السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بدون ماطول عليك اخليكم مع المقال الصباحي
الإنسان كائن ثقافي
يقول أبو حيان التوحيدي : لقد أشكل الإنسان على الإنسان.
وهذا صحيح تماماً. فعلى مر السنين حاول العلماء والحكماء أن يتوصلوا إلى ماهية الإنسان ولكن محاولاتهم تبدو في آخر الأمر ناقصة أو مغلوطة. واستعانوا في العصور الحديثة بالتقدم العلمي من أجل تسليط الضوء على طبيعة الإنسان التي تميزه عن سواه، وتحديد ما لا يشترك فيه مع غيره. فالحد أو التعريف الشهير للإنسان والذي ينص على أنه كائن عاقل لم يعد مانعاً وإن كان جامعاً، فقد ثبت أن بعض الحيوانات تمارس سلوكيات تنم عن وجود عقل أو إدراك حتى ولو كان بسيطاً وساذجاً. فترك جماعة من العلماء والفلاسفة هذا التعريف وبحثوا عن تعريف آخر. فاقترح بنجامين فرانكلين تعريفاً يرى فيه أن الإنسان هو الوحيد القادر على استعمال الآلات أو الأدوات. ولكن بيتر فارب مؤلف كتاب (بنو الإنسان) يؤكد أن هناك أنواعاً من الحيوانات تستخدم الأدوات ؛ مثل ثعلب البحر الذي يستخدم الحجر في استخراج المحارات من بين الصخور.
فعدَّل بعض الباحثين في التعريف ليكون كالتالي : الإنسان هو الوحيد القادر على " صنع " الأدوات. واستمر هذا التعريف حتى ثبت أن الشمبانزي قادر على صنع أدوات في ظروف معينة.
والغريب أن هناك من يرى أن للحيوان حدساً رياضياً. فقد أجرى أحد الباحثين تجربة يقوم فيها بأخذ " بيضة واحدة " سراً، كل يوم من عش طائر الزقزاق، واستغرب حينما اكتشف أن الطائر يضع بيضة إضافية مكان البيضة المفقودة. وبرأيي فإن هذا ليس دليلا على وجود إحساس بالعدد بل هو مجرد حس تجريبي بسيط ينتج عن الملامسة والإدراك الحسي المباشر. فالحيوان يدرك بشكل غريزي إذا كان منفرداً وحده أو كان بين مجموعة.
يرى الفيلسوف اليوناني القديم أرسطو أن الإنسان حيوان اجتماعي. ولكننا نعرف جيداً أن للنمل والنحل مجتمعات خاصة بها. إلا أن موريس جولديير يستدرك قائلاً إن الإنسان لا يعيش وحسب في مجتمع بل وينتج المجتمعَ. ولكنني سأتخطى هذا التعديل لأن الفرد بما هو فرد مختلف كليا عن المجتمع وليس في قدرته أن ينتج مجتمعاً وأقصى طاقته أن يؤثر فيه حينما تتضافر مع إرادته إرادات كثيرة كما يظهر.
وإذا رجعنا إلى كتاب (بنو الإنسان) لوجدناه يطمئن إلى تعريف حديث يجعل اللغة هي الصفة المميزة للإنسان عن غيره. ولكن المؤلف يعود ليذكرنا – لئلا نسرف في الاطمئنان – بأن الشمبانزي استطاع بالتدريب في المختبرات أن يتخاطب بإشارات الصم والبكم المستعملة في أمريكا. بل والتخاطب عبر أزرار لوحة عقل إلكتروني خاص!
وهذا التعريف يقربنا من التعريف الأكثر معقولية وهو أن الإنسان كائن رمزي أو سيميائي. بمعنى أنه قادر على التواصل والتفاهم من خلال نسق من الرموز والعلامات.. تعتبر اللغة أكملها وأكثرها تعقيداً.
