عامر وماهر أخوان يحب أحدهما الآخر حباً كبيراً... وهما مثل صديقين متفاهمين منسجمين... لايتشاجران... ولايتخاصمان.
ماهر الأول في صفه دائماً... وكذلك عامر. وهما لايفترقان إلا قليلاً عندما ينصرف أحدهما إلى هوايته الخاصة.
هواية عامر أن يتطلع إلى السماء ويتعرف إلى النجوم وأسمائها، ومواقعها، وأبراجها...
ويحلم أن يكون في المستقبل رائد فضاء.. بينما يبحث ماهر في الأرض وينقب عن حجر فضي مشع سمع عنه، وقالوا إن فيه معدنا نادراً، وهو يأمل في المستقبل أن يصبح من العلماء.
وبما أن الطفلين يعيشان منذ ولادتهما في منطقة اكتشاف وتنقيب عن البترول، وضمن مدينة عملية صناعية حيث يتوفر لها المناخ الطبيعي والعلمي فقد تعلق كل منهما بهوايته بتشجيع من الأبوين، وأصدقاء الأسرة من العلماء والخبراء.
وفي ليلة ربيعية، والسماء مشحونة بغيوم سوداء، والعاصفة توشك أن تهب رجع الطفلان من المدرسة متعبين، قال ماهر لعامر:
ـ أنت لاتنظر نحو السماء ياعامر... طبعاً لن ترى نجومك وأبراجك من وراء الغيوم.
قال عامر:
ـ وأنت أيضاً تتعجل في مشيتك كأنك لاتهتم بما يصادفك من أحجار.
وضحك الاثنان معاً لأنهما يعرفان جيداً أن هذا ليس وقت الهوايات فالامتحان قريب، وعليهما أن ينصرفا للدراسة، ثم إن جو اليوم لايساعدهما على ذلك.
وبعد أن انتهيا من دراستهما وذهبا إلى النوم كانت العاصفة قد انفجرت، فهطلت الأمطار بغزارة، وقصف الرعد، ولمع البرق، وحملت الريح الشديدة ذرات التراب الذي يهبط أحياناً على مثل هذه المناطق في الصحراء فيغطيها بطبقة كثيفة كأنها رداء من (الطمي) الأحمر. قفز ماهر وهو الأصغر إلى فراش عامر الذي كان يتابع ظهور البرق واختفائه، فضحك منه قائلاً:
ـ هل تخاف ياعامر من العاصفة؟ .. أنا لاأعرفك جباناً.
ارتبك عامر وأجاب:
ـ لا ... ولكنني أشعر بالبرد.
فقال ماهر:
ـ لماذا لانتحدث قليلاً قبل أن ننام؟
قال عامر:
ـ حسناً... أحدثك عن نجمي الذي رأيته مرة واحدة في الصيف الماضي ثم اختفى عني.
هل تتذكر تلك الليلة التي ذهبنا فيها مع بعض العلماء إلى الصحراء؟
أجاب ماهر:
ـ نعم أتذكر... وهل نسيت أنت ذلك الحجر المشع الذي لمحته في أعماق تلك البئر البترولية المهجورة؟
وظل الإثنان يتحدثان... حتى وجد عامر نفسه رغم العاصفة في قلب الصحراء.
المطر يبلله... والهواء يقذفه كالكرة من جانب إلى آخر، والرعد يدوي بينما البرق يضيء له مكان نجمه الضائع فيصفق فرحاً وسروراً.
وكذلك وجد ماهر نفسه وقد تدلى بحبل متين إلى أعماق البئر، وقبض بيديه الاثنتين على الحجر الفضي، وهو يهتف: وجدته... وجدته... انه لي.
ورغم التراب الذي كان يتساقط فوقه وقلة الهواء فقد كان يحاول الخروج بعد أن حصل على حجره الثمين وهو مصرّ على ألا يفقده من بين يديه.
