“كل شيء كائن هو شيء مخلوق, سواء اكان خلقا طبيعيا, او فنيا, او تلقائيا”
أ رسطو
"من بين كل المحترفين والمهنين, يقف الفنانون والادباء كاكثر من يعي ويجسد
الادراك الحسي للوجود البشري, واكفأ من يعزز البناء الاجتماعي لذلك الوجود"
روثنبرك وهوزمن
شغل موضوع الخلق والابداع اهتمام الكثير من العلماء والباحثين منذ القدم . فقد درس الفلاسفه هذا الموضوع في سياق دراسات التكوين والسلوك والنبوغ وعلم الجمال , وفسره اطباء وعلماء النفس وهم في صدد دراسة البناء السايكولوجي للافراد والتنبؤات السلوكيه وماتستلزمه من اختبارات مختبريه واجراءات عياديه, كما بدا التربويون ايضا اهتمامهم الواسع في مسالة الابداع والابتكار قدر مايتعلق الامر بمحاولات اكتشاف السبل الكفيله برعاية المواهب وتنميتها, كما اهتم بدراسته وتحليله الاداريون ورجال الاعمال من اجل ايجاد التقنيات الصناعيه الجديده وتصعيد الانتاجيه وتخفيض الكلف الاقتصاديه. ولابد للمبدعين في حقلي الفن والادب من الاطلاع, ولو بصفة عامه, على كيفية ظهور انتاجاتهم الابداعيه الى حيز الوجود, ومالذي يقف وراء نشوءها وتطورها. فاذا قدر لنا فهم واستيعاب منشا وتطور الابداع, سيكون من الاسهل العمل على رعايته وتنميته لدى الاجيال القادمه باعتباره نتاجا لملكة العقل وحصيلة لافرازات الظروف البيئيه بابعادها الاقتصاديه والاجتماعيه والسياسيه والنفسيه والتي تخضع باجملها الى سيطرة سلطة المجتمع وتستجيب للتعديل والتحوير.
الجذور الفلسفيه للخلق والابداع:
يعود تاريخ دراسة الخلق والابداع الى الدراسات الفلسفيه الاولى, فقد كان افلاطون, الذي تزعم المدرسة الفوطبيعيه في التفسير الفلسفي, يعتبر الابداع البشري لغزا محيرا لايمكن تفسيره الا "بالالهام" المنسوب الى تاثير المصادر السماويه والالهيه, والمرتبط بالمنابع الروحيه والعقائديه للمبدع. واختلف ارسطو عن افلاطون اختلافا جذريا بتعويله على الطبيعه كمصدر للابداع, وايمانه بالتفسير العقلاني بدلا من الاعتقاد بسحر العوامل فوق الطبيعيه. أما كانت ( Kant ) فقد كان اكثر وضوحا واشد ثقة من الفلاسفه الذين سبقوه , وذلك بالتشديد على ان جوهر الابداع هو خلق ماهو غير موجود وليس محاكاة محظه لما في الطبيعه, كما كان يعتقد افلاطون وارسطو. وذهب كانت ابعد الى التمييز بين الخلق والتقليد باعزاء الخلق والابتكار الى العبقريه واقران االابداع الحقيقي بالفن وليس بالعلم باعتبار ان الابداع هو النتيجه الطبيعيه للتفاعل التبادلي بين التصور والادراك. أما فرويد فقد كان من اوائل المعتقدين بان الابداع ينشا من اللاوعي ويعزي الى عوامل خصوبة الخيال والميول الفنطازيه في التفكير. وكان شوبنهاور قد ايد بحماس فكرة تزكية الابداع الفني على الابداع العلمي, واشار الى ان الابداع في العلم يتطلب السعي الحثيث والتسبيب المنطقي وتراكم التجربه على المدى الطويل, في حين يحقق الابداع الفني اهدافه, مباشرة ودون الحاجه الى اي امتداد زمني, عبر التصور والحدس والبديهه. ولهذا, فاذا كان العلم يستلزم الموهبه والاصرار, فان الفن يتطلب العبقريه