السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مع هذا الصباح ابدا يومي بمقال يحتوي قصه رائعه
الهدوء الذي (يلحق) العاصفة !
يبدو أنه لا حدود لنشوة البدايات وأحلامها، وحماقاتها وأخطائها. في هذه المرحلة من العمر يتطلع المرء إلى أن يجرب كل شيء: الرسم، التمثيل، الموسيقى، الرياضة، الكتابة بكل أشكالها. ومع التقدم في السن تتضح الميول والمواهب، ويتعرف المرء على قدراته بشكل أوضح. يلم شتات تطلعاته ليصب اهتمامه في مجال واحد أو اثنين. قد لا تجد بعض المواهب متنفسا، فتذبل وتذوي ثم تموت، وقد يقاوم بعضها فيشق طريقه كنبتة برية.
لكن ما يميز مراحل العمر الأولى هو تلك الرغبة المتقدة في تغيير العالم وإصلاح حال الكون، عبر أحلام وتصورات قد لا تؤسس على رؤية واضحة. فهي أقرب إلى الاندفاع الطفولي وراء كل ما يداعب العاطفة ولا يخاطب العقل. ولا بد من التمييز، هنا، بين طفولتين: الطفولة الفنية الحافلة بالأسئلة والدهشة اللازمة لكل فنان، والطفولة بمعنى توقف النمو العقلي عند مرحلة مبكرة من مراحل العمر. فإذا تجاوزنا الحديث عن الأفراد إلى الحديث عن المجتمعات، فلا بد من التمييز بين نموَّين: النمو المادي الذي تهيؤه الثروة، والمتمثل في استهلاك أحدث ما أنتجته تقنية هذا العصر، والنمو الثقافي وما يتمخض عنه من وعي لا يشترى بالمال.
في مسرحية (هذا الجيل المحظوظ) لمؤلفها نويل كاورد لقطة تعبر عن ذلك الاندفاع الجارف لأحد شخوص هذه المسرحية. تتحدث إيثيل مع زوجها فرانك عن صديق لابنهما يدعى سام فتقول: «ذلك الشاب سام لا يعجبني كثيرا.. أنت تعرف ما أعني، كل تلك الكلمات الكبيرة الرنانة، سيجلب على نفسه المتاعب في يوم ما، صدقني!» فيجيب الزوج قائلا: «سينضج وينسى كل هذا. إنني أذكر كيف كنت وأنا في عمره، أكاد أدق عنقي وأنا أحاول أن أنتصر على الجميع». فترد إيثيل قائلة: «لكن ليس مثله.. ثم كل هذا الكلام عن ثورة عالمية، ويوم النصر العظيم، وتحطيم كل شيء.. كنت أنت أعقل من هذا»! بعد مرور عقد واحد على هذا الكلام (1925 _ 1936) يتحول سام الثائر المتمرد الذي يريد تغيير العالم بالخطب الرنانة إلى رب أسرة تقليدي يدار ب (ريموت كونترول المَدَام)، بعد أن أصبح صهرا للبرجوازية (ممثلة في فرانك وزوجته).
وقد كان قبل ذلك يشن على نمط العيش البرجوازي أشرس هجماته. صار سام يحرص على العودة إلى البيت عند الساعة العاشرة والنصف مساء. وبدأ قاموسه الفكري والسياسي يتشكل بطريقة مختلفة. وذلك هو الهدوء الذي (يلحق) العاصفة!
ويبدو أن الأمم كالأفراد تقول كلاما كبيرا صاخبا عاطفيا عنيفا قبل أن تنضج.. لافتات كبيرة وصخب، وعنف ينقصه المنطق. وعمى ألوان، وانغلاق على الذات. ذلك أن العقل كما يرى سير جيمس ديوار «مثل المظلة تقوم بعملها، فقط، عندما تنفتح». وفي مراحل الطفولة الفكرية تلك أرادت بعض الأصوات أن «تعلق الجرس» فتخاطب العقل والمنطق، وأن تنظر إلى الواقع نظرة قادرة على الفرز والتمييز، لكن من يجرؤ على استخدام العقل في محيط غوغائي عاطفي؟
تأمل هذه الحكاية التي يرويها ميشيل فوكو: «دعيت سنة 1966 من قبل مجموعة من المهندسين المعماريين لإجراء دراسة حول مكان، من النوع الذي اسميته حينها (انحراف الموضع) أي تلك الأمكنة المنفردة التي تتواجد في بعض الأمكنة الاجتماعية، حيث تختلف وظائفها أو حتى تتعارض مع الأمكنة الأخرى. عمل المهندسون على ذلك، وفي نهاية الدراسة قام أحدهم، وهو سيكولوجي سارتري أثار غيظي، ليقول: إن المكان رجعي رأسمالي فيما التاريخ والصيرورة ثوريان، هذا الخطاب العقيم كان شيئا عاديا في ذلك الزمان، أما اليوم فسوف ينفجر الجميع من الضحك لسماعهم مثل هذا البيان، اليوم وليس آنذاك» ..
لكن مثل هؤلاء مازالوا يطلون علينا يوميا عبر الفضائيات العربية وبقية وسائل الإعلام الأخرى، ليخاطبوا الناس بلغة مشابهة للغة ذلك المهندس، تختلف الأفكار، وتتناقض، وربما تتصادم الأهداف والتوجهات لكن اللغة واحدة. لغة مضحكة، لكن قلة هم الذين يدركون أن مثل تلك اللغة بعيدة عن الواقع ..
فهل مازالت مجتمعاتنا تعيش طفولة ثقافية وهي تطرب وتصفق لكل ذلك الثغاء؟
اتمنى عجبكم المقال
دمتم سالمين
مع هذا الصباح ابدا يومي بمقال يحتوي قصه رائعه
الهدوء الذي (يلحق) العاصفة !