وهكذا ناما طوال الليل... وعندما استيقظا وأخذ كل منهما يحكي للآخر ماذا رأى في الحلم، كان الأب يدخل غرفة طفليه ليطمئن عليهما. وعندما وجدهما صامتين حزينين تعجب مما بهما.
سأل عامر:
ـ هل تتحقق الأحلام ياأبي؟
وسأل ماهر:
ـ ألا يمكن العثور على أحجار فضية ثمينة ومشعة؟
ولأن الأب كان يعرف هواية طفليه فقد أجاب:
ـ إذا سعى أحدنا وراء أحلامه فلابد أن تتحقق... ثم أن الطبيعة غنية جداً بعناصرها، ومعادنها، والإنسان يكتشف كنوزها كل يوم.
وهنا دخلت (سلمى) الصغيرة وراء أمها وهي تعانق دميتها وتقول:
×?°حكاية البنات الثلاث×?° تلك الليلة كانت عاصفة، والبنات الثلاث الصغيرات في أسرتهن. الهواء يصفر كعواء كلاب جائعة، وأغصان الشجر تصفق مهتاجة وكأنها تتقصف. لم يكن يشعرن بالبرد، فالغرفة دافئة والأغطية صوفية ناعمة.
الأم التي يحلو لها في مثل هذه الليلة أن تستعيد حكايات جدتها تقول:
ـ كان ياما كان... في قديم الزمان..
تقاطعها الكبرى:
ـ عرفنا الحكاية.. كان هناك ثلاث بنات يغزلن... حتى يأكلن.
ترد الأم وهي تتنهد:
ـ لا... لم تحزري.. ليست هذه هي الحكاية.
تنبر الوسطى:
ـ ثلاث بنات خياطات... يشتغلن في قصر السلطان... والصغيرة اسمها (حب الرمان)..
وهي التي أضاعت (الكشتبان).
تضحك الأم وتقول:
ـ بل الوسطى التي اسمها حب الرمان... وهي التي عن قصد وعمد رمت في الماء الكشتبان.
تكمل الصغرى:
ـ ذلك لأنها كسولة... وملولة. لاتحب الإبرة والخيطان... وتتلهى مع أولاد الجيران.
الكبرى تسأل:
ـ وما اسم البنت الأولى إذن؟
تقول الأم:
ـ قمر الزمان...
ـ والثالثة؟ /تسأل الصغرى/
تجيب الأم:
ـ اسمها نيسان.
وبينما الأم ترد الأغطية فوق البنات صرخن محتجات:
ـ نريد حلماً... لاحكاية. نريد حلماً.. حلم... حلم.
ـ حسناً../تقول الأم/ ـ أغلقن النوافذ.. وأطفئن النور ولتطلب كل واحدة منكن حلماً لها.. وسأضعه قبل أن أنصرف تحت مخدتها.
قالت الكبرى:
- أنت اعطينا ياأمي .. أنت اعطينا . دائماً أنت تعطيننا أكثر من أحلامنا
ـ أعطيك مهراً أشقر جميلاً... بل أبيض.. تكبرين ويكبر معك، وتصبحين فارسة.
همست الكبرى لأختيها:
ـ وكيف سأتصرف مع الحصان الصغير؟ كيف سأعتني به.. بطعامه وشرابه.. بنومه وصحوه..بلهوه وجريه؟ لا.. لا أريد.. لماذا لاتعطيني أمي سيارة بيضاء ونظيفة أدير محركها في لحظة فتحملني إلى حيث أشاء؟
قالت الأم للوسطى:
ـ وأنت أعطيك خمسة أرانب بيضاء جميلة... تلك التي في الحديقة. تلاعبينها كالقطط، وتتسلين بمنظرها... بتكاثرها وتوالدها.
همست الوسطى لأختيها:
ـ ولماذا لاتعطيني فراء هذه الأرانب؟ فأصنع منها قبعة وقفازات، وربما صنعت معطفاً.