حيث يرتقي الابداع الفني بالعقل البشري ويقوده من طور القبول السلبي للمسلّمات الى التامل الموضوعي للحقائق, الامر الذي يسهم في اطلاق المعرفه من عبودية التبعيه النمطيه الى حرية الاراده الشخصيه. ويشير شوبنهاور ايضا الى ان جوهر المنهج العلمي يعتمد على الشمول الذي ينطوي على الخصوصيات , لكن المنهج الفني يستنبط الخصوصيه المتضمنه للشمول, ولذا فأن الابداع في رسم البورتريت مثلا يتجسد بقابلية العمل الفني على استخدام الاسلوب المرئي لكشف ابعاد الموضوع غير المرئيه, وذلك بالقابليه على اظهار جوهر وروح الشخصيه المرسومه اكثر من اظهار مدى انطباقاتها الفوتوغرافيه. ويتبنى بنديتو كروس فكره مشابهه تستند الى المقارنه بين الفن والعلم فيشير الى ان الابداع العلمي يأخذنا الى الحيز الرياضي التجريدي بعيدا عن واقعية الفضاء الفردي, فيما يبحر بنا الابداع الفني في اعماق الدواخل الشخصيه. وبذا يتمخض المنهج العلمي عن المعرفه المنطقيه المتاتيه عبر العمل الفكري وهيكل المفاهيم والفرضيات, فيما يؤول المنهج الفني الى المعرفه الحدسيه المتاتيه عبر التصور والخيال. وهو بهذا يعتبر التصور, والتعبير الذهني للتصور المصدر الاساسي والاداة الاوليه في الابداع الفني والادبي. ولان التصور يسبق التفكير ويعتبر اساسا له, فوظائف الابداع الفني في تكوين الصور الفنيه وصياغة الصور الشعريه غالبا ماتتقدم على وظائف تشكيل واستنباط المفاهيم وترتيب منظوماتها. ولذلك فان من المنطقي ان تظهر بوادر التصور الفني قبل ان تتفتح مواهب التسبيب المنطقي وقابليات التفسير العقلاني. ولايقتصر التصور عند كروس على تصور المبدع انما يشمل في سياق هذا التحليل تصور المتلقي الذي يمكنه من الامساك بالقدره التعبيريه للاعمال التشكيليه والقطع الادبيه او الموسيقيه وتقدير مستويات الابداع فيها. وفي التأكيد على اهمية التصور في الابداع يشير كولرج الى مايسميه ب "ملكات التصور البناءه" ويؤكد كولنكود على القوه التاليفيه للتصور التي غالبا ماتسبق تكوين الافكار الاستطرادي. ومن بين الفلاسفه الاخرين الذين يؤكدون على ان الابداع ينشا ويتطور داخل حدود الوعي, يعزو بيردسلي الابداع الى القابلية الذهنيه والاستعدادات الاراديه والتلقائيه لتفكيك المنظومات الفكريه الجاريه وانشاء بدائلها, ويشير كوردن الى الطاقه العقليه لتكوين الاستعارات واستلهام المجاز, كما يؤكد مدنك على مصدر توليف الافكار وتداعي الخواطر والتظافر بينهما, فيما يذهب كستل الى تشديده على الولع بالاكتشاف والاستعداد الطوعي لسبر اغوار المجهول من اجل ايجاد كل ماهو جديد وذا قيمه. ويتفق روثنبرك مع كستل موضحا الى ان عملية الخلق والابداع تستلزم توفر مايسمى ب "الذهنيه اليانوسيه" (نسبة الى يانوس اله الابواب والبدايات الجديده عند الرومان) والتي تتصف بالميل للتوفيق بين العناصر الفكريه المتعارضه لانتاج شئ منسجم, والتي يمكن وصفها مجازا بالقابليه على ايجاد الافاق الجديده والاستعداد لقبول المعالجات البديله, مما يشترط , من ضمن مايشترط, الانفتاح والمرونه والتسامح الفكري.
