط
اننا نسمع نغمات الناي لا نفير الحروب
و الدم الذي يروي الارض انما هو دم ثيران الاضاحي
و ليس من اعناق الرجال
ان ما نتزين به هو ثيلب الاعياد لا اسلحة الحرب
و لا نحمل في ايدينا السيف
و لكن كاس الاخوة
و خلال ساعات الليل كلها
عندما تشتعل القرابين
نغني الاناشيد للاله حورماخيس (ابي الهول)
و نزين رؤسنا باكاليل الزهور




كلمة العدد
المصريون و حرفة الخلود

الانبهار هو اول طابع يصيبك عندما تشاهد اثار مصر القديمة ...فانت تقف مذهول النظر عندما تري وادي الملوك و ما يحويه من معابد شامخات .... و ما زال البعض منا يعتقد ان اهرامات الجيزة ان هي الا مقابر لملوك الاسرة الثالثة ....هذه نظرتنا لاثار قدماء المصريين ...انها تخلد موتاهم
الناظر الي القاهرة القديمة ...يري المساجد العظيمة تزين افق السماء ...عندها سوف يتيقن الناظر ان هذه المساجد تحفظ للقاهرة القديمة اركانها و تصون افقها ....و لكنه لن ينسي ان هذه المساجد ان هي الا مقابر عظيمة هي الاخري!!!؟؟؟... لا تجعل قولي هذا يصدمك و لكن تابع معي برحابة صدر....
لانك عندما تطالع تاريخ السلاطين المماليك العظام سوف يلفت نظرك ان السطور الاولي التي يوردها المؤرخ و يسجل منها اول ما قام به السلطان من اعمال ...انه شرع في بناء مسجد و في هذا المسجد يقيم مقبرة له
و قد ينهج السلطان طرقا بعيدة كل البعد عن شريعتنا الغراء في اقامة مسجده مثلما فعل السلطان مؤيد شيخ الحموي الذي سخر العمال و انتزع املاك الناس ليضمها الي ساحة مسجده ثم قام بنقل بوابة السلطان حسن ليضعها علي مسجده و ما تزال باقية حتي الان
اما السلطان الغوري فقد بلغ به الجور مبلغه فاستولي علي اموال الناس و فك الواح الرخام من البيوت ليضعها في مسجده و قبته العظيمة التي بناها ليدفن فيها و لكنه قتل في موقعة مرج دابق علي يد العثمانيين و لم يعثر له علي جثة حتي الان ... تماما كالسلطان حسن الذي لم يدفن في مدرسته الهائلة العظيمة
و يسجل ابن اياس في كتابه بدائع الزهور في وقائع الدهور تفاصيل ما قام به السلطان الغوري في سلب اموال الناس لبناء مسجده حتي تندر المصرييون فسموه (المسجد الحرام)) ....لاحظ هذه السخرية الضاربة في القدم و التي تميز شخصية هذا الشعب علي مر عصوره ...و دقها كالوشم في راسك
اقول كان ما يحرك هؤلاء السلاطين و الحكام ذلك المضمون المصري القديم المعني بالخلود ... بالبقاء بعد الموت ...لم يكن الامر مقصورا علي سلاطين المماليك فقط و قدماء المصريين ... و لكن في العصر الحديث ايضا فها هو سعد زغلول دفن في مقبرة مهيبة كانت مخصصة لدفن المومياوات الفرعونية ...و بعد وفاة جمال عبدالناصر اتضح انه كان مساهما في جمعية تتوالي الاشراف علي بناء مسجد ضخم في كوبري القبة ...و فيه يرقد الان ...اما السادات فقد كان يخطط لبناء مقبرة ضخمة في قريته ميت ابو القوم ..و لكن القدر لم يمهله
غير ان علاقة الشعب بمكانة الذين سعوا للخلود بهذه العمائر الضخمة معقدة للغاية ... و ربما كان مسجد الرفاعي هائل المعمار القائم في مواجهة القلعة ابلغ دليل علي ذلك...لقد شيد هذا المسجد بواسطة الاميرة خوشيار هانم والدة خديوي مصر و انفقت عليه اموالا جمة حتي يجييء محاكيا و مواجها لمدرسة السلطان حسن .. و لقد دفن في هذا المسجد الخديوي اسماعيل و الخديوي توفيق و الملك فاروق و عدد اخر من ملوك اسرة محمد علي ...كما دفن فيه مؤخرا شاه ايران

