إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

يوم أصبحت مجنوناً محترفا ً ( بقلمي )

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • يوم أصبحت مجنوناً محترفا ً ( بقلمي )

    [align=right]ماذا لو قرّرتَ يوماً ما أن تجنّ ..؟؟؟
    ماذا لو استيقظتَ ذات صباح – ككلّ صباح - و مارستَ جميع طقوسك المعتادة من تثاؤب و تمطّط و فرك عيون و توضيب شعر و خلافه , ثم , بعد أن شاهدتَ نشرة الأخبار و أنت تحتسي قهوتكَ الصباحيّة الثقيلة و راقبت صعود الأسهم و هبوطها و تحركات الشركات و اندماجها , و أحصيتَ عدد الجثث مجهولة الهوية المرمية في شوارع بغداد , و تأمّلتَ وجه المذيعة الجميلة التي تنبئكَ و هي تبتسم ابتسامةَ بديعة أن الكارثة البيئيّة الناجمة عن الاحتباس الحراري قد أصبحت قاب قوسين أو أدنى مما يعني ضمناً أن يوم القيامة قد اقترب , و قبل أن تذهب إلى الحمّام تتابع – واقفاً- أخبار الطقس التي تعلمك أن اليوم مثل الذي سبقه - و مثل آلاف الأيام التي سبقته - حاراً جافاً ليس فيه قطرة ماء تبلل نملة ..
    في الطريق إلى الحمام لتكمل بقية الطقوس الضرورية لصباح روتيني تتوقّف فجأة .. تعبث بشعرك الذي ما زال منكوشاً .. تمسح جبهتك الحزينة .. تحملق في نقطة سوداء صغيرة على البلاط المتراصف .. ثم تبتسم هنيهة و تقول لنفسك :
    - حسنٌ ... لقد قرّرتُ أن أجنّ ..
    هل تصدّقون أنه يمكن لأيٍّ كان أن يتخذ قراراً بملء إرادته أن يجنّ ..؟؟؟
    بالطبع أنا لا أقصد بالجنون تلك اللحظة الهوجاء التي فقدتَ فيها أعصابك و طار منك صوابك و تصرّفتَ دون أي شعور بالمسؤولية أو مراعاة للعواقب و قررتَ أن تتوقّف عن التدخين و أن تستبدله بعادة صحيّة أكثر كمضغ اللبان المحلّى الذي جعلك تبدو مراهقاً متسكّعاً لا همّ له إلا متابعة الأغاني الشبابية و البصبصة على السيّدات , و لتكتشف بعد أيّام أنكَ تمسك سيجارتك المشتعلة بين أصابعك و تلوك اللبان في فمك و أنك بحمد الله قد أصبحتَ مدمناً على اللبان و السجائر معاً ..
    و لا أقصد أيضاً ذلك التصرّف الغريب المستهجَن يوم ( انطسّيت ) في نافوخك و عمي على بصيرتك و قمتَ هكذا بكل بساطة بدعوة أصدقائكَ على الغداء دون أن تجري قبل ذلك الاستشارات القانونية و الالتماسات المطلوبة في مثل هذه الحالات للسيدة حرمكم مما جعلها ( تتنرفز ) فوق الحدّ الاعتيادي و جعلكَ بنصف هدومك أمام الأصدقاء و ( بلا هدومك ) أمام الأولاد فيما بعد ..
    لا .. لا .. أنا لا أقصد ذلك الجنون المؤقّت الذي يعترينا أحياناً حين نحلم مستيقظين أن السماء ستمطر يوماً ما , و الأشجار ستنمو من جديد , و أن الأطفال لن يبكوا بعد اليوم , و سيصبح الناس طيّبين جميعاً , ستنطفئ كلّ الحرائق , و ستبرق المجرّات المتراقصة على أنغام الكون البهيّ , و ستصبح النساء جميلات جداً و سيغدو الرجال رجالا , و سنتوقّف عن انتظار ما لا يأتي و سيأتي ما كنّا ننتظر أخيراً ..
    لا .. ليس ذلك الجنون اللذيذ الذي يوحي إليكَ أنّك تلمس وجه حبيبتك حين تسطو عليكَ قسوة العمر المضني و تستولي على أعصابكَ المرهقة تلك الرغبة الخفيّة في الاستسلام و الموت , فتشعر تواً بالسلام و المحبّة و يستيقظ الطفل بداخلك يلعب و يغني و يرسم أشجاراً و سماءً و عصافير ملونة , فتغمض عينيك برهةً لتكتشف أن لحظة واحدةً من الجنون قد تهديك فرح أعمار ..
    لا .. ليس ذلك الجنون اللطيف الذي يهديكَ في غفلةٍ من دهركَ الصارم كلمة حب همس بها طيف حنون , أو باقةُ عطر انداحت عبر نافذتك المفتوحة ذات حلم صغير , أو لمحةً صغيرة من ذاكرتك الموغلة في الهجرة حين كانت ضحكتك تزغرد في الفضاء صافية رقراقة ..
    لا .. ليس هذا الجنون ..
    هو الجنون الحقيقيّ .. الجنون الذي ينفلت فيه العقل من أبعاده الأربعة و يتوه في مساحاتٍ مجهولة لم يكن يدريها ليشتعل في الشموس المحترقة و يغرق في أعمق محيط و يجالس القطط المتشرّدة على الأرصفة القذرة و ينام ملتحفاً جريدةً مهترئة و ينسى شكل النقود و يتشارك في عشائه مع بعض الكلاب الصديقة المقيمة جوار مطعمٍ بنجومٍ كثيرة ...
    الجنون القاسي .. الذي يمزّق بعنف و سعار نسيجَ هذا العالَم المنظّم محطّماً رتابة الأشياء بتوحّش مدهش ناثراً فوضاه العارمة في كل الأنحاء ..
    الجنون المخيف .. الذي يرقص مع أشباح الليل و جثث الموتى الهلِعة و ينصت مذهولاً لصرخات الأرواح الشقيّة حين تلفظها الأرض و ترفضها السماء فيبكي جذعاً على شواهد القبور الفاغرة أشداقها كثقوب سوداء نهمة بحجم أكوان ..
    الجنون المتناقض المفتوح على كلّ الاحتمالات المتمرّد على كلّ ما هو مألوف و معتاد و نمطيّ .. الذي يضحك في المآتم و يندب في الأعراس , و يرقص عارياً في الشوارع حيث لا أحد يهتمّ , يتمدّد أمام السيّارات المتعجّلة و يتسلّق أعمدة النور و إشارات المرور , يمدّ لسانه في الوجوه المغرورة هازئاً بكلّ المتأنّقين , و يتغزّل في الصبايا العابرات دون خجل , و ينام على باب مسجدٍ صغير وقت الضحى ..
    الجنون المعمّد بنار الرفض و التحدّي و الشكّ و السؤال الذي لا إجابة عنه , المغروس في عتمة الزوايا التي لم ترها عينان قط , المعذّب بتناقضات هذا العالَم الغامض المضمّخ بالأسرار , المرعوب مع كلّ قطرة دم تسفح على ظهر البريّة , المذهول من حجم الألم الذي يحيط كوكبنا كغلافٍ جويّ عملاق ينمو مع كلّ آهة و كل أنّة و كل نظرة وجع و كل صفعةٍ بربريّة تهبط على خدِ طفلةٍ لم تدرك بعد معنى الألم الحقيقيّ .
    الجنون المقدّس الذي يصفعنا حين نخطئ , و يصرخ في وجوهنا حين نتحول إلى ذئابٍ بربطاتِ عنق و أنيابٍ نحاسيّة , و يضربنا بعصاه حين نضع ساقاً على ساق في الأماكن الخاشعة , و ينهرنا بقسوة حين نسيء الأدب في حضرة الله ..
    الجنون المتفوّق .. الذي يتعالى على غرورنا و قسوتنا و صراعاتنا التافهة و شهواتنا الدنيئة و أحلامنا المريضة باحثاً وحده عن نورِ هذا العالَمِ المعتم الغامض ..
    هذا هو الجنون الذي أعنيه ..
    و هذا هو بالضبط الجنون الذي أردته حين قرّرت أن أصبح مجنوناً ..
    ( أيها العاقلون ..
    افتحوا رؤوسكم المغلَقة ..
    و الجماجم الموصَدة ...
    انفضوا عن أدمغتكم غبار السنون ..
    انثروا عليها الشمس و الهواء أياماً سبعة ..
    و هلمّوا إلى حفلة الجنون .. ) .
    يتبع ..[/align][align=justify][/align]