ماهية الخلق والابداع:
يجمع اكثرالخبراء على اقران الخلق والابداع بالقابليه على انتاج الافكار والاعمال الاصيله المبتكره التي لاتتخطى اطر محدداتها, سواء اكانت المحددات الفيزيائيه اوالاقتصاديه اوالاجتماعيه اوالنفسيه, المعقوله والمقبوله في حقول الفن والادب والعلم. على ان شرط عدم تخطي تلك المحددات هو شرط اساسي لقبول الابتكار وتقرير مشروعيته وفصله عن الافكار والبدع الغريبه والشاذه الضاره او المفتقره الى اي قيمه اجتماعيه. يحمل هذا التعريف افتراضا ضمنيا يستند على نسبية مفهومي الاصاله والابتكار وتعريفهما في اطارات ظرفيه محدده, فلايقتصر مفهوم الخلق والابداع على النبوغ الكامل المطلق في انتاج مالم يكن موجودا بالمره كما يوحي المعنى الحرفي للكلمه, انما يتضمن المفهوم في صلبه قدرا من المرونه تجعله ساريا على مدى واسع من البدائل المقبوله المدرجه مثيلاتها ادناه, من الاكثر تواضعا الى الاكثر طموحا :
- اعادة التاكيد على فكره معروفه ,او اتباع منهجا مألوفا, او استعارة واستلهام اسلوبا مطروقا, ولكن بمعالجه مختلفه وصياغه جديده تظهر من خلالها نتائج هجينه ايجابيه تستطيع الوقوف على اقدامها باستقلال ذاتي وشخصيه متميزه. ولكن بدون النجاح في تثبيت وعرض هذه الشخصيه الجديده المتميزه عن الاصول, تنسلخ الانتاجات من حيز الابداع وتسقط في مصاف التقليد والاستنساخ والمحاكاة المجرده .
- تحقيق التكامل بين عناصر العمل المتشابهه للحصول على المنتج الكلي المختلف عن المدخلات الجزئيه.
- الجمع والتوفيق بين العناصر المتناقضه وخلط ومزاوجة المدخلات المتباينه للحصول على انتاج اخر تختلف خواصه نوعيا عن خواص العناصر الاوليه المساهمه في الانتاج.
- تحقيق خطوه نوعيه متقدمه في المسار الحالي لحقل الاختصاص.
- انجاز خطوات عديده ومتعاقبه من شانها ان تدفع حقل الاختصاص الى الامام وتفتح افاقا جديدة فيه.
- تثوير حقل الاختصاص بانجازات كبيره وابداعات متقدمه تبصم اثارها على مسيرة الحقل التاريخيه.
ولعل نشوء وتطور الابداع يرتبط بتوفر وعمل وتظافر عوامل عديده منها معرفيه-ادراكيه ومنها اراديه ومنها بيئيه. يوضح الاستاذ امابيل في دراسته المكثفه عن "الابداع في سياق محدد" المنشوره عام 1996 بان الابداع يشتمل على ثلاث مكونات:
- المهارات المتعلقه بحقل الاختصاص والتي تشمل المعرفه والخبره والامكانات التكنيكيه.
- قاعدة الابتكار التي تضم نمط التفكير والذهنيه والميول الادراكيه والتي تقرر, مجتمعة, الكيفيه التي يتمكن المبدع بموجبها من التعامل مع المشاكل ومواجهة الصعوبات وحل الازمات.
- مدى الاندفاع وحجم وطبيعة المحفزات بنوعيها الداخليه والخارجيه.