مقبرة الملك فاروق بداخل مسجد الرفاعي

مقبرة شاه ايران بداخل مسجد الرفاعي
و مع ذلك فانك لن تلقي فردا واحدا من الشعب بكل فئاته و انتمائاته يمضي ليشعل شمعة واحدة فوق اضرحتهم او يتصدق علي ارواحهم او يتوقف حتي ليقرا الفاتحة علي ارواحهم...ابدا ... انما يقف الجميع و يا لا الذهول عند قبر متواضع لا تكاد تلحظه لرجل فقير يقع في مدخل المسجد و بعد اجتياز المدخل الشاهق الارتفاع ...انه سيدي احمد الرفاعي الذي نسب المسجد كله اليه ...و هو ليس الرفاعي المتصوف المشهور و شيخ الطريقة المعروفة فهذا الاخير ضريحه في بغداد ....اما هذا الذي نتحدث عنه فهو مجرد رجل فقير درويش ...لا نعرف له نسب...او اصل ...كان بلا ماوي ..اتخذ له مكانا بالقرب من المسجد الهائل الذي بنته الاميرة ..و عتقد فيه الناس و قصدوه للتبرك به ..و عندما مات دفن في المسجد الكبير ...و ربما وافق اصحابه بقصد البركة ايضا...

قبر سيدي الرفاعي
اقول شيئا فشيئا اصبح ضريح الرجل الفقير هو المركز و الملجا و الملاذ ...هو الذي يقف امامه الناس لقراءة الفاتحة و هو الذي يحتفلون بمولده كل عام ....و اصبح له مريدين و طريقة و اتباع و سدنة!!!... و رويدا رويدا نسي الناس مسجد الاميرة ليصبح مسجد سيدي الرفاعي ...فكأن مسعي خوشيار هانم ذهب ادراج الرياح و كانها لم تبن المسجد الا ليكون تابعا لهذا الفقير المجهول ....سبحان الله
و لنقس علي ذلك كل الاضرحة الفخمة و العمائر الضخمة التي بناها الحكام لانفسهم في القاهرة و غيرها من مدن مصر العامرة ....لن تجد الشعب يحتفل بمولد الامير قوصون او الامير شيخون العمري او سعيد السعداء و لا حتي الظاهر بيبرس الذي حولته المخيلة الشعبية الي بطل ملحمي ....و لكنك ستجد الموالد تقام و الاحتفلات تذهب و السعي يتم في اتجاه نفر من الفقراء الصالحين الذين ارتبط الناس بهم ...و خلد ذكرهم
اريد اي منكم ان يذهب ذات مساء الي حواري الجمالية و ازقتها ليري بنفسه شمعات صغار يهتز لهيب زبالاتها الواهية فوق ضريح بسيط يعلوه غطاء اخضر مهلل مليء بالرقع ...و لا تجعل الدموع تنساب من عينك فانك لست في حضرة ولي او علامة او شيخ كبير القدر ...بل انت في حضرة قبر لمجهول قدره الناس علي مر الزمن فاصبح اشهر عندهم من الامير او الملك او الوزير او الرئيس
انه يا سادة الضمير الجماعي الحي ...المتصل ...و الذاكرة التاريخية الشعبية التي لا تنسي و التي تعرف و تميز و تصنف و تعرف الجبابرة و الطغاة من اولياء الله
انه الشعب الذي يخلد من يحب رغم انف الجميع
و لتكن عبرة للجميع
اليس لهذا يكتب التاريخ


تعليق