.الحُبُّ دائرةٌ لن تكتمل . هذا ما اكتشفه الأعشى " صنَّاجة العرب " حين لاحظ بعينه النافذة إلى ماوراء الأشياء أنَّ هذه العلاقة العاطفيَّة تُولد ، في الغالب ، ناقصةً ، وكمالها في هذا النقص . دائرةٌ لا يلتقي طرفاها ، أشبه ما تكون بدائرة الكهرباء حين لا يتّصل طرفا التيَّار فتبقى العتمة تنتظر الضوء ، تلهث خلفه فلا تستطيع إمساكه ، وتبقى لهذه العتمة متعةً يسمّونها " الحبّ " !
في دائرة الأعشى يتعلَّق الرجل امرأةً تتعلَّق رجلاً آخر متعلِّقًا هو الآخر امرأة أُخرى :
عُلِّقتُهـا عَرَضًـا ، وعُلِّقـت رجـلاً
غيري ، وعُلِّقَ أُخرى غيرُها الرجل !
يبدأ البيت برجل وينتهي برجل ، وكلا الرجلين يبحث عن ضالّةٍ يفقدها ، وفي ثنايا البيت امرأتان كلتاهما يبحثان عن مصدر ضوءٍ في هذه العتمة / المتعة !
ماذا يريد أن يقول أبو بصير ؟
ربما يريد أن يقول لنا شيئًا عن هذا " المارد "، وهو يختصر ، بهذا البيت الطويل جدَّا ، مسافةً تعب فيها الشعراء وركضوا دون أن يصلوا إلى ما يريدون الوصول إليه ، وعلى الرغم من ذلك يشعرون أنَّهم وصلوا دون أن يشعروا أنَّهم ما زالوا يركضون ، ويركضون ، ويركضون ، وهم لم يقطعوا بعدُ " المسافة " التي قطعها الأعشى في بيتٍ واحدٍ بين " رجل وامرأة " و بين " امرأةٍ ورجل " . ليثبت أنَّه بخطوةٍ واحدة استطاع أن يقطع آلاف الأميال التي تلهث فيها خطوات الشعراء منذ أن بكى امرؤ القيس إلى آخر لحظةٍ بكى فيها آخر شاعرٍ على حبيبته !
استطاع الأعشى أن يلفتنا إلى أنّ كلمة " حُبّ" هذه التي تبدأ بـ " الضمّ " وتنتهي بـ " التضعيف " تحتاج إلى من يلتقط معناها من مبناها ، وكما يقول الأوائل : " المباني أوعية المعاني " وأيٌّ سعةٍ في مبنى الحبّ الذي لايتّسع لأكثر من حبيبين أحدهما هاربٌ من الآخر ؟! وكأنهما نصفان أقسما ألاّ يلتقيا أبدًا لتبقى " الدائرة " معتمةً بمتعة تبحث عن ضوءٍ يشعّ فتجد لذّتها في هذا البحث الحثيث ، وتكتمل بهذا الحُبّ الذي يُولد مكتملا لأنَّه ناقص !
قال هذا الأعشى ، ولم يقله غيره من الشعراء، سوى امرأة وإن لم تبلغ شأوه ، لأنَّه اكتشف الدائرة في بيتٍ مستقيم ، بينما هي لم تستطع أن تلحق به لأنّها جاءت بمعناه في شكلٍ مُربَّع ! وبيتٍ ملحون ، نجحت في ملء فراغه بالشعر ، ولم تنجح في خلق فراغ داخل الشِّعر كما فعل الأعشى !
تقول نوره الحوشان :
اللي يبينا عيَّت النفس تبغيـه
واللي نبي عيَّا البخت لا يجيبه
في بيت الأعشى رجلان وامرأتان ، وفي بيت نوره امرأةٌ واحدةٌ ورجلان ، أحدهما هاربةٌ منه لا يستطيع اللحاق بها ، والآخر هاربٌ منها لا تستطيع اللحاق به ، والمرأة واحدةٌ بين رجلين ، وهذا يعنى اكتمال الدائرة ، واكتمالها اغلاق ، وإغلاقها وصول ، والوصول هنا هو في وجود " أنموذج الرجل " للمرأة ، ووجود " أنموذج المرأة " للرجل ، حيث وجدت الشاعرة أحلامها في " اللي نبي " ووجد الرجل أحلامه في " اللي يبينا " وكون أحد الجنسين وجد الآخر فهذا يعني اكتمال الأضلاع في شكل مربَّع : الرجل X المرأة ، والمرأة X الرجل ، ولذلك كسرت نوره الحوشان ، رغم جمال البيت واختلافه وقوّته ، قاعدة التدوير لتخرج إلى التربيع الناقص ، وهو ما يصدق عليه قول الكاتب الجميل محمد الرطيَّان في إشكال الأشكال : " المثلث : مربَّعٌ رفض أن يُصبح دائرة " ، ومثلث نوره الحوشان كذلك لاكتمال أضلاعه داخل النصّ افتراضًا .