وفي النظرية البديله لستيرنبرغ ولوبارت التي نشرت عام 1995 يوصف الابداع بكونه عمليه استثماريه تتطلب توافر الموارد اضافه الى تراكم المعرفه والخبره اللازمه لاستخدام الموارد بالطريقه التي تدر اعلى العوائد. وتشمل الميزانيه الاستثماريه لعملية الابداع, مجازا, ستة موارد هي:
- مورد الفهم والادراك الذي يضم عناصر الفطنه والذكاء وامكانات التكوين والتوليف والتحليل والتقييم.
- مورد المعرفه الذي يتضمن تحديد كمية ونوعية المعلومات وطريقة وتزامن استخدامها اضافه الى خزنها والسيطره على احتياطها المطلوب.
- مورد انماط التفكير الذي يحدد نطاق المعالجه من حيث كونها كليه او جزئيه, اضافه الى تحديد صيغ التعامل مع الزمن وردود الافعال وتقدير اهمية الحوافز والمكافأت وقيمة النجاح او الفشل.
- مورد الشخصيه الذي يمثل مديات التحمل ومستويات العزم والاصرار وتحمل المخاطر واستيعاب الخسائر. كما يشير الى الاستعداد للانفتاح والاستقلاليه والخصوصيه في العمل.
- مورد المحفزات والاستجابات الداخليه التي تشمل مواقف الافراد وقيمهم, وطبيعة منظومة المبررات للانهماك بالعمل ونوع مسوغات المواصله فيه وانجازه باندفاع وبما يضمن مواجهة التحديات المحيطه. كما يشمل هذا المورد اخلاقية العمل ومزايا الضبط والدقه والانتباه الى التفاصيل.
- مورد العوامل البيئيه المحيطه بنوعيها الطبيعي والاجتماعي .
يؤكد الاستاذ فنك( Finke ) في بحثه حول الواقعيه الابداعيه المنشور عام 1995 على انه من المفيد تصنيف الافكار الابداعيه في كل المجالات على اساس منابعها واتجاهاتها, ومديات تطبيقها وقبولها في الحياة العمليه. وبهذا يمكن تحديد انتماء اية فكره ابداعية .
أ رسطو
"من بين كل المحترفين والمهنين, يقف الفنانون والادباء كاكثر من يعي ويجسد
الادراك الحسي للوجود البشري, واكفأ من يعزز البناء الاجتماعي لذلك الوجود"
روثنبرك وهوزمن
شغل موضوع الخلق والابداع اهتمام الكثير من العلماء والباحثين منذ القدم . فقد درس الفلاسفه هذا الموضوع في سياق دراسات التكوين والسلوك والنبوغ وعلم الجمال , وفسره اطباء وعلماء النفس وهم في صدد دراسة البناء السايكولوجي للافراد والتنبؤات السلوكيه وماتستلزمه من اختبارات مختبريه واجراءات عياديه, كما بدا التربويون ايضا اهتمامهم الواسع في مسالة الابداع والابتكار قدر مايتعلق الامر بمحاولات اكتشاف السبل الكفيله برعاية المواهب وتنميتها, كما اهتم بدراسته وتحليله الاداريون ورجال الاعمال من اجل ايجاد التقنيات الصناعيه الجديده وتصعيد الانتاجيه وتخفيض الكلف الاقتصاديه. ولابد للمبدعين في حقلي الفن والادب من الاطلاع, ولو بصفة عامه, على كيفية ظهور انتاجاتهم الابداعيه الى حيز الوجود, ومالذي يقف وراء نشوءها وتطورها. فاذا قدر لنا فهم واستيعاب منشا وتطور الابداع, سيكون من الاسهل العمل على رعايته وتنميته لدى الاجيال القادمه باعتباره نتاجا لملكة العقل وحصيلة لافرازات الظروف البيئيه بابعادها الاقتصاديه والاجتماعيه والسياسيه والنفسيه والتي تخضع باجملها الى سيطرة سلطة المجتمع وتستجيب للتعديل والتحوير.