  • #2
    [align=right]حين أعلنتُ جنوني على الملأ وقع الأمر على الناس من حولي وقع الصاعقة , و كان ردّ الفعل الأوّل الشقيقه الصغرى أن خبطت على صدرها و صرّحت بأنّه ( هذه المصيبة ) قبل أن تبادر إلى الاتّصال بالمعنيين – أهلي - تستدعيهم ليروا حلاً في هذا الرجل الذي يجنّ على كيفه متى أراد ..
    و بعد الاجتماعات المتكرّرة و محاولات الإقناع الحثيثة و الجلسات المكثّفة و ( يا ولد عيب ) و ( يا ولد استحِ على دمك ) و ( العقل زينة يا خوي ) .. بالإضافة إلى الاستشارات الطبيّة العاجلة التي كنت فيها مجنوناً حقيقياً تنتابه نوبات من الضحك العبثي أحياناً و من البكاء المتشنج أحياناً أخرى و من الصمت الذاهل أحايين أسقط في يد الجميع و أعلِنتُ للمرة الأولى مجنوناً رسمياً في الوسط العائلي و الاجتماعي ..
    و بين عشية و ضحاها و بشكلٍ لا يصدّق أصبح ( المجنون يزيد ) شهيراً جداً يجري اسمه في جميع الحفلات و المنتديات و المناسبات الاجتماعية , تتهامس به النسوة حين تتداولن آخر أنباء جنوني الطارئ و يصيح به الرجال وهم يتناقشون حول تصرفاتي الغريبة غير المفهومة و أسباب هذا الجنوح الذي أصاب عقلي الهادئ , بينما كان ( السيد يزيد ) العاقلُ المتزّن قبلاً خاملَ الذكر مجهول الشأن لا يعيره أحدٌ التفافةً صغيرة حتّى لو نزف كل دمائه أمام عينيه ..
    و لكي يصبح جنوني مكتملاً بعد أن شقلبت ترتيب غرفتي , و عكست مواعيد نومي , و أصبحت أفطر مساءاً و أتغدّى مع انفلاق الصبح , و أضحك حتّى الإغماء لكلّ النكات السمجة التي لم أكن لأبتسم لها , و أشخبط على الجدران لوحات سريالية ملوّنة , و أوقظ الناس في منتصف الليل على إيقاع رقصي الهادر , و أشتم جيراني العرّة بكلّ ما في قواميس الهجاء من مفردات , و أتشفّى بالخادمه و هي تهرول ورائي تنظّف كل الفوضى التي أرتكبها عامداً متعمّداً , بعد ذلك كله بدأت أرسم ( البرستيج ) الضروري لأي مجنون يحترم نفسه على ملامحي , فأرسلت لحيتي تنمو على هواها دون تشذيب و تركت شعري – أو ما تبقّى منه – مبعثراً مشتتاً متلبّداً على الفروة التي حلفت ألاّ تقربها قطرة ماء بعد اليوم .
    لكني اكتشفتُ أن الجنون أعقد من ذلك بكثير و أن جميع تلك ( الغرائب ) لم تقرّبني خطوةً واحدة من الجنون الذي أريد .
    اكتشفتُ أني ما زلتُ أحزن حينما تموء قطّة الجيران العرجاء ألماً و هي تتشمّم جثَثَ جرائها الصغيرات , و أبكي حين توشوشني فيروز ( ارجعي لي .. راح ترجعي لي ) في الصباحات الممطرة عندما تهرب العصافير المبللة إلى أعشاشها الأليفة , و أرتجف غضباً حين أقارن بين الراقصة ( فيفي ) التي تلفّ الذهب حول سيقانها البديعة و السيّاب الذي ماتَ سلاً و فقراً و قهراً و قنوطاً , و أشعر باليأس يذبحني و أنا أراقب أحلامي الكبيرة تتهاوى أمام عينيّ حلماً إثر حلم , و تخنقني حبال السأم حين أتأمل أيامي الخاصّة جداً تتسرّب من بين أصابعي دون أي معنى أو جدوى يوماً إثر يوم ..
    نعم .. ما زال عقلي يفتك بي بكلّ ضراوة , ما زلت أسيرَ كلّ تقاليده الصارمة التي تحسب عليّ أنفاسي و تراقب كلّ نبضةٍ عصبية تائهة في دماغي فتخمدها بقسوة و حزم , ما زال عقلي الجامد العبوس يحجر عليّ أن أنفلت تماماً من أبعادي المعروفة و أهيم مع أشواقي في مسافات الحلم المعابث , ما زال يحجب عنّي وجه حبيبةٍ لم أرَها و حكايةٍ لم أروِها و شواطئ لم أطأها و بحارٍ لم أتسكّع في قيعانها بعد ..
    أليس هذا عجيباً بالفعل ..؟؟؟
    لماذا لا نستطيع أن ننسى ما نذكر حين نقرّر أن ننسى , و لا نقوى على كره ما نحبّ حين نختار أن نكره , و لا نقدر على تحطيم عقولنا حين نرغب أن نجنّ ..؟؟؟
    أليس هذا غريباً ..؟؟؟
    لماذا نحن ملتصقين لهذه الدرجة بذاكرتنا و قواعد عقولنا الرصينة و عاداتنا الرتيبة في التفكير و الفعل و التفاعل مع هذا العالَم الصاخب من حولِنا ., لماذا نبقى هادئين جداً و كل أشياء وجودنا و مفرداته تصرخ و تشاغب و تتلاعب بحرية و طلاقة ..؟؟؟
    يا ترى .. هل هو الحلم فقط ذلك الذي يهبنا نافذة الخلاص الوحيدة فنفعل كلّ ما نشاء و نصرخ كما نهوى و نحطّم رتابة مشاعرنا و أحاسيسنا و نتخطّى كثافة أجسادنا فنحلّق بين المجرّات و نجوب أصقاع الكون المجهول و نكتب أسماءَنا على الغيم الشفيف و نتناول قهوة الصباح مع زهر الدرّاق و عيون الحبيبة و جوقة من البلابل المغرّدة ..؟؟؟
    هل هو الحلم فقط ذلك الذي يستلّ أرواحَنا كلّ ليلة من زمانها و مكانها و يحرّرها من أشراط مادّتنا و قيودها و يمنحها لحظاتٍ فريدةٍ ممتعةٍ من الحريّة المطلَقةِ في أن تجوب أبعاد الوجود الحقيقيّ كلّها فنصبح ( مجانين حقيقيين ) لفترة وجيزة فحسب , ثم نستيقظ فجأة و تجرفنا اليقظة القاسية ببرودتها و واقعيّتها فننسى أن الجنون قد يكون هو المفتاح الحقيقيّ لكل ألغاز العالَم و أسراره التي لا نستطيع أن نفكّ طلاسمها أو نحلّ عقدها المتشابكةِ بشكل مذهل .. ؟؟
    هل يكون الجنون هو قمّة الحكمة أحياناً ..؟؟؟
    كيف نستطيع أن نحبس أرواحنا في عوالم الحلم فننام مفتوحي الأعين على الدوام ..؟؟
    لا أدري .. كلّ ما أدريه أنني رغم كلّ محاولاتي أن أتشبّه بالمجانين , و رغم منظري الذي أصبح أشبه بالشحّاذين و المتسوّلين , و رغم رائحةِ جسدي التي أضحت مقزّزة ينفر منها الأنام و الهوام , و رغم أني أصبحت وجهاً مألوفاً في جميع أقسام الشرطة و اسمي معروفاً بين كلّ الأطّباء و الممرّضين و العاملين في عيادات المناخوليا ..
    رغم كلّ ذلك .. لم أستمتع بعد بجنوني .. و لم أقتنع أني مجنون عن حقّ و حقيق .. و كان لا بدّ لي من أنتقل للخطوة التالية في رحلتي الطويلة هذه ..
    يتبع ..[/align][align=justify][/align]

    تعليق


    • #3
      [align=right]لا جنون مع السكن .. و لا سكن مع الجنون ..
      لا بدّ ممّا لا بدّ منه .. لا بدّ من التشرّد ..

      هذا ما تفتّقت به قريحتي أخيراً بعد أن أعيتني الحيل و شارفت على الجنون و أنا أشكو لطوب الأرض هذا العقل اللئيم الذي يأبى أن يجنّ , خاصّة أنه لم يعد هناك فرق ملحوظ بين بيتي الذي هجرَته ( مدامنا العزيزة ) و تركَته لي أبرطع به على كيفي و بين الشارع الذي قرّرتُ أن يكون مكان إقامتي الجديد ..

      و هكذا عرفَتْ شوارع بلدتنا و حدائقها العامّة متشرّداً جديداً يضاف إلى قائمة متشرّديها الكثر , و رغم بعض المشاكل التي حدثت في البداية مع الزملاء الذين لم يبتلعوا فكرة أن يبدأ العقلاء بالتصعلك ليزاحمونهم في لقمة عيشهم الصغيرة و يقاسمونهم أماكنهم الوثيرة , إلاّ أن الأمور سارت كما ينبغي أخيراً و ألقيت عصا الترحال في مقعدٍ منزوٍ في إحدى الحدائق المجهولة التي لا يكاد يقربها أحد ..

      و الحق يُقال فإني بدأت ألاحظ تغييراً ملحوظاً في عقلي بعد فترةٍ قصيرة من هذا الأسلوب الجديد في الحياة فقد انحصرَت اهتماماته كلّها في كيفيّة تدبّر فطور هذا الصباح من بقايا المطعم القريب , أو في رسم الخطط العسكريّة للتغلّب على ذلك الكلب المزمجر الذي اعتاد على خطف عشائي بعد أن أسحّ عرقاً لجمعه من الأرصفة المهجورة و الساحات الخاوية , أو في مراقبة المدخّنين و ملاحقتهم من مكانٍ لآخر لجمع ما تيسّر من أعقاب السجائر التي قد يتبقّى فيها بعض التبغ اللذيذ أحياناً ..

      و رغم بعض الصداقات الجديدة التي عقدتُها مع مجموعة ظريفةٍ من القطط المتشرّدة و الكلاب التي لا تزمجر بعنف كلّما لاح طعامٌ في الأفق , و رغم قبولي المبدئي في مجتمع المتشرّدين و المتصعلكين الذين تقبّلوا على مضض رؤية هذا الضيف الثقيل يشاركهم صدقات العقلاء القليلة التي قد تضمن عشاء أسبوعٍ كامل , و رغم أني أصبحتُ بعرف البعض مجذوباً تلجأ إليّ بعض النسوة اللاتي يفترشنَ الأرضَ أمام مقعدي المكسور يغمغمن بكلماتٍ غامضة غير مفهومة و أنا أحملق فيهنّ صامتاً متسائلاً و قبل أن يذهبنَ يلمسنَ أطراف أسمالي البالية متبركاتٍ بهذا الملاك الذي هبط من السماء و لم يجد شيئاً يعمله في الدنيا إلا أن يصبح متشرّداً ..

      رغم كل ذلك .. بقي ثمّة قلق خفيّ يداهمني أني لم أجنّ بعد تماماً , و أني لا أزال أملك موهبة الكلام و حسّ اللمس في أناملي النحيلة , ما زلتُ أصفّق حبوراً كلّما نجحَتْ قطّتي الأثيرة في تسلّق شجرة الصنوبر العتيقة بعد عشرات المحاولات , و ما زالت ذاكرتي تستيقظ كلّ مساءٍ حين أتمدّد في مقعدي مفترشاً رزمةً منتقاة بعناية من الجرائد المهترئة متأملاً نجوم السماء باحثاً عن نجمتي المفضّلة حين كنتُ طفلاً ذات يوم ..
      لكني اعتبرت أن الموضوع يحتاج إلى وقتٍ دون ريب , و أن العقل الذي بنيتُه خلال تاريخي كلّه لن أتخلّص منه بين يومٍ و ليلة ..