وبما أن إشارات الصم والبكم هي رموز اعتباطية – أي خاضعة لمزاج الجماعة الثقافية المعينة ولظروفها وليست خاضعة للمنطق الطبيعي للأشياء - كالعلامات اللغوية تماما، فإن الشمبانزي حيوان رمزي. وليس أدل على اعتباطيتها من قول المؤلف (الإشارات المستعملة في أمريكا) ومعناه أنها لا تقدر على التخاطب بالإشارات المستعملة في أوروبا أو آسيا مثلا! لا أدري تحديداً ما طبيعة إدراك القردة لإشارات التخاطب هذه.. هل هو إدراك لنظام رمزي متكامل أم هو مجرد قابلية للتدريب كأية قابلية أخرى على القيام بسلوك معقد بدرجة عالية من الدقة كما نرى في السيرك مثلا ؟
والميزة التي نجدها هنا لبني البشر على الشمبانزي هي قدرتهم على خلق الرموز وإعطائها معنى من خلال التفاعل الاجتماعي على مر التاريخ. فالرموز والعلامات التي يصطلحون و(يتواضعون) عليها هي التي تشكل ما نسميه بالثقافة. فالثقافة – كما يقول ليزلي هوايت – تنظيم خاص من الرموز. أو كما يرى أمبرتو إيكو فإن حياة الإنسان نسق من العلامات (والتي تحتاج إلى تفسير طبعاً).
والمفارقة الغريبة تكمن في أن هذه الميزة التي تميز البشر ليست عقلانية! فالعلامة لا ترتبط مباشرة مع ما تدل عليه أو ليس هناك مبرر منطقي لارتباطها بالأشياء. كما أن تركيب اللغة ذاته يخضع لهذه الاعتباطية.. فلا أدري تحديداً – وليس لأحد أن يدري – لماذا يرفع الفاعل وينصب المفعول في العربية، بل ولماذا تدل هذه الكلمات تحديداً على هذه الأشياء وليس على غيرها؟!
وبما أن صفة الثقافي تجمع بين الرمزية والاجتماعية فإنني أقول إن الإنسان كائن ثقافي. له ثقافة بكل ما فيها من أنظمة رمزية وإشارية وله ذاكرة تاريخية. فالقدرة على تخطي المرحلة الشفاهية من خلال خلق الرموز ثم (تدوينها) ساعد على حفظ تجارب البشر و مراكمة خبراتهم، أي تدوين تاريخهم ونضالهم مع الطبيعة، مما ساهم في تجاوزهم الفائق والسريع للجنس الحيواني العام. ولهذا يؤرخ البعض لنهاية العصور الحجرية وبداية العصور الحديثة بما يسمى بعصر اختراع الكتابة. وكلمة الثقافة التي أستعملها هنا توضع بالمقابل مع كلمة الطبيعة. بحيث تدل الأولى على ما هو رمزي وتأويلي وإنساني بحت.. وتدل قبل كل شيء على الحرية في مقابل الضرورة التي تصف عالم الطبيعة سواء الخارجية أو الداخلية (كالغرائز مثلاً). والرموز تتطلب تفسيرا وفكاً وتأويلاً. وإذا كانت المظاهر الطبيعية التي يتم تأويلها - ثقافيا – لها مثل هذا الاختلاف والتعقيد، فما بالك بالحالة التي نصبح فيها إزاء نصوص رمزية أساساً ؟ وإزاء مظاهر ثقافية نسبية. هنا يحدث الارتباك.
ويحتاج الباحث إلى مزيد من التسامح واللين وسعة الأفق لكي يستوعب أن كل ما هو ثقافي فهو نسبي وخاضع لصيرورة التطور التاريخي وللتفاعلات البشرية. وقد كنتُ في يوم من الأيام أعتقد أن اللون الأبيض دليل على النقاء والبراءة، والأسود على الحزن واللؤم..
حتى قرأت أن قبيلة " بانفه " في غرب أفريقيا ترمز للأبيض على أنه لون الشيطان، وأن بعض قبائل شرق أفريقيا تعتبر اللون الأسود لون الفرح. فتحررتُ من وهمي.