قالت لها الكبرى وهي تضحك:
ـ والخياطات الثلاث سيساعدنك في ذلك.
أكملت الوسطى:
ـ بل هما اثنتان.. لأن الصغرى عاقبوها فطردوها من العمل.. وأنزلوها إلى المطبخ لتقشر الثوم والبصل.
وقبل أن تعطي الأم للصغرى أي شيء بادرتها هذه قائلة:
ـ أما أنا فأريد فراشة ملونة... أجنحتها زرقاء ووردية... لابل صفراء وبنفسجية.. تنتقل بين الزهور بلطف وحبور... تنشر الأحلام وتطويها. أليست أميرة الطبيعة في جبالها وبساتينها وبراريها؟
وقبل أن تتم كلامها كانت قد استغرقت في النوم.
عند الفجر اشتدت العاصفة أكثر وأكثر.. حطمت النوافذ والأبواب.. اقتلعت الخزانات.. كسرت المرايا... بعثرت الثياب.. وأطارت كل شيء. وأفاق الجميع خائفين مذعورين.
وقفت الأم مع بناتها الثلاث.. حائرات واجمات.. فلا بيت يأوين إليه.. ولاسيارة يركبنها.. وهن يرتجفن من البرد.
صهل حصان صغير عن بعد كأنما هو يعلن عن نفسه.
قالت الكبرى:
ـ هذا حصاني.. ماكان أغباني ظننت أن الحلم لن يتحقق.
وقالت الوسطى وهي تمد يديها الباردتين إلى قفص الأرانب:
ـ ما أجملها.. ما أدفأها.. ماأنعمها... عددها أكثر من خمسة... سبعة... عشرة، لاأدري ، كنت أحبها ولاأدري. تحتاج صغارها من يرعاها... وأنا سأرعاها.
أما الصغرى فقد نظرت حولها ولم تكن هناك فراشة واحدة بعد العاصفة فقد جرفتها كلها، قالت:
ـ لكنني أنا دوماً معي حلمي... فراشتي هنا في قلبي.. لا هنا في رأسي... لا هنا في عيني...
ودمعت عيناها وهي ترى أجنحة الفراش تتطاير في الهواء، وظلت تردد:
كان في قديم الزمام، ملكٌ كبيرٌ حكيم، اسمه حسَّان.. وكان الملك حسان، يحبُّ الأذكياءَ، ويرفعُ قَدْرَهم، فهو يُقيم مُسابقةً، بينَ حينٍ وآخر، يطرحُ فيها سؤالاً واحداً، ومَنْ يجبْ عنه، يقلّدْهُ وساماً ملكيّاً رفيعاً.
واليوم. هو يومُ المسابقةِ الكبرى..
الملك حسان في شرفةِ القصر، وحولَهُ الوزراء والقُوّاد..
والساحة الواسعة، تغصُّ بالبشر ،من رجالٍ ونساءٍ وأطفال، وكلُّ واحدٍ يقول في سِّرهِ :
- ماسؤالُ اليوم ؟!
لقد حضر الناسُ، من أقصى المملكة، ليسمعوا السؤالَ الجديد ...
- ما أَغلى قطرةٍ في المملكة؟
- ومتى الجواب؟
- في مثل هذا اليوم، من العام القادم .
***
وانصرف الناسُ، يفكِّرون في السؤال ...
قال طفلٌ لأبيه :
- إذا عرفْتُ أغلى قطرة، هل أنالُ وسامَ الملك؟
ابتسمَ والدهُ، وقال :
- نعم يابني!
قال الطفل :
- قطرة العسل .
- لماذا؟
- لأنها حلوةٌ ولذيذةٌ.
وقالتْ طفلةٌ لأُمِّها :
- أنا أعرفُ أغلى قطرة..
- ماهي؟
- قطرة العطر..
- لماذا؟
- لأنَّها طيِّبةُ الرائحة .
***
وشُغِلَ الناسً بالقطرات، فهذا يقول :
- إنَّها قطرةُ الزيت..