بينما نجد الأعشى يوسّع المسافة في مضمار بيتٍ واحد ، دائريّ الشكل ، لكنه رغم ذلك لم يغلق الدائرة ، بل تركها مفتوحة ليبقى الطريق مفتوحًا لهذه الدائرة دون أن يستطيع أحدٌ أن يخرج من سلطته ، فها هم الشعراء ، لا يزالون منذ بدء الشِّعر داخل هذه الدائرة بين : عاشقٍ طالب وحبيبة مطلوبة ، وعاشقةٍ طالبة وحبيبٍ مطلوب ، ولا يزال البحث جاريًا إلى حينه !
اللافت للنظر هنا ، هو هذه المعادلة بين الرجل / الأعشى ، والمرأة / نوره ، وبين العتمة التي توحي بها مفردة الأعشى ( ضعيف البصر ) والنور الذي توحي به مفردة نوره ، وتناغم كلٍّ بيتٍ مع صاحبه ، حيث بقي الأعشى في دائرة لم يستطع الإمساك بطرفها الآخر ، وكأنَّه داخل عتمة، في حين أنَّ الحوشان نوره أمسكت بالطرف الآخر ، وكأنَّها داخل غرفة مضيئة ، لأنَّها أوجدت طالبها داخل النصّ ، وهو ما يعني أنها مطلوبة هي الأخرى ، بينما الأعشى لم يُوجِد طرفًا يُمسك به لغياب هذا الطرف داخل النصّ / البيت ، تأمّلوا :
عُلِّقتُها عَرَضًـا ، وعُلِّقـت رجـلا
غيري، وعُلِّق أُخرى غيرها الرجلُ !
لا أحد في بيت الأعشى وجد نصفه : الرجل / الأعشى لم يجد امرأةً تطلبه ، والمرأة /حبيبة الأعشى لم تجد رجلاً يطلبها ، والرجل الوحيد الذي وجد من يطلبه المُشار إليه بقوله " رجلا " سيق بصيغة النكرة ، وهذا يعني أنَّه غير موجود !
هذا كلُّه كافٍ لأن يقول لنا ، بلسان الأعشى ، : الحبُّ دائرةٌ لن تكتمل ! ، وبلسان نوره الحوشان : الحبُّ مُربَّعٌ فقد أحد أضلاعه
!
منقووول

__________________
Oo بهالزمن حتى الرفيق الي تثق فيه أحذره لابارك الله في رفيق تزعله كلمة عتاب ولاجمع الله الرجال الي تفرقهم مرة oO
في دائرة الأعشى يتعلَّق الرجل امرأةً تتعلَّق رجلاً آخر متعلِّقًا هو الآخر امرأة أُخرى :
عُلِّقتُهـا عَرَضًـا ، وعُلِّقـت رجـلاً
غيري ، وعُلِّقَ أُخرى غيرُها الرجل !
يبدأ البيت برجل وينتهي برجل ، وكلا الرجلين يبحث عن ضالّةٍ يفقدها ، وفي ثنايا البيت امرأتان كلتاهما يبحثان عن مصدر ضوءٍ في هذه العتمة / المتعة !
ماذا يريد أن يقول أبو بصير ؟
ربما يريد أن يقول لنا شيئًا عن هذا " المارد "، وهو يختصر ، بهذا البيت الطويل جدَّا ، مسافةً تعب فيها الشعراء وركضوا دون أن يصلوا إلى ما يريدون الوصول إليه ، وعلى الرغم من ذلك يشعرون أنَّهم وصلوا دون أن يشعروا أنَّهم ما زالوا يركضون ، ويركضون ، ويركضون ، وهم لم يقطعوا بعدُ " المسافة " التي قطعها الأعشى في بيتٍ واحدٍ بين " رجل وامرأة " و بين " امرأةٍ ورجل " . ليثبت أنَّه بخطوةٍ واحدة استطاع أن يقطع آلاف الأميال التي تلهث فيها خطوات الشعراء منذ أن بكى امرؤ القيس إلى آخر لحظةٍ بكى فيها آخر شاعرٍ على حبيبته !
استطاع الأعشى أن يلفتنا إلى أنّ كلمة " حُبّ" هذه التي تبدأ بـ " الضمّ " وتنتهي بـ " التضعيف " تحتاج إلى من يلتقط معناها من مبناها ، وكما يقول الأوائل : " المباني أوعية المعاني " وأيٌّ سعةٍ في مبنى الحبّ الذي لايتّسع لأكثر من حبيبين أحدهما هاربٌ من الآخر ؟! وكأنهما نصفان أقسما ألاّ يلتقيا أبدًا لتبقى " الدائرة " معتمةً بمتعة تبحث عن ضوءٍ يشعّ فتجد لذّتها في هذا البحث الحثيث ، وتكتمل بهذا الحُبّ الذي يُولد مكتملا لأنَّه ناقص !