      حتّى كانت ليلة ..

      فاجأتني في البداية رائحة الخمر الرخيصة التي عبقت في الجوّ حولي , و ما أن عدّلتُ من استلقاءتي الهنيئة في مقعدي الخشبي متسائلاً عن مصدر هذه الرائحة حتّى وجدته أمامي بقوامه الطويل المترنّح سكراً و نشوة .. و دون استئذان جلس على حافّة المقعد زافراً آهةَ استراحة :
      - مساء النعنشة ..

      بالطبع فقد اعتدتُ على هذه التحيّات الغريبة بعد عشرتي الطويلة مع النشّالين و المتشرّدين و السكارى الذين يخترعون ألفاظاً لا تضمّها أيّ قواميس .. رددتُ على تحيّته بصوتٍ متأفّف من هذا الضيف الثقيل الذي سيفسد عليّ نومتي العزيزة ..
      - مساء الصهللة يا سيدي ..

      تجرّع رشفة من زجاجة الخمر التي كان يخفيها في ثنايا معطفه القذر , و قرّبها لي قائلاً :
      - تفضّل .. بسم الله .

      لا حول و لا قوة إلا بالله .. الرجل يسقيني خمراً و يريدني أن أسمّي بالرحمن ..
      - لا .. شكرا ً

      - يا أخي اشرب .. هذه معصورة للأكابر و حياة عيونك .. نعمة أتت إليك على قدميها .. لا ترفسها .. حرام عليك ..

      - يا سيدي .. ماذا أفعل ..ليس بيدي حيلة .. فليغفر لي الله أني لا أشرب الخمر .. شكراً يا ابن الأكابر ...

      حملق بي بدهشة .. و سألني :
      - لماذا ..؟؟

      - لماذا ماذا ..؟؟

      - لماذا لا تشرب ..؟؟

      أطرقت متحيّراً في الكيفيّة التي يجب عليّ أن أتعامل مع هذا المأفون الذي طلع لي من حيث لا أدري .. ثم أجبتُه بلا مبالاة :
      - لأني لا أريد أن أدخل النار ..

      خبط على جبينه بعنف .. و صرخ بصوتٍ مبحوح غاضب :
      - ماذا .. ماذا قلت أيها المجنون ..؟؟؟

      نظرتُ إليه مدهوشاً من هذا التحوّل الغريب الذي طرأ عليه .. و قبل أن أفتح فمي .. أكمل صراخه :
      - هل هناك عاقلٌ في الدنيا يتحدّث أمام رجل سكران حول هذه الأشياء .. روح .. ربّنا ينتقم منّك يا مفتري .. طارت السكرة ..

      - بالضبط .. صحيح تماماً .. أنا مجنون ..

      تأملّني بتمعّن من أعلى لأسفل و من أسفل لأعلى كأنّه يدرس كائناً غريباً يحطّ على الأرض للمرّة الأولى , ثم أطلق ضحكةً صغيرة و قال مستهزئاً :
      - أنتَ غبيّ .. أم تستغبي يا ولد ..؟؟؟

      - لا و الله .. صدّقني .. أنا مجنون تماماً .. و هل يمكن أن يكون عقلي في دماغي و أنا أعيش كأنّي رجل غابٍ منقرض بعثت في الحياة فوجدَ نفسه فجأة في القرن الواحد و العشرين ..؟؟

      - يبدو أنّك تصدّق نفسَك .. و تريدني أن أصدّقك أيضاً ..؟؟

      - و لمَ لا أصدّقها ..؟؟

      - لأنّك لستَ مجنوناً ..

      - ما شاء الله .. يعني حضرتك تعرفني أكثر منّي .؟؟؟

      - لا .. لا أملك هذا الشرف الرفيع .. لكني أعرف يقيناً أنّه لا يوجد مجنونٌ واحد على الأرض يقول لكَ بالفم الملآن : أنا مجنون ...

      - لمَ لا .. الجنون فنون كما يقولون ..

      - لكنّه جنونٌ في النهاية .. النهاية الحديّة المقابلة للعقل التي ينتفي فيها أي إدراكٍ للذات .. و عندما تدرك ذاتكَ فأنتَ بالضرورة عاقل .. و سيد العقلاء كمان ..

      - لا .. ليس بالضرورة .. نحن ندرك ذواتنا بشكلٍ فطريّ غريزي لا دخل للعقل المنطقيّ به ..

      - إلاّ هنا .. هل رأيتَ في حياتك مجنوناً يوقّع على وثيقةٍ يوضّح فيها أنّه بكامل قواه العقلية رجلٌ مجنون .. هل يمكن ذلك ..؟؟ هل تلتقي الأضداد في ذات الزمان و المكان يا ابن الحلال ..؟؟

      أطرقت مفكّراً . نعم .. هو محقّ .. حسبي الله و نعم الوكيل .. ذهب كلّ تعبي سدى من وراء هذا السكير الفيلسوف الذي أفسد عليّ جنوني .. أجبته بهمسٍ حزين :
      - يا خسارة .. بكلمتين اثنتين ضيّعت عليّ كلّ ما تعبتُ من أجله ..

      ربّت على كتفي بحزنٍ صادق .. و قال :
      - لا تحزن .. خذ لك رشفتين من هذه الزجاجة و أنا كفيلٌ لكَ أنك ستجنّ جنوناً لن تميّز به رأسكَ من قدميك .. ثمّ .. لماذا تريد أن تجنّ .. أخبرني ..

      - لماذا أريد أن أجنّ .. كلّ هذا و تسألني لماذا ..؟؟

      - لم أفهم ..

      - و لا أنا .. لم أفهم بعد كيف يسير هذا العالَم .. و كيف نستطيع أن نبقى محتفظين برؤوسنا و نحن نتعامل مع وجودنا بهذه القسوة و العدائية .. لا أستطيع أن أفهم لماذا نحن هنا .. و ماذا نفعل .. و كيف نستيقظ من هذا الدوار الذي يجتاحنا جميعاً كإعصار لا يتبدّد .. لا أستطيع أن أفهم طقوس الموت العبثي الذي يميتنا كلّ يومٍ آلاف الميتات .. لا أستطيع أن أفهم هذا الكمّ الهائل من الكراهية و الحذر و الترقّب الذي نحسبه ضرورة من ضرورات حياتنا التي أصبحت حرباً مستعرة لا تهمد نيرانها قط ..

      كلّ هذا و تسألني لماذا ..؟؟؟ الشمس التي تشرق كلّ يومٍ غير مباليةٍ بمن يريد أن يتلكّأ قليلاً في غفوته مستمتعاً بحلمٍ دافئ .. النجوم التي ما زالت في أماكنها تبرق رغم ملايين العيون التي تأمّلَتها أضحت فيما بعد جماجمَ فارغة .. الزمن الذي يسطو على أجسادنا فتنحني له ظهورنا الموجوعة .. اسم الله الكريم الذي نحلف به كاذبين و ننقشه على أبوابنا التي نرتكب وراءها الخطيئة الحادية عشر ..

      صدّقني .. أنا لا أفهم شيئاً .. لم أستطع أن أتفاهم مع هذه الدنيا التي وجدتُ نفسي فيها .. و لم يعرض عليّ أحد اتّفاقية هدنة مع هذا العالَم المتجهّم المعادي .. لذلك قرّرتُ أن أجنّ .. أن أخترع عالمي الشخصيّ جداً بنكهتي الخاصّة جداً .. و أقنع نفسي أنه العالَم الوحيد في هذا الكون و أني المخلوق الوحيد الذي يشعر فيه بالسلام و الأمن ..

      لماذا لا يكون الجنون هو الحالة الطبيعية للعقل في هكذا عالَم ..؟؟ ربمّا نحن جميعاً على الإطلاق مجانين حقيقيين يحسبون أنّهم عقلاء و أن العقلاء الوحيدين على الأرض هم أولئك الذين نحتجزهم مقيّدين في زنزانات الموت البطيء..!!!

      نظر إليّ نظرةً ساهمة .. ثم أطرق مفكّراً يتأمّل زجاجة الخمر التي كانت بين يديه .. و همس بصوتٍ هادئ ممازحاً :
      - لن أستطيع أن أسكر بعد اليوم .. حسبي الله و نعم الوكيل .. منّك لله يا بعيد ..

      لكن أتدري .. اذهب إليهم هناك .. في غرفهم القذرة و أسرّتهم الخشبيّة القاسية .. عِش معهم .. وسط الصراخ المحموم و الهذيان المرتجف رعباً و غرابة .. اذهب إليهم هناك .. في عوالمهم المدهشة و خدرهم الصامت و أشباح لياليهم العابثة .. ربّما .. ربّما تتعلّم منهم فنّ الجنون ..

      نهض واقفاً فجأة .. و أكمل :
      - من يدري .. ربّما ألحقك يوماً ما ..

      راقبته و هو يبتعد مترنّحاً .. رمى زجاجة الخمر على الأرض بعنف .. و بعد أن ابتلعته الظلمة تماماً ..
      أتاني خافتاً صوتُ نشيجٍ ليليّ حزين ..


      إليهم .. هناك ..


      يتبع ..[/align][align=justify][/align]

      تعليق


      • #4
        [align=right]يبدو أنّه من غير المحبّذ هذه الأيام أن تكون مجنوناً فلم يكن دخولي في تلك المصحّة العقليّة أمراً سهلاً كما كنتُ أخال .. لكن بعد الأخذ و الردّ , و المجيء و الرواح , و التوصيات و التعهّدات .. و التقارير التي تفيد أنني أصبحت أشكّل تهديداً للبيئة .. و مساعي المعارف و الأقارب الذين بذلوا جهداً حثيثاً في سبيل الخلاص منّي و من مشاكلي التي جلبت لهم الحرج و سوء السمعة .. استقررتُ مبتسماً محفوفاً بالسلامة في غرفةٍ صغيرة أتشاركها مع بعض الزملاء المجانين القدامى في قسم المرضى العقليين الميؤوس من شفائهم و الحمد لله ..