وذاك يقول :
- إنَّها قطرةُ النفط ..
وأكثرهم يقول :
- سؤالُ الملكِ، ليس سهلاً، كما تظنّون !
فما القطرةُ التي يريد ؟!
***
قال عقيل :
- لن أهدأَ حتى أعرفَ الجواب ..
وأقبلَ على مطالعةِ الكتب، ومصاحبةِ العلماء
تارةً يقرأُ في كتاب ،وطوراً يصغي إلى عالم...
مضتْ عدَّةُ شهور، ولم يصلْ إلى مايريد!
وذاتَ يوم...
زار عالماً كبيراً، فوجدَهُ مُنكباً على تأليفِ كتاب ...
المحبرةُ أمامه والريشةُ في يده..
وفجأة ..
لمع في ذهنه الجواب :
- إنها قطرةُ الحبر!
رمزُ العلوم والأدبْ
لولاها ضاع تراثنا ..
لولاها ماكانتْ كُتُبْ
***
وفي مكانْ آخرَ من المملكة، كان ربيعةُ يمشي تعِباً، في أرضٍ قاحلة جرداء ..
اشتدَّ به العطش، ولم يعثرْ على ماء!
ظلَّ يسيرُ حتى وهنَتْ قواه، وأشرفَ على الهلاك .
- ماذا يعمل ؟!
وقف يائساً ، ينظرُ حوالَيه ..
شاهدَ بقعةً خضراء !
لم يصدِّق عينيه، وقالَ مُستغرباً :
- الأرضُ الميتةُ، لا تنتجُ خضرة!
ومع ذلك ..
سارَ نحو البقعة الخضراء، يدفعه أملٌ جديد...
وعندما وصل إليها ،وجد الماء !
أقبل عليه فرِحاً، يشربُ ويشربُ، حتى ارتوى تماماً..
حمد الله، وقعد يستريح، ويتأمَّلُ المياه،
وما يحيط بها، من عشبٍ غضٍّ، ونبتٍ نضير...
وتذكرَّ سؤال الملك، فنهض واقفاً، وقال :
- لقد عرفتُ أغلى قطرة !
إنَّها قطرةُ ماء
فيها أسرارً الحياة
إنَّها قطرةُ ماء
***
واختلط الحارثُ بأصنافِ الناس ...
شاهدَ البنَّاءَ الذي يحوِّلُ كومةَ الأحجارِ إلى قصر جميل، وشاهد النجارَ الذي يصنعُ من جذعٍ غليظِ خزانةً أنيقة...
وشاهد الفلاح الذي يحوِّلُ أرضه البَوار إلى جنَّةِ أشجارٍ وثمارٍ
شاهد وشاهد كثيراً من العمال، الذين يعمرون الوطن، ويسعدون البشر
- أوقفتِ الشجرةُ الحوار ، فالفرخُ عنيد، والكلامُ معه لا يفيد..
لم ينتهِ النزاعُ بينَ الفرخين ..
هذا ينقرُ بمنقاره، وذاك يخمشُ بأظافره..
تعبَ الفرخُ الأصغر.. رفع قشَّةً صلبةً، وضربَ أخاه الأكبر.. انتحى هذا جانباً.. أصابت القشةُ عين الفرخِ الأوسطِ، فبدأ يصرخُ متألّماً ..
جاءَهُ أخوه الأصغر، وأخذَ يعتذرُ إليه
وجاءَهُ أخوه الأكبر، وشرع يمسحُ له عينيه ..
وعندما سكنَ ألمهُ، تذكَّرَ قولَ الشجرة " لن ترتاحَ في عشٍّ يسودهُ النزاع "، فأصلح بين أخويه، واعتذرَ الصغيرُ لأخيه الكبير ،وقبَّلَ الكبير أخاه الصغير، وزالَ الخلافُ بينهم ،وعادَ الحبُّ إلى عشّهم ..
تعليق