الجذور الفلسفيه للخلق والابداع:
يعود تاريخ دراسة الخلق والابداع الى الدراسات الفلسفيه الاولى, فقد كان افلاطون, الذي تزعم المدرسة الفوطبيعيه في التفسير الفلسفي, يعتبر الابداع البشري لغزا محيرا لايمكن تفسيره الا "بالالهام" المنسوب الى تاثير المصادر السماويه والالهيه, والمرتبط بالمنابع الروحيه والعقائديه للمبدع. واختلف ارسطو عن افلاطون اختلافا جذريا بتعويله على الطبيعه كمصدر للابداع, وايمانه بالتفسير العقلاني بدلا من الاعتقاد بسحر العوامل فوق الطبيعيه. أما كانت ( Kant ) فقد كان اكثر وضوحا واشد ثقة من الفلاسفه الذين سبقوه , وذلك بالتشديد على ان جوهر الابداع هو خلق ماهو غير موجود وليس محاكاة محظه لما في الطبيعه, كما كان يعتقد افلاطون وارسطو. وذهب كانت ابعد الى التمييز بين الخلق والتقليد باعزاء الخلق والابتكار الى العبقريه واقران االابداع الحقيقي بالفن وليس بالعلم باعتبار ان الابداع هو النتيجه الطبيعيه للتفاعل التبادلي بين التصور والادراك. أما فرويد فقد كان من اوائل المعتقدين بان الابداع ينشا من اللاوعي ويعزي الى عوامل خصوبة الخيال والميول الفنطازيه في التفكير. وكان شوبنهاور قد ايد بحماس فكرة تزكية الابداع الفني على الابداع العلمي, واشار الى ان الابداع في العلم يتطلب السعي الحثيث والتسبيب المنطقي وتراكم التجربه على المدى الطويل, في حين يحقق الابداع الفني اهدافه, مباشرة ودون الحاجه الى اي امتداد زمني, عبر التصور والحدس والبديهه. ولهذا, فاذا كان العلم يستلزم الموهبه والاصرار, فان الفن يتطلب العبقريه حيث يرتقي الابداع الفني بالعقل البشري ويقوده من طور القبول السلبي للمسلّمات الى التامل الموضوعي للحقائق, الامر الذي يسهم في اطلاق المعرفه من عبودية التبعيه النمطيه الى حرية الاراده الشخصيه. ويشير شوبنهاور ايضا الى ان جوهر المنهج العلمي يعتمد على الشمول الذي ينطوي على الخصوصيات , لكن المنهج الفني يستنبط الخصوصيه المتضمنه للشمول, ولذا فأن الابداع في رسم البورتريت مثلا يتجسد بقابلية العمل الفني على استخدام الاسلوب المرئي لكشف ابعاد الموضوع غير المرئيه, وذلك بالقابليه على اظهار جوهر وروح الشخصيه المرسومه اكثر من اظهار مدى انطباقاتها الفوتوغرافيه. ويتبنى بنديتو كروس فكره مشابهه تستند الى المقارنه بين الفن والعلم فيشير الى ان الابداع العلمي يأخذنا الى الحيز الرياضي التجريدي بعيدا عن واقعية الفضاء الفردي, فيما يبحر بنا الابداع الفني في اعماق الدواخل الشخصيه. وبذا يتمخض المنهج العلمي عن المعرفه المنطقيه المتاتيه عبر العمل الفكري وهيكل المفاهيم والفرضيات, فيما يؤول المنهج الفني الى المعرفه الحدسيه المتاتيه عبر التصور والخيال. وهو بهذا يعتبر التصور, والتعبير الذهني للتصور المصدر الاساسي والاداة الاوليه في الابداع الفني والادبي. ولان التصور يسبق التفكير ويعتبر اساسا له, فوظائف الابداع الفني في تكوين الصور الفنيه وصياغة الصور الشعريه غالبا ماتتقدم على وظائف تشكيل واستنباط المفاهيم