        و مهما أسهبتُ في وصف تلك الغرفة و ما تحفل به من مظاهر القذارة و الشقاء فإنّها – و الحقّ يقال – أفضل ألف مرّة من ذلك المقعد الخشبي الذي تكسّرت منه عظامي و تقلقلت له أضلاعي بعد طول تشرّد و ( تعتير ) , بالإضافة إلى الصحبة التي مهما قيل عنها فهي على الأقل تضمّني مع كائناتٍ لها ملامح بشريّة بعد أن يئستُ تماماً من تعليم العجماوات من قطط متشرّدة و كلاب ضالّة فنّ الكلام أو القدرة على التفاهم ..

        و ككلّ مبتدئ يجد نفسه فجأة في مكانٍ غريب بدأت أستطلع المكان و أتأمّل الوجوه عساني أجد وجهاً أليفاً يخفّف عنّي وحدتي و أبدأ معه الاعتياد على كلّ تلك الأشياء الطارئة المختلفة .. و بحذر أخذتُ أتمعّن في الوجوه من حولي حتى وقعت عيناي عليه ..


        اقترب منّي مبتسماً .. و بكل تهذيب حيّاني :
        - مساء الخير أستاذ ..

        - مساء الخير سيّدي ..

        مدّ يداً مرتجّة إليّ و صافحني بحميميّةِ صديقين التقيا بعد فراق .. و قال بلغةٍ راقية :
        - أرجو أن تكون بصحّة جيّدة .. أنا أخوك ( محمود ) .. زميلك في الغرفة و جارك هنا ..
        و أشار إلى فراش رثٍ يجاور فراشي الجديد الممهّد ..

        - تشرّفنا يا أخي .. أنا يزيد .. نزيل جديد هنا ..

        ثقبت عيناه عظام رأسي و هو ينظر في عينيّ مباشرة .. و دون أي مقدّمات و بشكلٍ مباشرٍ جداً .. قال مستفزّاً :
        - و لماذا لا تضحك يا يزيد ..؟؟؟

        - ماذا ..؟؟ ماذا تقصد ..؟؟

        - لماذا لا تضحك ..؟؟ سؤالي واضح جداً ..

        - لماذا أضحك .. عدم المؤاخذة ..؟؟؟

        - ألم تأتِ من الخارج لتوّك ..؟؟ يجب أن تضحك .. جميعنا ضحكنا جداً عندما أتينا لأوّل مرّة ..

        تحيّرتُ بمَ أجيب .. أطرقتُ قليلاً .. ثم رفعت وجهي باستحياء و أجبت :
        - ربّما لأني لستُ في مقامكم سيّدي .. لم أعتد أن أضحَك دون أن أجد ما يضحِك ..

        - كلّ ذلك و لم تجد ما يضحِك .. غريبٌ أنت .. كل ذلك الجنون في الخارج و لم تقع من طولك و أنتَ تقهقه .. الحظّ الذي ابتسم لكَ و انتشلكَ من لوثتك الحمقاء و أدخلك هنا لم تكافئه برقصة فرحٍ واحدة ..!!!

        - في الحقيقة أني .......


        قاطعني بصوتٍ عالٍ صائحاً :
        - ارقصوا يا ناس .. هيّا .. إلى الرقص أيّها المحظوظون ..


        أمسك بيدي بقوّة .. و بدا يرقص بحركاتٍ ارتجاجيّة عنيفة و يعلو و يهبط و يخبط الأرض كأنّه يريد أن يكسرها .. ثمّ التفّ بشكل مفاجئ حتى أصبحت عيناه في عينيّ تماماً و صرخ بي – و كانت يده ما تزال ممسكة ذراعي :
        - افهم يا ولد .. افهم أيها التعيس .. لن تستطيع أن ترى شيئاً و أنت فاتحاً عينيك .. افهم .. إن لم تستطع أن تضحك الآن .. فاخرج منها .. اخرج إلى حيث لا تستطيعون أن تضحكوا إلا حينما تكونوا أطفالاً .. اخرج إلى حيث تقيم للموتِ الأسود ألف مأتمٍ و مأتم و لا تقيم لضحكتك الصغيرة حفلةً واحدة .. اخرج أيها المجنون .. إلى حيث تبتسمون بشفاهكم المدمّاة و تضحكون بصدوركم المسودّة و ترقصون بأقدامكم المتعفّنة على إيقاعٍ غبيّ صامت , و تخافون أن يلمحكم أحدُ متلبّسين بجرم الابتسامة الصادقة و الضحك الحقيقيّ كي لا ينكشف ما تخفونه دواخلكم من ضعف و سذاجة و طفوليّة .


        و بشكلٍ مدهش .. انقلبت شحنته المكفهرة الغاضبة إلى وجهٍ لطيف متسامح خلال لحظةٍ واحدة , ارتخت قبضته القويّة على ذراعي .. و بكل لطف قال :
        - ألا نضحك الآن معاً .. رجاءاً ..

        خلال ثوانٍ قليلة استعرضت حياتي ( في الخارج ) كشريط سينمائيّ يمرّ أمامي بسرعة الضوء .. اكتشفتُ أنّه محقّ تماماً و أني كنتُ في منتهى الجنون حين لم أترك في ملامح وجهي ملمحاً واحداً عن ذكرياتِ ضحكةٍ حقيقيّة عابرة .. و أني منذ أن وعتني الذاكرة لم أحظَ من زمني كلّه بلحظةٍ واحدة أتخلّص فيها من حذري و همّي و حسي اللعين بالكآبة و الانكسار و الهزيمة ..

        لم أدرِ ما حدث بالضبط .. لكنّي فوجئتُ بنفسي فجأة أنفجر ضاحكاً و أنا أتطلّع إليه بفرح .. و فيما كنّا نقهقه سوياً كأطفالٍ يضحكون لنكتةٍ سماجةٍ لا تضحك أحداً تعانقنا بإلفةٍ غريبة .. وبعد أن انفصلنا نمسح عن وجنتينا دموع الضحك .. قال لي مبتسماً :
        - أرأيت .. هكذا يتعارف العقلاء .. أهلاً بكَ بيننا ..
        تعال معي الآن ... أقدّمك للمكان هنا .. انسَ كلّ ما تعلّمتَه قبلاً .. أغمض عينيك تماماً ..
        و تفرّج ..



        يتبع ..[/align][align=justify][/align]

        تعليق


        • #5
          [glow=ffcc00]لماذا نحن ملتصقين لهذه الدرجة بذاكرتنا و قواعد عقولنا الرصينة و عاداتنا الرتيبة في التفكير و الفعل و التفاعل مع هذا العالَم الصاخب من حولِنا ., لماذا نبقى هادئين جداً و كل أشياء وجودنا و مفرداته تصرخ و تشاغب و تتلاعب بحرية و طلاقة ..؟؟؟[/glow]

          تعليق


          • #6
            women
            **************
            لا أدري يا أختي ..
            تأتي عليّ أوقات أعترف فيها أنّي لا أستطيع أن أتعامل مع هذا العالَم بعقلي ... فأتركه في البيت و أخرج إلى الشارع فارغ الرأس ..
            الموضوع ليس سهلاً .. أعترف ..
            ليس من السهل على الإطلاق أن نمشي في الشوارع فارغي الرؤوس ..
            لكن .. ربّما هي أمتع طريقةٍ للحياة ..
            لنجرّب .. لن نخسر شيئاً بعدّ كلّ الذي خسرناه
            كوني هنا دوماً ...