تقبلو مني كل الاحترام
دمتم سالمين
بدون ماطول عليك اخليكم مع المقال الصباحي
الإنسان كائن ثقافي
يقول أبو حيان التوحيدي : لقد أشكل الإنسان على الإنسان.
وهذا صحيح تماماً. فعلى مر السنين حاول العلماء والحكماء أن يتوصلوا إلى ماهية الإنسان ولكن محاولاتهم تبدو في آخر الأمر ناقصة أو مغلوطة. واستعانوا في العصور الحديثة بالتقدم العلمي من أجل تسليط الضوء على طبيعة الإنسان التي تميزه عن سواه، وتحديد ما لا يشترك فيه مع غيره. فالحد أو التعريف الشهير للإنسان والذي ينص على أنه كائن عاقل لم يعد مانعاً وإن كان جامعاً، فقد ثبت أن بعض الحيوانات تمارس سلوكيات تنم عن وجود عقل أو إدراك حتى ولو كان بسيطاً وساذجاً. فترك جماعة من العلماء والفلاسفة هذا التعريف وبحثوا عن تعريف آخر. فاقترح بنجامين فرانكلين تعريفاً يرى فيه أن الإنسان هو الوحيد القادر على استعمال الآلات أو الأدوات. ولكن بيتر فارب مؤلف كتاب (بنو الإنسان) يؤكد أن هناك أنواعاً من الحيوانات تستخدم الأدوات ؛ مثل ثعلب البحر الذي يستخدم الحجر في استخراج المحارات من بين الصخور.
فعدَّل بعض الباحثين في التعريف ليكون كالتالي : الإنسان هو الوحيد القادر على " صنع " الأدوات. واستمر هذا التعريف حتى ثبت أن الشمبانزي قادر على صنع أدوات في ظروف معينة.
والغريب أن هناك من يرى أن للحيوان حدساً رياضياً. فقد أجرى أحد الباحثين تجربة يقوم فيها بأخذ " بيضة واحدة " سراً، كل يوم من عش طائر الزقزاق، واستغرب حينما اكتشف أن الطائر يضع بيضة إضافية مكان البيضة المفقودة. وبرأيي فإن هذا ليس دليلا على وجود إحساس بالعدد بل هو مجرد حس تجريبي بسيط ينتج عن الملامسة والإدراك الحسي المباشر. فالحيوان يدرك بشكل غريزي إذا كان منفرداً وحده أو كان بين مجموعة.
يرى الفيلسوف اليوناني القديم أرسطو أن الإنسان حيوان اجتماعي. ولكننا نعرف جيداً أن للنمل والنحل مجتمعات خاصة بها. إلا أن موريس جولديير يستدرك قائلاً إن الإنسان لا يعيش وحسب في مجتمع بل وينتج المجتمعَ. ولكنني سأتخطى هذا التعديل لأن الفرد بما هو فرد مختلف كليا عن المجتمع وليس في قدرته أن ينتج مجتمعاً وأقصى طاقته أن يؤثر فيه حينما تتضافر مع إرادته إرادات كثيرة كما يظهر.
وإذا رجعنا إلى كتاب (بنو الإنسان) لوجدناه يطمئن إلى تعريف حديث يجعل اللغة هي الصفة المميزة للإنسان عن غيره. ولكن المؤلف يعود ليذكرنا – لئلا نسرف في الاطمئنان – بأن الشمبانزي استطاع بالتدريب في المختبرات أن يتخاطب بإشارات الصم والبكم المستعملة في أمريكا. بل والتخاطب عبر أزرار لوحة عقل إلكتروني خاص!
وهذا التعريف يقربنا من التعريف الأكثر معقولية وهو أن الإنسان كائن رمزي أو سيميائي. بمعنى أنه قادر على التواصل والتفاهم من خلال نسق من الرموز والعلامات.. تعتبر اللغة أكملها وأكثرها تعقيداً.