يبدو أنه لا حدود لنشوة البدايات وأحلامها، وحماقاتها وأخطائها. في هذه المرحلة من العمر يتطلع المرء إلى أن يجرب كل شيء: الرسم، التمثيل، الموسيقى، الرياضة، الكتابة بكل أشكالها. ومع التقدم في السن تتضح الميول والمواهب، ويتعرف المرء على قدراته بشكل أوضح. يلم شتات تطلعاته ليصب اهتمامه في مجال واحد أو اثنين. قد لا تجد بعض المواهب متنفسا، فتذبل وتذوي ثم تموت، وقد يقاوم بعضها فيشق طريقه كنبتة برية.
لكن ما يميز مراحل العمر الأولى هو تلك الرغبة المتقدة في تغيير العالم وإصلاح حال الكون، عبر أحلام وتصورات قد لا تؤسس على رؤية واضحة. فهي أقرب إلى الاندفاع الطفولي وراء كل ما يداعب العاطفة ولا يخاطب العقل. ولا بد من التمييز، هنا، بين طفولتين: الطفولة الفنية الحافلة بالأسئلة والدهشة اللازمة لكل فنان، والطفولة بمعنى توقف النمو العقلي عند مرحلة مبكرة من مراحل العمر. فإذا تجاوزنا الحديث عن الأفراد إلى الحديث عن المجتمعات، فلا بد من التمييز بين نموَّين: النمو المادي الذي تهيؤه الثروة، والمتمثل في استهلاك أحدث ما أنتجته تقنية هذا العصر، والنمو الثقافي وما يتمخض عنه من وعي لا يشترى بالمال.
في مسرحية (هذا الجيل المحظوظ) لمؤلفها نويل كاورد لقطة تعبر عن ذلك الاندفاع الجارف لأحد شخوص هذه المسرحية. تتحدث إيثيل مع زوجها فرانك عن صديق لابنهما يدعى سام فتقول: «ذلك الشاب سام لا يعجبني كثيرا.. أنت تعرف ما أعني، كل تلك الكلمات الكبيرة الرنانة، سيجلب على نفسه المتاعب في يوم ما، صدقني!» فيجيب الزوج قائلا: «سينضج وينسى كل هذا. إنني أذكر كيف كنت وأنا في عمره، أكاد أدق عنقي وأنا أحاول أن أنتصر على الجميع». فترد إيثيل قائلة: «لكن ليس مثله.. ثم كل هذا الكلام عن ثورة عالمية، ويوم النصر العظيم، وتحطيم كل شيء.. كنت أنت أعقل من هذا»! بعد مرور عقد واحد على هذا الكلام (1925 _ 1936) يتحول سام الثائر المتمرد الذي يريد تغيير العالم بالخطب الرنانة إلى رب أسرة تقليدي يدار ب (ريموت كونترول المَدَام)، بعد أن أصبح صهرا للبرجوازية (ممثلة في فرانك وزوجته).
وقد كان قبل ذلك يشن على نمط العيش البرجوازي أشرس هجماته. صار سام يحرص على العودة إلى البيت عند الساعة العاشرة والنصف مساء. وبدأ قاموسه الفكري والسياسي يتشكل بطريقة مختلفة. وذلك هو الهدوء الذي (يلحق) العاصفة!
ويبدو أن الأمم كالأفراد تقول كلاما كبيرا صاخبا عاطفيا عنيفا قبل أن تنضج.. لافتات كبيرة وصخب، وعنف ينقصه المنطق. وعمى ألوان، وانغلاق على الذات. ذلك أن العقل كما يرى سير جيمس ديوار «مثل المظلة تقوم بعملها، فقط، عندما تنفتح». وفي مراحل الطفولة الفكرية تلك أرادت بعض الأصوات أن «تعلق الجرس» فتخاطب العقل والمنطق، وأن تنظر إلى الواقع نظرة قادرة على الفرز والتمييز، لكن من يجرؤ على استخدام العقل في محيط غوغائي عاطفي؟
تأمل هذه الحكاية التي يرويها ميشيل فوكو: «دعيت سنة 1966 من قبل مجموعة من المهندسين المعماريين لإجراء دراسة حول مكان، من النوع الذي اسميته حينها (انحراف الموضع) أي تلك الأمكنة المنفردة التي تتواجد في بعض الأمكنة الاجتماعية، حيث تختلف وظائفها أو حتى تتعارض مع الأمكنة الأخرى. عمل المهندسون على ذلك، وفي نهاية الدراسة قام أحدهم، وهو سيكولوجي سارتري أثار غيظي، ليقول: إن المكان رجعي رأسمالي فيما التاريخ والصيرورة ثوريان، هذا الخطاب العقيم كان شيئا عاديا في ذلك الزمان، أما اليوم فسوف ينفجر الجميع من الضحك لسماعهم مثل هذا البيان، اليوم وليس آنذاك» ..
لكن مثل هؤلاء مازالوا يطلون علينا يوميا عبر الفضائيات العربية وبقية وسائل الإعلام الأخرى، ليخاطبوا الناس بلغة مشابهة للغة ذلك المهندس، تختلف الأفكار، وتتناقض، وربما تتصادم الأهداف والتوجهات لكن اللغة واحدة. لغة مضحكة، لكن قلة هم الذين يدركون أن مثل تلك اللغة بعيدة عن الواقع ..
فهل مازالت مجتمعاتنا تعيش طفولة ثقافية وهي تطرب وتصفق لكل ذلك الثغاء؟
اتمنى عجبكم المقال
دمتم سالمين
تعليق