            تعليق


            • #7
              [align=justify]اقتادني صديقي الجديد العم ( مـحمود ) من يدي بهدوء يعرّفني على الزملاء الذين سأقاسمهم الغرفة التي تقع في آخر الرواق و المخصّصةِ للمجانين غير الخطرين .. أوقفني أمام فراشٍ متّسخٍ ممزّق يجلس عليه رجلٌ ما أن وقعت عينايَ عليه حتّى بدأت أرتعد رهبة ..
              كان الرجل عملاقاً حقيقياً مع ملامح غليظة و جبهةٍ عريضة متجعّدة و حاجبين كأنّهما شاربين كثّين تاها على صفحة هذا الوجه الهائل فجلسا فوق عينين حادّتين برّاقتين تأسركَ بأشعّتها الناريّة و تخلق حولها نوعاً من المساحة المحظورة ما أن تتجاوزها حتّى تفرض عليكَ وصايتها فتجعلك فوراً طائعاً تأمرك فتجلس و تنهِضكَ فتنتفض واقفاً و تطردك فتطلق ساقيك للريح لا تلوي على شيء ..
              وقف ( محمود ) أمامه بكلّ تأدّب ..تناول يده و قبّلها خاشعاً .. و همس له :
              - مولانا .. هذا يزيد .. نزيل جديد هنا ..
              حوّل عينيه القاسيتين إليّ .. أخذ يتأمّلني بصمت و يستطلع ملامحي و تضاريس جسدي كأنه يريد أن يكتشف ما وراء لحمي و عظامي و أعصابي من أسرارٍ مجهولة .. ثمّ .. بصوتٍ عميق خرج من بئر سحيقة .. سألني :
              - قل .. أنتَ مِن هؤلاء .. أم مِن هؤلاء ..؟؟
              فغرت فمي دهشة .. لم أفهم شيئاً .. أطرقتُ حائراً فيمن يكون ( هؤلاء ) أو ( هؤلاء ) .. استبطأ إجابتي .. فصرخ بصوتٍ هادر :
              - قل يا هذا .. مِن هؤلاء .. أم مِن هؤلاء ..؟؟
              و بما أنه كان لا بدّ لي من أن أجيب .. و بما أن خيارات الإجابة كانت محدودةً جداً .. و بما أني لا أعرف من هم هؤلاء و لا هؤلاء .. فقد أجبت بصوتٍ مرتعد :
              - من هؤلاء يا مولانا .. أنا من هؤلاء ..
              أجابَ راضياً :
              - أحسنتَ .. لا مكان لـ ( هؤلاء ) بيننا ..
              حمدتُ الله في سرّي أني انتقيتُ الإجابة الصحيحة .. و أن هؤلاء ( الذين أنا من هم ) هم أصدقاء مولانا , بعكس هؤلاء ( الذين لستُ منهم ) و الذين يكرههم مولانا بشدّة لأسبابٍ لم أعرفها بعد ..
              قاطع الصمت بيننا .. و سألني :
              - كيف هم في الخارج ..؟؟؟
              لا حول و لا قوّة إلا بالله .. ماذا يريد هذا الـ ( مولانا ) أن يعرف من وراء هذا الحديث السريالي .. تمتمتُ بصوتٍ خفيض مستعجلاً إنهاء الحوار :
              - بخير .. هم بخير يا مولانا و الحمد لله ..
              - بخير ..؟؟ البلهاء يحسبون أنّهم بخير .. أما زالوا يركعون و يسجدون و يمتنعون عن الطعام و الشراب ..؟؟؟
              - نعم .. صحيح .. هم يصلّون و يصومون يا مولانا ..
              اختلجت ملامحه بغضب .. ضاقت عيناه الحادّتين كنسرٍ عجوز .. و صرخ :
              - لا .. قليلٌ منهم من يصلّي و يصوم يا أبله .. قليلون هم و الله ..
              لُذتُ بالصمت متحسّباً من ردٍّ قد يُغضبُ مولانا عصبيّ المزاج .. أما هو فأكمل :
              - أما زالت الشياطين تتجوّل في الشوارع و تنام في البيوت على الأسرّة الطريّة ..؟؟ أما زالت تتسوّقُ مع الناس و تهدي لهم وروداً حمراء في أعيادهم السعيدة ..؟؟ كنتُ أراها بعينيّ .. أطردها كلّما شاهدّتها تقف على أبواب المساجد و ألعنها كلّما صادفتُها ترتدي وجه مضيفةٍ حسناء و أرجمها كلّما وجدتُها تصادق الأطفال و تنتظرهم ريثما يكبرون قليلاً ..
              أجبتُ متردّداً :
              - و الله أنا لا أعلم شيئاً عن الشياطين .. لكنّي أرى الناس يصومون و يصلّون بحمد الله .. هذا مبلغ علمي يا مولانا ..
              نهض كالملسوع فجأة و وقف أمامي بقوامه العملاق , نظر إليّ بتحدٍّ و كلّ عضلةٍ في وجهه المتجعّد تختلج غضباً و غيظاً .. و استمر يصرخ بي :
              - أيّها الجاهل .. لمن يصلّي هؤلاء ..؟؟ لله .. أم لأصنام شهواتهم التي تتّسع ألف مجرّة ..؟؟ للّه .. أم في معابد جهلهم و غرورهم و كراهيتهم التي تلوّث جوّ هذه الأرض الكئيبة ..؟؟ للّه .. أم بين أيدي نفاقهم و لؤمهم الذي صنعوا له أيقوناتٍ فهم عليها عاكفون ..؟؟؟
              أيّها الجاهل .. كيف يسجد لله من لم يبكِ مرّةً أمام الله ..؟؟ كيف يركع من لم يستحضِره في وجدانه محبّة و خشوعاً و بسمةً راضية ..؟؟ كيف يصوم لربّ الناس من لم يعرف محبّة الناس في قلبه ..؟؟
              أيّها الجاهل .. لم يعرف السجود من سجدت جبهته على المرمر البارد و لم تتعفّر بتراب الحبّ و غبار الصفا .. لن يعبد الله إلاّ من يعرف الله , و لن يعرف الله إلاّ من يحبّ خلق الله ..
              أيّها الجاهل .. افهم .. من لم يبكِ على الناس كما يشهق خوفاً على نفسِه فهو لا يبكي إلاّ بعينيه .. و من لم يقبّل جراحاتِ الناس بشفتيه فهو لا يدعو الله إلاّ بشفتيه ..
              أيّها الجاهل .. تأمّل .. من لم تعرج روحه في برزخ الحبّ و يكتوي قلبه بماء الوجد و ترمد عيونه بدموع الشوق فصلاتُه صلاة الجوارح و صيامه صيام الجسد ..
              أيّها الجاهل .. أنظر .. ألف فراشة تحوم حول النار تريد أن تستبين منبع النور لكن فراشة واحدةٌ فقط توقن معناه .. حين تحترق ..
              أيها الجاهل .. اسمع .. لا يعرف من يظنّ أنّه يعرف .. و لا يوقن الحقائق إلاّ الصامتون ..
              أيّها الجاهل .. من أحياها كأنّما أحيا الناس جميعاً .. فكيف يملؤون الأرض دماءاً و موتاً و غضباً و كراهيةً سوداء ..؟؟
              أيّها الجاهل .. إلاّ من أتى الله بقلبٍ سليم .. فكيف يملؤون قلوبهم حقداً و حسداً و غروراً و أفاعٍ تفحّ بسمومها الصفراء ..؟؟
              أيّها.............
              صمت فجأةً و هو يحملق بي .. ثم بدأ يدندن بصوتٍ خفيض :
              مولاي .. إني ببابكَ قد بسطتُ يدي ..
              من لي ألوذ به إلاّك يا سندي ..
              مهما لقيت من الدنيا و عارضها ..
              فأنتَ لي شغلٌ عمّا يرى جسدي ..
              مولااااااااااااي .......
              أقفل عينيه عن أهدابٍ مبتلّة .. أمسك بيدي المستسلمة تماماً .. هزّني و هو يقول :
              - قل معي .. قل يا بنيّ .. قلها حتّى القيامة ..
              لا إله إلاّ الله .. لا إله إلاّ الله .. لا إله إلاّ الله ..
              دون أن أشعر بنفسي وجدتني أردّدها معه بإيقاعٍ رتيبٍ خاشع .. و شيئاً فشيئاً بدأنا نتمايل سويّاً على وقع هذه الكلمات الحبيبة .. أغمضتُ عيناي فانكشفت أمامي خيالات من نور هائم تتمايل بعذوبة و رقّة و أطيافٍ ملوّنة تنداح حولنا راقصةً تنشد معنا هذا النشيد الخالد ..
              لا أدري كم بكيت معه .. لكني اكتشفت في هذه اللحظة أن الخطوة الأولى نحو الله هي حين نتقن فنّ البكاء , و أن العيون الدامعة هي وحدها التي تستطيع أن ترى الحقائق و تكشف الأسرار و تبصر المعاني ..
              عندما فتحتُ عينيّ وجدت نفسي على سريري القاسي و عم محمود يمسح وجنتيّ المبلّلتين و هو يهمس بحنوّ :
              - الحمد لله .. مرّت زيارة مولانا على خير .. غيرك كان راح فيها .. هيّا .. نم قليلاً و أرِح بدنك .. و سأعرّفك لاحقاً على الأستاذ عزّوز .. حبيب الجميع هنا ..
              تصبـح بألف خير ..
              يتبع ..[/align][align=right][/align]

              تعليق


              • #8
                تسلمين ابوي على هالموضوع

                يعطيك الف عافيه

                ثـ ـ ـآآآنـ ـ ـكـ ـ ـس

                موضوع مميز

                اقدر كل شكري واحترامي

                عساك على القوه يريت تتميز في التنسيق

                وتقليل الفكر لكي تصل الفكره كامله غير مشوشه

                تعليق


                • #9
                  [align=center]
                  المشاركة الأصلية بواسطة محتًآجَگْ خٌ ـفًوقٌيٍ? مشاهدة المشاركة
                  تسلمين ابوي على هالموضوع
                  يعطيك الف عافيه
                  ثـ ـ ـآآآنـ ـ ـكـ ـ ـس
                  موضوع مميز
                  اقدر كل شكري واحترامي
                  عساك على القوه يريت تتميز في التنسيق
                  وتقليل الفكر لكي تصل الفكره كامله غير مشوشه
                  انا رجل ياخي الكريم ، لقد خدشت رجولتي في كلامك الجاْرح ..

                  حسنن ً سيدي ، سوفا ً اقلل من الفكر كي تصل الفكره كامله ..

                  ولكن أعتقد ان الفكره واضحه تماما .. ياجميل :

                  دمت سالماً

                  انت وخفوقك : الذي تحتاْجه

                  كون دوماً هنا ياسيدي .. [/align][align=right][/align]

                  تعليق


                  • #10
                    [align=center]
                    السلام عليكم
                    اخي الكريم
                    هنياً لك هذا الفكر الرائع
                    فرائع ماقراته بين سطورك
                    وجميلة هي كلماتك
                    لا تبخل علينا بحروفك
                    ..
                    لك مني الاحترام
                    دمت مع من تحب ويحبونك
                    ...
                    [/align]
                    عندما تحين لحظة الفراق
                    تضيع منا الحروف
                    يصبح الصمت رائعاً
                    هنا أتوقف
                    لا أعلم لماذا ..؟؟

                    تعليق


                    • #11
                      [align=right]الأستاذ عزّوز .. أستاذ التاريخ و أجدع واحسن وافضل واطلق على الأطلاق جغرافيّ في الدنيا ... يزيد .. وافدٌ جديد هنا ..
                      هكذا قدّم لي العم محمود الأستاذ عزوز .. أستاذ التاريخ السابق و المجنون حالياً ..

                      ابتسمت له و أنا أتأمّل وقفته الغريبة أمام الحائط الذي كان يشخبط عليه كلماتٍ متناثرة متكّئاً بكليّته على ساقٍ واحدة واضعاً قدمَه الأخرى على ركبته .. و باعتباره أستاذاً فقد أبى إلاّ أن يرتدي فوق رداء المرضى الأخضر الذي نرتديه جميعاً منشفةً زرقاء ممزّقة حول عنقه الممتلئ بعد أن فتلها و برَمَها و عقَدَها لتصبح شيئاً ما يشبه ربطة عنق ..

                      استدار ليواجهني و هو ما يزال واقفاً على قدمٍ واحدة .. ابتسم لي ابتسامة طيّبة .. و قال لي بصوتٍ رفيع :
                      - يزيد .. يزيد .. سمعتُ هذا الاسم من قبل .. أين يا عزّوز .. أين ..!!!!
                      و قبل أن أفتح فمي .. عاجلني :
                      - آه .. نعم .. تذكّرت .. هل صلة قرابة مع الاسكندر المقدوني ..؟؟
                      - ماذا ...؟؟؟
                      - الاسكندر المقدوني يا رجل .. الاسكندر ( ما غيره ) .. أليس قريبك بالله عليك ..؟؟

                      حملقتُ به مدهوشاً و أنا أتساءَل عن وجه الشبه بين اسمي العزيز و الاسكندر المقدوني سوى أن حرف الدال يأتي الثالث و يختم الثاني .. ثم أجبتُ مبتسماً :
                      - في الحقيقة فإن معرفتي بسلالة عائلتي المجيدة لا تتجاوز الجد الرابع أو الخامس على أبعد تقدير .. أمّا قبل ذلك فعلمها عند ربّي ..