وترتيب منظوماتها. ولذلك فان من المنطقي ان تظهر بوادر التصور الفني قبل ان تتفتح مواهب التسبيب المنطقي وقابليات التفسير العقلاني. ولايقتصر التصور عند كروس على تصور المبدع انما يشمل في سياق هذا التحليل تصور المتلقي الذي يمكنه من الامساك بالقدره التعبيريه للاعمال التشكيليه والقطع الادبيه او الموسيقيه وتقدير مستويات الابداع فيها. وفي التأكيد على اهمية التصور في الابداع يشير كولرج الى مايسميه ب "ملكات التصور البناءه" ويؤكد كولنكود على القوه التاليفيه للتصور التي غالبا ماتسبق تكوين الافكار الاستطرادي. ومن بين الفلاسفه الاخرين الذين يؤكدون على ان الابداع ينشا ويتطور داخل حدود الوعي, يعزو بيردسلي الابداع الى القابلية الذهنيه والاستعدادات الاراديه والتلقائيه لتفكيك المنظومات الفكريه الجاريه وانشاء بدائلها, ويشير كوردن الى الطاقه العقليه لتكوين الاستعارات واستلهام المجاز, كما يؤكد مدنك على مصدر توليف الافكار وتداعي الخواطر والتظافر بينهما, فيما يذهب كستل الى تشديده على الولع بالاكتشاف والاستعداد الطوعي لسبر اغوار المجهول من اجل ايجاد كل ماهو جديد وذا قيمه. ويتفق روثنبرك مع كستل موضحا الى ان عملية الخلق والابداع تستلزم توفر مايسمى ب "الذهنيه اليانوسيه" (نسبة الى يانوس اله الابواب والبدايات الجديده عند الرومان) والتي تتصف بالميل للتوفيق بين العناصر الفكريه المتعارضه لانتاج شئ منسجم, والتي يمكن وصفها مجازا بالقابليه على ايجاد الافاق الجديده والاستعداد لقبول المعالجات البديله, مما يشترط , من ضمن مايشترط, الانفتاح والمرونه والتسامح الفكري.
ماهية الخلق والابداع:
يجمع اكثرالخبراء على اقران الخلق والابداع بالقابليه على انتاج الافكار والاعمال الاصيله المبتكره التي لاتتخطى اطر محدداتها, سواء اكانت المحددات الفيزيائيه اوالاقتصاديه اوالاجتماعيه اوالنفسيه, المعقوله والمقبوله في حقول الفن والادب والعلم. على ان شرط عدم تخطي تلك المحددات هو شرط اساسي لقبول الابتكار وتقرير مشروعيته وفصله عن الافكار والبدع الغريبه والشاذه الضاره او المفتقره الى اي قيمه اجتماعيه. يحمل هذا التعريف افتراضا ضمنيا يستند على نسبية مفهومي الاصاله والابتكار وتعريفهما في اطارات ظرفيه محدده, فلايقتصر مفهوم الخلق والابداع على النبوغ الكامل المطلق في انتاج مالم يكن موجودا بالمره كما يوحي المعنى الحرفي للكلمه, انما يتضمن المفهوم في صلبه قدرا من المرونه تجعله ساريا على مدى واسع من البدائل المقبوله المدرجه مثيلاتها ادناه, من الاكثر تواضعا الى الاكثر طموحا :
- اعادة التاكيد على فكره معروفه ,او اتباع منهجا مألوفا, او استعارة واستلهام اسلوبا مطروقا, ولكن بمعالجه مختلفه وصياغه جديده تظهر من خلالها نتائج هجينه ايجابيه تستطيع الوقوف على اقدامها باستقلال ذاتي وشخصيه متميزه. ولكن بدون النجاح في تثبيت وعرض هذه الشخصيه الجديده المتميزه عن الاصول, تنسلخ الانتاجات من حيز الابداع وتسقط في مصاف التقليد والاستنساخ والمحاكاة المجرده .