قال هذا الأعشى ، ولم يقله غيره من الشعراء، سوى امرأة وإن لم تبلغ شأوه ، لأنَّه اكتشف الدائرة في بيتٍ مستقيم ، بينما هي لم تستطع أن تلحق به لأنّها جاءت بمعناه في شكلٍ مُربَّع ! وبيتٍ ملحون ، نجحت في ملء فراغه بالشعر ، ولم تنجح في خلق فراغ داخل الشِّعر كما فعل الأعشى !
تقول نوره الحوشان :
اللي يبينا عيَّت النفس تبغيـه
واللي نبي عيَّا البخت لا يجيبه
في بيت الأعشى رجلان وامرأتان ، وفي بيت نوره امرأةٌ واحدةٌ ورجلان ، أحدهما هاربةٌ منه لا يستطيع اللحاق بها ، والآخر هاربٌ منها لا تستطيع اللحاق به ، والمرأة واحدةٌ بين رجلين ، وهذا يعنى اكتمال الدائرة ، واكتمالها اغلاق ، وإغلاقها وصول ، والوصول هنا هو في وجود " أنموذج الرجل " للمرأة ، ووجود " أنموذج المرأة " للرجل ، حيث وجدت الشاعرة أحلامها في " اللي نبي " ووجد الرجل أحلامه في " اللي يبينا " وكون أحد الجنسين وجد الآخر فهذا يعني اكتمال الأضلاع في شكل مربَّع : الرجل X المرأة ، والمرأة X الرجل ، ولذلك كسرت نوره الحوشان ، رغم جمال البيت واختلافه وقوّته ، قاعدة التدوير لتخرج إلى التربيع الناقص ، وهو ما يصدق عليه قول الكاتب الجميل محمد الرطيَّان في إشكال الأشكال : " المثلث : مربَّعٌ رفض أن يُصبح دائرة " ، ومثلث نوره الحوشان كذلك لاكتمال أضلاعه داخل النصّ افتراضًا .
بينما نجد الأعشى يوسّع المسافة في مضمار بيتٍ واحد ، دائريّ الشكل ، لكنه رغم ذلك لم يغلق الدائرة ، بل تركها مفتوحة ليبقى الطريق مفتوحًا لهذه الدائرة دون أن يستطيع أحدٌ أن يخرج من سلطته ، فها هم الشعراء ، لا يزالون منذ بدء الشِّعر داخل هذه الدائرة بين : عاشقٍ طالب وحبيبة مطلوبة ، وعاشقةٍ طالبة وحبيبٍ مطلوب ، ولا يزال البحث جاريًا إلى حينه !
اللافت للنظر هنا ، هو هذه المعادلة بين الرجل / الأعشى ، والمرأة / نوره ، وبين العتمة التي توحي بها مفردة الأعشى ( ضعيف البصر ) والنور الذي توحي به مفردة نوره ، وتناغم كلٍّ بيتٍ مع صاحبه ، حيث بقي الأعشى في دائرة لم يستطع الإمساك بطرفها الآخر ، وكأنَّه داخل عتمة، في حين أنَّ الحوشان نوره أمسكت بالطرف الآخر ، وكأنَّها داخل غرفة مضيئة ، لأنَّها أوجدت طالبها داخل النصّ ، وهو ما يعني أنها مطلوبة هي الأخرى ، بينما الأعشى لم يُوجِد طرفًا يُمسك به لغياب هذا الطرف داخل النصّ / البيت ، تأمّلوا :
عُلِّقتُها عَرَضًـا ، وعُلِّقـت رجـلا
غيري، وعُلِّق أُخرى غيرها الرجلُ !
لا أحد في بيت الأعشى وجد نصفه : الرجل / الأعشى لم يجد امرأةً تطلبه ، والمرأة /حبيبة الأعشى لم تجد رجلاً يطلبها ، والرجل الوحيد الذي وجد من يطلبه المُشار إليه بقوله " رجلا " سيق بصيغة النكرة ، وهذا يعني أنَّه غير موجود !
هذا كلُّه كافٍ لأن يقول لنا ، بلسان الأعشى ، : الحبُّ دائرةٌ لن تكتمل ! ، وبلسان نوره الحوشان : الحبُّ مُربَّعٌ فقد أحد أضلاعه
!
منقووول

__________________
Oo بهالزمن حتى الرفيق الي تثق فيه أحذره لابارك الله في رفيق تزعله كلمة عتاب ولاجمع الله الرجال الي تفرقهم مرة oO
تعليق