                      قال مصرّاً :
                      - لا .. لا .. تمحّص جيّداً في شجرة عائلتكم .. لا بدّ أن نسلكم ينحدر من الاسكندر .. لا بدّ .. أنا لا أخطئ في هذه الأمور ..

                      - خلاص .. أنت حرّ .. لكني حسبما أعرف عربيّ ابن عربيّ حفيد عربيّة .. و لم يخبرني أحدٌ من قبل أني أعود في أصولي إلى قرصانٍ من جزيرةٍ يونانيّة ..!!!

                      - آهه .. أخبروك ..!! ما شاء الله .. يخبرونك الأكاذيب فتصدّقهم و يصارحكَ الأستاذ عزّوز بالحقيقة فتكذّبه .. آه منّك يا زمن .. مؤرّخين عرّة ..

                      قرصني العم محمود من خاصرتي و نظر إليّ نظرةَ عتابٍ و تنبيه ألاّ أثير حفيظة الأستاذ أكثر من ذلك .. فهو أستاذ تاريخ في النهاية و ليس من اللائق أن أتحدّى خبرتَه حتّى لو قال لي أن جدّي الأكبر هو حمورابي بذاته ..

                      قلت له محاولاً أن أعتذر بطريقةٍ لبقة :
                      - عفواً أستاذ .. لم أقصد تكذيبك .. نعم .. ربّما كان الاسكندر المقدوني أحد أجدادي .. منكم نستفيد أستاذي ..

                      انفرجت ملامحه العابسة قليلاً .. و تحدّث بصوتٍ رصين :
                      - نعم يا بنيّ .. أنتَ من عائلة المقدوني .. عليكَ أن تعمل جاهداً لتفعل شيئاً مميّزاً يذكركَ به التاريخ و ترفع رأسَ أحفادك بين الناس خصوصاً أنّك تنتسب لهذه العائلة المغمورة متواضعة النسب ..

                      بدأ الدم يغلي في رأسي .. فهذا المحترَم لا يعجبه نسل الاسكندر الذي وضعني رغم أنفي في قائمة أحفاده .. تجاهلت تحذير العمّ محمود و قلتُ متهكّماً محاولاً استفزازه :
                      - نعم .. ماذا أفعل .. نصيبي و قسمتي أن أكون من هذه الأسرة ( الشرشوحة ) .. و حضرتك .. لمن تنتسب و لا مؤاخذة .. لأفلاطون .. أم لحتشبسوت ..؟؟

                      - لا .. أفلاطون مين يا بني و سقراط مين .. أنا و لا فخر .. و بكلّ تواضع .. أعود في نسبي إلى المعلّم ( شنخر ) بحدّ ذاته ..

                      توسّعَتْ أحداقي و أنا أنظر إليه بدهشة ..
                      - مين ..؟؟

                      - المعلّم شنخر يا بني .. شنخر على سن و رمح ..

                      - شنخر ..؟؟

                      - أي نعم .. هو بذاته ..

                      تلفتّ حولي و أنا أبحث عن أحدٍ يسمع ما أسمع فيعينني على مناقشة هذا الغبي الذي يتفاخر بأنّه من أحفاد المدعو ( شنخر ) .. فوجدت العم محمود واقفاً مغمضاً عينيه و يهزّ رأسَه علامة الموافقة و الاعتزاز هامساً بإعجاب :
                      - أنعم و أكرم .. هكذا العائلات الأصيلة و إلاّ فلا .. ما شاء الله ..

                      لا حول و لا قوّة إلاّ بالله .. من هذا الـ ( شنخر ) الذي يبدو أمامه المقدوني قزماً لا يتطاول إلى مقامه الرفيع ..؟؟

                      سألته كاظماً غيظي :
                      - عفواً أستاذ .. معلوماتي التاريخيّة قاصرةٌ للغاية ... فهلاّ تكرّمتم و أخبرتموني من هو السيّد ( شنخر ) و ما مدى تأثيره في التاريخ ..؟؟؟

                      أجابي مبتسماً ابتسامة الواثق المطمئن :
                      - المعلّم شنخر يا بني .. كان يعمل صبي حلاّق في قريةٍ صغيرة سومريّة ..

                      قاطعتُه مستهزئاً :
                      - ما شاء الله .. و نِعمَ النسب ..

                      أكمل دون أن يلتفت إلى سخريتي الواضحة :
                      - و بينما كان في مغارته منهمكاً في عمل التدريجة على قفا الزبون برقَت في رأسه فكرةٌ وضعته على الفور في قمّة المجد الذي تتوارثه عائلتنا أبّاً عن جد .. خطرَ له أن يحفر بضعة سنتيمتراتٍ في الأرض و يضع فيها حبّتان من القمح البريّ و يطمرهما بيديه .. و للمرّة الأولى تشاهد الإنسانيّة سنابل ذهبيّة مزروعة من القمح الذي أصبح على الفور طعامها الأوّل الذي لا يمكن أن تستغني عنه ..
                      منذ تلك اللحظةِ تغيّر العالَم إلى الأبد و لم يعد كما كان ..
                      منذ تلك اللحظة بدأ الناس يدركون أن ثمّة قيمة لهذه الأرض الممتدّة بلا نهاية لا يمكن تقديرها على الإطلاق .. و حينها فقط بدؤوا يتجمّعون ليزرعوا و يحصدوا ما كان موجوداً أمام عيونهم قروناً طويلة و لم يكتشفه إلا المعلّم ( شنخر ) بعبقريّته ..
                      هذا هو جدّي الأكبر يا بنيّ .. و هذا هو شرف عائلتي المجيد ..

                      ممعناً في استهزائي .. قلت :
                      - اللهم صلّ على النبي .. و فوق كلّ هذا الإبداع فهو متواضع للغاية فقد أبى السيّد ( شنخر ) أن يُذكَر اسمه في كلّ كتب التاريخ و أيٍّ من مدوّنات المؤرّخين ليبقى محفوظاً في نطاق عائلة ( الشناخرة ) فقط .. أي تواضع هذا ..!!!!

                      و للمرّة الأولى منذ أن تعارفنا أنزل قدمه المستلقية على ركبته إلى الأرض .. و بدا عليه الاهتمام و التحفّز .. و قال :
                      - كتب التاريخ ..؟؟ أي كتبٍ يا بنيّ هذه ..؟؟ أي كتب تغفل عن ذكرِ من زرع الغرسة الأولى و من شيّد البيت الأوّل و من درّس التلاميذ الصغار للمرّة الأولى ..!!

                      أي كتبٍ هذه التي تتجاهل أسماء أوّل من قدَحَ الشرَر فأضرم النار , و من حرث الأرض فأطعم الجياع , و من فتل القطن فكسى العراة ...!!!

                      هؤلاء من صنعوا التاريخ الحقيقيّ يا بني .. هؤلاء .. فقط ..

                      هؤلاء المجهولون جداً .. المغمورون للغاية .. الذين لا يعرفهم أحد .. و لا ينطق باسمهم أحد .. الذين عبروا بهدوء بعد أن جاسوا في الأرض خلال لحظاتِ عمرهم القصير فوهبوا تعبَهم و وجعهم و خوفهم و لياليهم المرتعدة و عيونهم النازفة لكلّ من سيأتي بعد ..

                      يا ولدي .. على ثرى هذه الأرض التي نطؤها بغرور و كبرياء , و نمارس فيها حماقاتنا و عبثنا الجنونيّ , و نفعل فيها ما تشاء لنا ساديّتنا و وحشيّتنا الذئبيّة .. تنطمر ذرّاتٌ أليفة لأجساد مليارات البشر الذين مرّوا بسلام .. و عانوا بصمت .. و حزنوا دون بكاء .. و صرخوا دون صدى .. و عملوا دون ضجيج .. و ماتوا دون أن يدفنهم أحد ..

                      يا ولدي .. على هواء هذه الأرض الذي لوّثناه بسمومنا و سخامنا و أنفاسنا الصفراء .. ما تزال تتعلّق بَسَماتٍ صغيرة و أحلام مكسورة و آمالٍ مبتورة و أغانٍ لم تكتمل و بحّة نايٍ شجيّة عزفها ذات يومٍ بعيد شابٌ يتجوّل في البريّة لدغه عقربٌ أسود فبقي نايه اليتيم مرميّاً يرثي الشفاه اليافعة التي التهمتها ضباع الغاب المتوحّشة ..

                      يا ولدي .. لو أنصتَّ للتاريخ الحقيقيّ لسمعتَه يحكي حكاياتٍ لم يروِها أحدٌ عن أبطالٍ مجهولين لم يبنوا أهراماتٍ ليموتوا فيها , و لا معابدَ مذهّبة ليصلّوا فيها , و لا صروحاً من رخام لينقشوا أسماءَهم عليها .. هم أبطالُ حكاياتهم الخاصّة جداً التي لا تقل إثارة و روعة عن إلياذة هوميروس و حكايا الشهنامة و أحداثِ ألف ليلة و ليلة ..

                      يا ولدي .. التاريخ الحقيقيّ صنعه أناسٌ طيّبون .. يُطفئون الحرائق و يزرعون الأرض مرّة بعد مرّة رغم أنفِ هواة القتل و مدمني الدم .. يحمّلون سفنهم الرثّة قمحاً و شعيراً و توابل و يركبون البحر المائج ليموتوا على الشطآن المجهولة .. يحرقون ألف جثّة و جثّة ليذوّبوا الحديد و يجعلوا منه دروعاً و عرباتٍ و مسامير لنعوشهم الحزينة ..

                      هؤلاء هم من صنعوا التاريخ يا ولدي .. هؤلاء .. فقط ..

                      يا ولدي .. مَن صنَعَ التاريخ لم يكتبْه .. و مَن كتَبَه لم يصنعْه ..