وبما أن إشارات الصم والبكم هي رموز اعتباطية – أي خاضعة لمزاج الجماعة الثقافية المعينة ولظروفها وليست خاضعة للمنطق الطبيعي للأشياء - كالعلامات اللغوية تماما، فإن الشمبانزي حيوان رمزي. وليس أدل على اعتباطيتها من قول المؤلف (الإشارات المستعملة في أمريكا) ومعناه أنها لا تقدر على التخاطب بالإشارات المستعملة في أوروبا أو آسيا مثلا! لا أدري تحديداً ما طبيعة إدراك القردة لإشارات التخاطب هذه.. هل هو إدراك لنظام رمزي متكامل أم هو مجرد قابلية للتدريب كأية قابلية أخرى على القيام بسلوك معقد بدرجة عالية من الدقة كما نرى في السيرك مثلا ؟
والميزة التي نجدها هنا لبني البشر على الشمبانزي هي قدرتهم على خلق الرموز وإعطائها معنى من خلال التفاعل الاجتماعي على مر التاريخ. فالرموز والعلامات التي يصطلحون و(يتواضعون) عليها هي التي تشكل ما نسميه بالثقافة. فالثقافة – كما يقول ليزلي هوايت – تنظيم خاص من الرموز. أو كما يرى أمبرتو إيكو فإن حياة الإنسان نسق من العلامات (والتي تحتاج إلى تفسير طبعاً).
والمفارقة الغريبة تكمن في أن هذه الميزة التي تميز البشر ليست عقلانية! فالعلامة لا ترتبط مباشرة مع ما تدل عليه أو ليس هناك مبرر منطقي لارتباطها بالأشياء. كما أن تركيب اللغة ذاته يخضع لهذه الاعتباطية.. فلا أدري تحديداً – وليس لأحد أن يدري – لماذا يرفع الفاعل وينصب المفعول في العربية، بل ولماذا تدل هذه الكلمات تحديداً على هذه الأشياء وليس على غيرها؟!
وبما أن صفة الثقافي تجمع بين الرمزية والاجتماعية فإنني أقول إن الإنسان كائن ثقافي. له ثقافة بكل ما فيها من أنظمة رمزية وإشارية وله ذاكرة تاريخية. فالقدرة على تخطي المرحلة الشفاهية من خلال خلق الرموز ثم (تدوينها) ساعد على حفظ تجارب البشر و مراكمة خبراتهم، أي تدوين تاريخهم ونضالهم مع الطبيعة، مما ساهم في تجاوزهم الفائق والسريع للجنس الحيواني العام. ولهذا يؤرخ البعض لنهاية العصور الحجرية وبداية العصور الحديثة بما يسمى بعصر اختراع الكتابة. وكلمة الثقافة التي أستعملها هنا توضع بالمقابل مع كلمة الطبيعة. بحيث تدل الأولى على ما هو رمزي وتأويلي وإنساني بحت.. وتدل قبل كل شيء على الحرية في مقابل الضرورة التي تصف عالم الطبيعة سواء الخارجية أو الداخلية (كالغرائز مثلاً). والرموز تتطلب تفسيرا وفكاً وتأويلاً. وإذا كانت المظاهر الطبيعية التي يتم تأويلها - ثقافيا – لها مثل هذا الاختلاف والتعقيد، فما بالك بالحالة التي نصبح فيها إزاء نصوص رمزية أساساً ؟ وإزاء مظاهر ثقافية نسبية. هنا يحدث الارتباك.
ويحتاج الباحث إلى مزيد من التسامح واللين وسعة الأفق لكي يستوعب أن كل ما هو ثقافي فهو نسبي وخاضع لصيرورة التطور التاريخي وللتفاعلات البشرية. وقد كنتُ في يوم من الأيام أعتقد أن اللون الأبيض دليل على النقاء والبراءة، والأسود على الحزن واللؤم..
حتى قرأت أن قبيلة " بانفه " في غرب أفريقيا ترمز للأبيض على أنه لون الشيطان، وأن بعض قبائل شرق أفريقيا تعتبر اللون الأسود لون الفرح. فتحررتُ من وهمي.
تقبلو مني كل الاحترام
دمتم سالمين
تعليق