- تحقيق التكامل بين عناصر العمل المتشابهه للحصول على المنتج الكلي المختلف عن المدخلات الجزئيه.
- الجمع والتوفيق بين العناصر المتناقضه وخلط ومزاوجة المدخلات المتباينه للحصول على انتاج اخر تختلف خواصه نوعيا عن خواص العناصر الاوليه المساهمه في الانتاج.
- تحقيق خطوه نوعيه متقدمه في المسار الحالي لحقل الاختصاص.
- انجاز خطوات عديده ومتعاقبه من شانها ان تدفع حقل الاختصاص الى الامام وتفتح افاقا جديدة فيه.
- تثوير حقل الاختصاص بانجازات كبيره وابداعات متقدمه تبصم اثارها على مسيرة الحقل التاريخيه.
ولعل نشوء وتطور الابداع يرتبط بتوفر وعمل وتظافر عوامل عديده منها معرفيه-ادراكيه ومنها اراديه ومنها بيئيه. يوضح الاستاذ امابيل في دراسته المكثفه عن "الابداع في سياق محدد" المنشوره عام 1996 بان الابداع يشتمل على ثلاث مكونات:
- المهارات المتعلقه بحقل الاختصاص والتي تشمل المعرفه والخبره والامكانات التكنيكيه.
- قاعدة الابتكار التي تضم نمط التفكير والذهنيه والميول الادراكيه والتي تقرر, مجتمعة, الكيفيه التي يتمكن المبدع بموجبها من التعامل مع المشاكل ومواجهة الصعوبات وحل الازمات.
- مدى الاندفاع وحجم وطبيعة المحفزات بنوعيها الداخليه والخارجيه.
وفي النظرية البديله لستيرنبرغ ولوبارت التي نشرت عام 1995 يوصف الابداع بكونه عمليه استثماريه تتطلب توافر الموارد اضافه الى تراكم المعرفه والخبره اللازمه لاستخدام الموارد بالطريقه التي تدر اعلى العوائد. وتشمل الميزانيه الاستثماريه لعملية الابداع, مجازا, ستة موارد هي:
- مورد الفهم والادراك الذي يضم عناصر الفطنه والذكاء وامكانات التكوين والتوليف والتحليل والتقييم.
- مورد المعرفه الذي يتضمن تحديد كمية ونوعية المعلومات وطريقة وتزامن استخدامها اضافه الى خزنها والسيطره على احتياطها المطلوب.
- مورد انماط التفكير الذي يحدد نطاق المعالجه من حيث كونها كليه او جزئيه, اضافه الى تحديد صيغ التعامل مع الزمن وردود الافعال وتقدير اهمية الحوافز والمكافأت وقيمة النجاح او الفشل.
- مورد الشخصيه الذي يمثل مديات التحمل ومستويات العزم والاصرار وتحمل المخاطر واستيعاب الخسائر. كما يشير الى الاستعداد للانفتاح والاستقلاليه والخصوصيه في العمل.
- مورد المحفزات والاستجابات الداخليه التي تشمل مواقف الافراد وقيمهم, وطبيعة منظومة المبررات للانهماك بالعمل ونوع مسوغات المواصله فيه وانجازه باندفاع وبما يضمن مواجهة التحديات المحيطه. كما يشمل هذا المورد اخلاقية العمل ومزايا الضبط والدقه والانتباه الى التفاصيل.
- مورد العوامل البيئيه المحيطه بنوعيها الطبيعي والاجتماعي .
يؤكد الاستاذ فنك( Finke ) في بحثه حول الواقعيه الابداعيه المنشور عام 1995 على انه من المفيد تصنيف الافكار الابداعيه في كل المجالات على اساس منابعها واتجاهاتها, ومديات تطبيقها وقبولها في الحياة العمليه. وبهذا يمكن تحديد انتماء اية فكره ابداعية .
تعليق