                      هل فهمت الآن ..؟؟؟

                      لم أحِر جواباً بل بقيت أنظر إليه بوجوم فيما كانت أنفاسي تتلاحق مبهورة .. أعاد رفع قدمه ليقف على ساقٍ واحدة .. استدار ناحية الحائط و قال دون أن يلتفت إليّ :
                      - اذهب الآن .. اذهب يا ابن المقدونيّ .. اعمل شيئاً نافعاً في دنياك و لا تقلّد جدّك الأكبر الذي مضى دون أن أي أثر ..
                      اذهب ..

                      أمسكني العم محمود من ذراعي و جرّني بعيداً عن الأستاذ الذي واصل شخبطاته على الجدار القذر .. جلس قربي على السرير .. و قال مواسياً :
                      - لا تكتئب .. لا تبالِ بكلامه ..
                      لا تنسَ .. هو مجرّد مجنون .. يهذي ..




                      يتبع ..[/align]

                      تعليق


                      • #12
                        [align=right]demon of dark

                        العيون الطيّبة ترى كلّ شيئٍ طيّباً ..
                        ربّما لهذا السبب وحده أنتِ ترينَ شيئاً ما جيّداً هنا ..

                        ألف شكر ... على مرورك الجميُل ..[/align]

                        تعليق


                        • #13
                          [align=right]تكن الأيّام في المصحّة العقليّة التي أصبحتُ من نازليها تسير على وتيرة واحدة روتينيّة كما بالخارج , و اعتدت تدريجيّاً أنّ كل صباحٍ يحمل طارئاً قد يكون مهمّاً و أنّ ساعةً واحدة في هذا الزمن الفوضويّ قد تقلب الأمور رأساً على عقب دون أي قابليّة للتنبّؤ أو التحكّم ..

                          و في ليلةٍ كانونيّة بعد أن انطفأت أنوار الغرف الشحيحة و استعدَدنا – نحن النزلاء - لخوض مغامرتنا المثيرة المقبلة في الحلم الآتي بعد قليل , اندسستُ في سريري ممنيّاً نفسي بحلمٍ هانئ ليس فيه ضباعٌ و لا وحوش و لا أبنيّة مرتجفة ما أن تصعد على سطحها حتّى تنهار تحت قدميك .. فوجِئتُ أن الحاج محمود صديقي الوحيد الذي كان ما يزال يجلس على فراشه المهلهل لم يجبني كعادته على تحيّة المساء و لم يتدثّر مثلنا بألحفتنا السميكة الذي انطمرنا جميعاً تحتها مرتجفين مطقطقين , بل بقي صامتاً مطرقاً يتأمّل العتمة التي ابتلعت الغرفة في النهاية تماماً ..

                          بعد هنيهة , و قبل أن أنفصل تماماً عن هذا العالَم إلى عالمِ حلمي المرتقَب انتفضتُ هلعاً من سريري على صراخٍ يدوّي جانبي ليقطع صمت الليل بقسوة , و ببقايا ضوءِ ذابل شاهدتُ الحاج محمود يقفز على سريره بخوفٍ و يلاكم الهواء و كلّ ما فيه يرتجفُ رعباً و هو يصرخ مستعيناً بأسماءَ غريبةٍ مجهولة أن تبعِدَ عنه تلك الأشباحِ السوداء التي تهاجمه تريد أن تقتلع قلبه و تفقأ عينيه ..

                          أمسكتُ به محاولاً أن أهدّئ من روعه و أن أخفّف من هذا الخوف الشيطاني المبهم الذي شلّه تماماً , لكنّه لم يرَني بل التجأ إلى حافّة السرير و تكوّر على نفسه مرتجفاً بعنف مخفياً وجهه بين ذراعيه و هو يتمتمُ كلماتٍ غامضة و ينشج برعبٍ لا يمكن تصوّره ..

                          لم يتحرّك أحدٌ سوايَ من سريره و بقي الجميع هاجعين تحت أغطيتهم , إلاّ أن مولانا الذي كان يتمدّد في صدر الغرفة على سريره صاح بصوتٍ خشن :
                          - هل لحقوا بكَ إلى هنا يا محمود ..؟؟ هذه الشياطين الملعونة .. ألا تعرف أنني هنا ..؟؟؟ اطردهم يا بني .. صِح بهم أن لا مكان لهم هنا .. مكانهم في الخارج .. فقط ..
                          و اختفى تحتَ لحافه مغمغماً أدعيته الأثيرة ..

                          فيما تلى من أيّام اختفى العم محمود تماماً .. قيل لي أنّهم نقلوه إلى قسمٍ آخر .. و أن الأطياف المخيفة التي فاجأته تلك الليلة سيطرت عليه تماماً .. و أنّه الآن في زاويةٍ ما .. في غرفةٍ ما .. يتكوّر على نفسه خوفاً و يبكي بألم صارخاً طالباً العون و المساعدة من أحدٍ ما ..

                          منذ تلك الحادثة تعلّمتُ أن لا أثق باللحظة الراهنة إطلاقاً , و لا بالأشخاص الراهنين , و أن كلّ لحظةٍ هنا تحمل احتمالاتٍ مذهلة لتغيير كلّ شيء دفعةً واحدة و طمس كل الملامح التي اعتدناها و الوجوه التي ألِفناها و العادات التي اعتدنا أن نمارسها كطقوسٍ مقدّسة ..


                          و تعلّمتُ أيضاً أنّه في أعماقِ كلّ منّا يكمن رعبٌ ما من شيءٍ ما , يجثم بعيداً في الزوايا المختبئة داخل تلافيف أدمغتنا يترقّب بخبث منتظراً أن تنطلق شرارة الجنون الصغيرة لينتفخ فجأة و يتضخّم و يسيطر علينا كأفعى سوداء تعتصرنا بحقدٍ و عنفٍ و شراسة ..

                          و هكذا وجدتُ نفسي وحيداً بعد أن فقدتُ صديقي الأقرب الذي كان يخفّف عنّي شيئاً ما من وحشةِ هذا المكان , و بدأتُ أتجوّل منفرداً أستطلع الأشياء من حولي محاولاً أن أتلمّس تأثير المكانِ على عقلي و أفهم إن كان يمكن للجدران الصامتة و الممرّات الخاوية و خشب الأبواب المهترئة أن تمارس لعبتها عليّ فتلتصق بذاكرتي لتمحوها ببساطة و تستولي عليها تماماً ..؟؟

                          دون قصد قادتني قدماي المتعبتان إلى مكتبة المصحّة , جلستُ هناكَ في الغرفة الصغيرة الفارغة , و وضعت بين يديّ كتابٌ لم أهتمّ كثيراً بانتقائه - بعد أن فقدت الثقة بالكتب إلى حدٍّ ما – و أخذت أقرأ دون اهتمام و أنا أراقب بين الفينة و الأخرى عبر النافذة الموصدة ذبابةً صغيرة ترتطم – للمرّة الألف – ببلّور النافذة الشفّاف و هي تحاول عبثاً أن تدخل لتحتمي من البرد القارس في الخارج ..

                          يومها ... صادفته ..


                          يتبع ..[/align]

                          تعليق


                          • #14
                            [align=right]لفت انتباهي صوت صلصلة يأتي من باب الغرفة , التفتّ لأشاهد أحد النزلاء يسير نحوي بخطى قصيرة جداً متعثّراً بشكلٍ غريب حاملاً كتاباً سميكاً بين يديه و في أقدامه سلسلةٌ معدنيّة تقيّد حركته بإحكام ..
                            و دون أي مقدّمات .. جرّ كرسيّاً إلى جواري و جلس , و بعد أن وضع كتابه على الطاولة أمامه و فتحه إلى صفحةٍ ميّزها بقطعة قماشٍ قذرة , نظر إليّ صامتاً متأمّلاً و دون أي كلمة انهمك فوراً بالقراءة ..

                            و رغم أني تضايقتُ من جلوسه جواري مباشرةً دون سابق معرفة إلاّ أنّه من غير اللائق أن أغيّر مقعدي الآن - خصوصاً أني لا أعرف بالضبط ردّ الفعل الذي سيواجهني في هذه الحالة – و بقيت أطالع كتابي دون اكتراث و أراقب هذه الذبابة التي لم تملّ بعد من الارتطام بالنافذة ..

                            بعد لحظات .. و دون أن يرفع عينيه عن الكتاب الذي يقرأه باهتمام بالغ .. سمعته يسألني :
                            - ما رأيك .. ماذا نفعل بها ..؟؟

                            تطلّعتُ إليه بدهشةٍ و استغراب .. و أجبت :
                            - من هي ..؟؟؟

                            لم يحرّك ناظريه عن الكتاب , و قال بجديّة :
                            - هذه الذبابة .. ماذا ترى أن نفعل بها ..؟؟

                            ألقيتُ نظرةً على الذبابة التي كانت تستريح قليلاً من مناطحتها لهذا البلور العنيد , ثمّ حوّلت عيني إليه و قلت :
                            - لا أدري .. هل هناك شيء ما ينبغي علينا أن نفعله ..؟؟؟

                            بقي متجاهلاً النظر إليّ و قال و هو يقلب صفحة إلى أخرى :
                            - إن لم نفعل شيئاً أنا أو أنت .. ماذا سيحدث .. ما هي الاحتمالات التي أمام هذه الذبابة إن لم نتدخّل الآن ..؟؟

                            قلتُ مراقباً الذبابة التي عاودت محاولاتها الحثيثة :
                            - إمّا أن تغيّر رأيها و تنصرف بعيداً أو أن تجد نافذة أخرى مفتوحة لتدخل منها .. لا يمكن أن تبقى تناطح البلور إلى الأبد ..

                            انتبه فجأة على كلماتي و رفع عينيه إليّ للمرّة الأولى .. و قال بلهجة غامضة :
                            - لا .. لقد أغفلتَ احتمالاً ثالثاً ..

                            - ما هو ..؟؟

                            - أن تموت .. برداً أو سحقاً .. صح ..؟؟

                            - نعم .. صحيح .. لكني لا أعتقد أنها يمكن أن تودي بنفسها إلى الهلاك هكذا ببساطة ..

                            - أنتَ تظنّ ذلك .. هي لا تفكّر بهذه الطريقة .. القضيّة بالنسبة لها حياة أو موت .. أما بالنسبة لك فهي مجرّد ذبابةٍ عنيدة ..

                            - هل تعتقد أنّها يمكن أن تبقى تخبط على النافذة حتّى تهشّم نفسها ..؟؟؟

                            - بكلّ بساطة .. إن لم تفعل ذلك فهي تستحقّ أن تموت برداً ..
                            .
                            - حسنٌ .. دعنا إذاً لا نتدخّل في خياراتها و لتقرّر هي ما تريد أن تفعل ..

                            - لكنّها ليست بذكائنا و لا ترى ما نرى .. هي لا تبحث عن نافذةٍ أخرى .. سوف تستمر بالطرق على النافذة حتّى النهاية ..

                            - يعني ..؟؟

                            - يعني أننا ندرك خياراتها أكثر ممّا تفعل , و نستطيع أن نتدخّل في مسار هذا الحدث لنجعله أكثر منطقيّة .. ما رأيك ..؟؟

                            قلتُ – و أنا أزفر متأفّفاً من هذا الحديث الذي بدا لي سفسطائياً - :
                            - حسنٌ ... قل لي .. ماذا تريد أن نفعل ..؟؟

                            نظر إلى النافذة طويلاً و هو يتأمّل هذه الذبابة المسكينة تحاول أن تتشبّث بالبلور البارد .. و قال ساهماً :
                            - يا الله .. كم نضطر أن نفعل ما لا نريد أن نفعله أحياناً ..!!

                            حوّل عيناه اللامعتين إليّ .. و أكمل بحزم :
                            - ببساطة .. إن لم تستطع أن تخترق النافذة بعد دقائق .. فسأسحقها بين أصبعيّ ..

                            نهض فجأة من مقعده , و اتّجهت خطواته المقيّدة الصغيرة إلى النافذة و صليل السلاسل على البلاط المصقول يهتك صمت الغرفة الهادئة .. اتّكأ على النافذة بمرفقيه ... و بدأ صوته يتغيّر شيئاً فشيئاً و هو يقول :
                            - نعم .. إن لم تستطع أن تخترق هذا الحاجز غير المرئيّ الذي ينتصب أمامها فهي لا تستحق أن تعيش أكثر .. لا مكان لهؤلاء في هذا العالَم .. لا مكان لمن يجلس في مكانه متذمّراً متعامياً عن رؤية خياراته أمامه و يطالب الآخرين أن يهبوه عيونهم ليرى ما لا يستطيع أن يراه مصرّاً بغباء أنّه لا يستطيع أن يفعل إلا ما يستطيع أن يفعل فقط ..

                            لا مكان في الأرض لمن يحسبها فندقاً صغيراً من فنادق الدرجة الثالثة يأكل فيه بضع لقيمات على عجل و ينام ليلةً سريعةً كيفما اتّفق و يرمي فيه قاذوراته و أوساخه و فضلاته و يرحل بكلّ بساطة ..

                            كلّهم كانوا كذلك .. كلّ من غرستُ خنجري في صدره كان لا يستحق أن يبقى هنا .. لم يكن الأمر شخصيّاً على الإطلاق .. لم يؤذوني قطّ .. لكنّهم ببساطة كانوا إضافةً غير ضروريّة في هذه الدنيا ..

                            يا إلهي .. أنا في حضرة سفّاح مجنون في غرفة فارغة وحدنا لا تفصل بيننا إلاّ خطواتٍ صغيرة .. لفّتني قشعريرة باردة و أنا أحملق في الطاولةِ أمامي مرتعداً حائراً في هذا المأزق الذي وجدتُ نفسي به .. و دون قصد ألقيت نظرة على الكتاب المفتوح الذي كان يقرأه .. قفزتُ من مكاني كالملسوع .. كان الكتاب مقلوباً رأساً على عقب .. وقفتُ مشلولاً دون حراك بينما أكمل هو حديثه :
                            - هل أخبركَ عن الرذيلة التي لا يكاد يعرفها أحد ..؟؟ هل تعرف ما هي الخطيئة الثامنة التي لم ترِد في أي كتاب مقدّس و لم يذكرها الفلاسفة في كتبهم العتيقة ..؟؟

                            هي الغباء يا صديقي ...الغباء الذي يعمي عينيك عن رؤية حقائق الأشياء كما هي بالضبط و يغلق مساحة الرؤية أمام عينيكَ فلا ترى إلاّ ما تراه هذه الذبابة فقط دون أن تحاول مرّة واحدة أن تحطّم هذا الحاجز الشفّاف الذي يحيط بكَ من كلّ ناحية و تتحرّر من دائرتكَ الشخصيّة الضيّقة جداً ..

                            هل تستطيع أن ترى الشرّ في قلوب الناس ..؟؟ أخبرني .. هل تستطيع أن تكتشف ما يخبّئون وراء ابتساماتهم العذبة و كلماتهم المجامِلة ..؟؟ هل تقدر على أن تنتزع من عيونهم النائمة نظرات الغباء و الكراهية و الحقد و الغيرة و الشهوة الدفينة ..؟؟؟

                            أنا أمتلك هذه الموهبة و كنتُ أرى كلّ شيء .. كلّ شيء على الإطلاق مكشوفٌ و مباح لعينيّ هاتين دون أي حدود أو حواجز .. لم يكونوا بشراً وقتها و لم يكن لي أن أعاملهم كبشر ..

                            كان لا بدّ لي أن أفعل شيئاً ما فأنا أرى ما لا يروه .. أرى كل احتمالات الخوف و الألم و الحزن الذي يسبّبونه بشرّهم و خبثهم و بلادتهم المقيتة دون أن يشعروا لحظةً واحدة بفداحة ما يفعلونه.. و حين أغمدتُ سكّيني في شريان عنقه لم ينفر دمٌ بشريّ من أوداجه المتمزّقة , لا , كان مجرّد دخانٍ أسود متخثّر تفوح منه رائحة القذارة و التفاهة ..

                            لماذا أجلس في مكاني و أنتظر كلّ النتائج التي أعرفها تماماً دون أي خطأ , لماذا أنتظر و أنا أستطيع أن أتدخّل في مسار الأحداث و أقوم بدوري كما ينبغي لي أن أقوم به فأخلّص هذا العالَم من وجهٍ قبيح لا يريد أن يتجمّل على الأقل ..

                            نعم .. جميعهم كانوا دميمين جداً يلوّثون هذا العالَم بوجوههم القبيحة .. لكنّ خطيئتهم الكبرى أنّهم لم ينظروا إلى المرآة مرّة واحدة ..

                            التفتّ إليّ فجأة و صرخ بي بقسوة :
                            - أنت .. متى نظرتَ إلى المرآة آخر مرّة ..؟؟
                            لم أجِب بل بقيتُ واقفاً في مكاني أرتعد و أنا أنظر إليه بخوف .. أدار ظهره ثانية نحو النافذة و قال :
                            - جميعكم كذلك .. جميعكم مثلها .. مثل هذه الذبابة بالضبط ..
                            فتح النافذة .. و بحركةٍ خاطفة التقط الذبابة المتعَبة في يده .. التفتَ إليّ و هو يسألني :
                            - ما رأيك الآن ..؟؟ هل أوفّر عليها هذا العناء كلّه و أسحقها بين أصابعي ..؟؟؟
                            فتح يده المضمومة التي تمسك الذبابةَ المنكودة .. ارتعشَت قليلاً في مكانها.. فردت أجنحتها الصغيرة و قفزت قفزاتٍ صغيرة متعَبة على راحته.. ثمّ .. استجمعت بقايا قوّتها في لحظة واحدة .. و حلّقت بعيداً في أرجاء الغرفة الدافئة ..
                            نظرتُ إليه بانتصار .. و قلت له :
                            - نعم .. علينا أن نفعل شيئاً ما .. لكن ليس على طريقتك .. لماذا لا نفتح النوافذ دوماً و ندعهم يقرّرون خياراتهم بأنفسهم .. لماذا لا نزرع الأرض مرايا و نتركهم ليتطلّعوا بها و هم يمرّون متعجّلين ..؟؟؟

                            تطلّع بي بدهشة .. اقترب من الطاولة الصغيرة و تناول كتابه السميك .. و قبل أن يغادر الغرفة متعثّراً بخطاه القصيرة و بقيود قدميه .. صاح :
                            - أنتَ مجنونٌ يا هذا .. ماذا تفعل هنا ..؟؟ أنت مجنون ...

                            بدأ كلّ شيءٍ يتضّح لي بصورةٍ جليّة .. فجأة اكتشفتُ أنني لستُ عاقلاً يريد أن يتملّص من عقله بل مجنوناً يبحث عن عقله في مكانٍ ما .. و أنّه ينبغي عليّ أن أتعايش مع هذه ( العاهة ) إلى الأبد ..


                            لملمتُ حوائجي الصغيرة ..
                            و رحلت ..[/align]

                            تعليق


                            • #15
                              فلسفة واقعيه جدا .. اتت على لسان المجانين السالف ذكرهم
                              رغم قسوتها .. ولكن هي الحقيقه دائما مؤلمة .. !!

                              الجنون ليس فقط فقدان العقل كما يقيسه البعض ..
                              بل هو احيانا التمرد على الواقع والخروج من النمطيه
                              جرب ان تختلف وتتمرد على لوائحهم المقدسه .. فتقذف بالجنون ..!!


                              كلن تختلف طقوسه بالجنون وتختلف اسبابه للجنون ؟
                              كثير ممن يجن لانه عجز عن تغيير الواقع .. فيحاول تغيير نفسه التي ابت تقبل الواقع

                              فلا.. هو غيّر الواقع .. ولا غيّر نفسه


                              واخيرا لامناص من تقبل الواقع المجنون .. بحلوه ومره



                              مجنون هو قلمك يا يزيد

                              " وقفا " على تفسيرك اي جنون

                              او "وفقا " لتفسيرهم اي جنون

                              المسأله نسبيه جدا
                              بمهجـتي ثـورآن بركـآن جوى .. وبظـآهري شخص تراه هـآدئا

                              تعليق

                              يعمل...
                              X